إذاكانت العادات كاشفة عن مناط الحكم ، أو كانت هي نفسها مناطاً للحكم ، فإنها بذلك تكون محكمة ومعمول بها، لأنها كالقياس الذي يعد مظهراً غير مستقل، لأن الحكم المبني عليه مستند إلى النص الشرعي الذي كشف القياس عن علته .
ومع ذلك فالعادة تحكم فيما لا ضبط له شرعاً، وبما أن العادة مرادفة للعرف، عند كثير من الفقهاء، فإن كل عرف ورد النص بخلافه فهو غير معتبر، فلا حكم للعرف الفاسد، ولا عبرة بالعرف الطارئ .
وإنما التأثير والحكم للعرف الصحيح، مثل ماجرى زمن التابعين ومن بعدهم حيث كانت الأعراف والعادات ناجمة عن الأفكار والأحكام والمفاهيم الإسلامية وحدها، مما حمل بعض الفقهاء على الرجوع إليها لمعرفة بعض الأحكام، كالإمام مالك الذي استند في اجتهاداته على عمل أهل المدينة المنورة، الذين كانوا حريصين على الالتزام بالإسلام في كل شيء، فجاءت أحكامهم وفقاً للأدلة الشرعية الواردة في الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
وأما اليوم فإن الأعراف والعادات الموجودة لدى المسلمين قد فسدت، حيث نشأ أغلبها نتيجة لخليط من الأفكار والمفاهيم المتباينة ، والاحتكام إليها يعتبرفي الأغلب تحاكماً لغير الإسلام.
كما قال العلامة محمد مولود :
"فالعرف إن صادم أمر الباري وجب أن ينبذ بالبـــراري
إذ ليس بالمفيد جري العيـــــد بخلف أمر المبدئ المعيد."
لذلك انتبه بعض العلماء في هذا الزمن الصعب ، ممن يتسمون بالجرأة والدفاع عن السنة النبوية ، بالتصدي لظاهرة الركون للبدع والعادات والأعراف المخالفة للكتاب والسنة، متسلحين بقوله تعالى ((فليحذر الذين يخالفون عن آمره أن تصيبهم فتنة آويصيبهم عذاب آليم )) ، رغم ماينطوي عليه موقفهم هذا من مجابهة خطيرة مع ما استقرفي نفوس مجتمع غارق في وحل العادات المخالفة للنصوص الشرعية .
وخلال هذه المواجهة تميز على الأقل أحد أساطين الحركة العلمية في هذا البلد بتأليف العديد من الكتب المحذرة من هذا الإتجاه ، وهوالشيخ محمد يسلم ولد الشيخ محمد الخضر ولد الدمين : العالم المحقق والقاضي المدقق إذ كان نائبا لرئيس المحكمة العليا سابقا ، فضلا عن كونه شاعرا مجيدا ، وقطبا من أقطاب التصوف ، من بيت علم ومشيخة دينية ، ورث مجد والده العلمي والديني والإجتماعي ، لازال طودا شامخا في وجه البدع والعادات الدخيلة ، ومؤلفا غزير الإنتاج .
لقد أهداني هذا الشيخ قبل تسع سنوات ، كتابين من مؤلفاته هما: "إجابة المجموعات على رسالة الإجتماعات " والفتوى المسماة : "توجيه المجموعات القبلية إلى ما "يلزمهم" في أخذ الدية » .
والحقيقة أنني لم أقرأهما في تلك الفترة قراءة جيدة ، حتى تكررت الأحداث المتعلقة بأمور الدية ، فقمت بقراءتهما من جديد،خصوصا الكتاب الأخير : « توجيه المجموعات القبلية إلى ما "يلزمهم" في أخذ الدية » ، الذي استهله المؤلف بقوله:
" وبعد فسؤال عما تعوده بعض القبائل اليوم من منع ورثة من قتل منهم من أخذ ديته ممن يتوجه عليه إعطاؤها شرعا مع إلزام عاقلة المقتول دفع هذه الدية لورثته ، متذرعين لما منعوه بما جرى به عرفهم من استقباح اخذ الدية من الغير، حتى كان من يأخذها فى نظرهم ارتكب أبشع جرائم الخسة التى لايغسل عرضه من رذيلتها بحور الإيمان، ولاأنهار الرضوان.
فهل هذه العادة من السنن السيئة المعارضة للنصوص المعصومة ومفاهيم العقول السلمية ومن ثم فإنه يجب على كل من منحه الله من نور العقل ما يميز به بين حقيقة المصلحة والمفسدة ، والحسن والقبح ، أن ينبذ هذه العادة وينبذ رأى من يراها حسنة في أى مجتمع كان ، معتقدا أن الآخذ بها ممن يتناوله وعيد الحكم بغير ما أنزل الله تعالى وتحريم ما أحله بمجرد هواه الفاسد وفهم عقله الكاسد ، افتراء على الله تعالى ومتأكدا أن العمل بها لايدخل في أى مجال من مجالات المروءة ، وعليه لايمكن القول بسقوط مروءة مخالفها ولا بالقدح فى عدالته.
أوهي من السنن الحسنة فلا تتعارض مع صريح النص المعصوم بل هي داخلة في عموم النصوص المرغبة في العفو والإحسان وإيتاء القرابة والإخوان ومن ثم تكون من العرف المشروع الذي أمرنا الله تعالى بالأخذ به والذي جعله العلماء مستندا للكثير من أحكام الفقه ولاسيما أحكام المروءة « .
لقد وجدنا في هذا الكتاب إجابة شافية على هذا السؤال الذي نشترك مع المؤلف في طرحه لأنه هو موضوع مقالتنا هذه ، فقد استعرض المؤلف مايلزم من الأدلة الشرعية والعقلية والأخلاقية والتاريخية ، للبرهان على أن عادة منع الورثة من أخذ الدية من الجاني اوعاقلته وأخذها من عاقلة المقتول ،عادة سيئة للغاية لكونها معارضة للنصوص الشرعية .
وقبل أن نقتبس بعض الفقرات من هذا الكتاب النادر في المحتوى والجريء في الطرح ،أود أن نتعرف على الدية ومشروعيتها، والحكمة منها :
ـ الدية قبل الإسلام :
مرت الدية باعتبارها جزاء الفعل الضار، وبدل الإنتقام من الجاني ، بمراحل عديدة حتى تبلورت في صورتها النهائية بعد إقرار الشريعة الإسلامية للجانب الأهم منها ،وقد أمكن حصر تلك المراحل في مرحلتين متميزتين :
ـ مرحلة الدية الإختيارية :وهي مرحلة ما قبل الإسلام وفيها نجد العرب يحرمون طائفة من الأعمال ويعاقبون عليها وإذا وقعت جريمة من أحد الأفراد تتحمل القبيلة بأسرها تبعاتها ومسوليتها وكثيراً ما كانت الجرائم الفردية باعثاً لحروب طويلة
لذلك ظهرت الحاجة إلى الصلح بمقابل وكان الدافع لذلك الرغبة في السلام وسمي هذا المقابل عند العرب دية إلا أن الدية لم تكن على نسق واحد وإنما تتحكم فيها مكانة الجاني والمجني عليه ومكانة القبيلة المعتدية والمعتدى عليها.
غير أن الدية قبل الإسلام كانت تدفع عن جريمة القتل سواء كان خطأ أوعمدا ،حيث وجدنا في السيرة النبوية الشريفة أن أهل قريش جمعوا نفراً من كل قبيلة في مؤامرتهم التي حاولوا بموجبها قتل النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل خروجه للهجرة وكان هدفهم من ذلك هو أن دم الرسول صلى الله عليه وسلم سيتوزع بين القبائل فلن يكون أمام أهله آنذاك من بد إلا قبول الدية.
ـ مرحلة الدية الإجبارية : تعتبرالدية من العقوبات المالية التي فرضتها الشريعة الإسلامية ردعا للجناة وزجرا لهم وقد أوردت آيات القرآن الكريم بيانا تفصيليا لهذه العقوبة كما أوردت السنة النبوية شرحا تفصيليا لها ولمقاديرها.
ففي القرآن الكريم ((وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطئاً ومن قتل مؤمناً خطئاً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا…))
وفي الحديث الشريف (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يؤدي وإما أن يقاد).
ويستنتج من هذا أن العمد قود إلا أن يعفو ولي المقتول ، والخطأ عقل لاقود فيه .
ــ تعريف الدية :
الدية هي المال الذي يدفعه الجاني أوعاقلته للمجني عليه أو لورثته من بعده سواء كانت الجناية في النفس أو دونها ، وسواء كانت الجناية عمداً أو خطأ ، غيرأن ما دون النفس يمكن أن يسمى أرشاً أو دية على حد السواء، أما إذا لم تكن الدية مقدرة فهي حكومة، وتسمى الدية أيضاً "العقل" لأن القاتل كان يجمع الدية من الإبل، فيعقلها بفناء أولياء المقتول، ليسلمها إليهم.
لذلك يرى بعض الفقهاء أن "الدية عقوبة مالية تتمثل في مال يؤديه الجاني أو عاقلته إلى المجني عليه أو أوليائه وهي بهذا المعنى تتشابه مع خصائص الغرامة" لأن التشريع الجنائي الإسلامي لا يقتصر على عقوبات الحدود والقصاص فحسب وإنما تضمن بعض العقوبات المالية الزاجرة كالدية والأرش .
ـ الحكمة منها :
والحكمة من تشريع الدية هي حفظ الأرواح، وحقن دماء الأبرياء، والزجر، والردع عن الاستهانة بالأنفس،و تجنيب الأمة الإسلامية كافة بذور الحقد والانتقام ، لأن دفع الدية من طرف الجاني وعاقلته فيه ترضيه للمجني عليه وأوليائه حيث تشفى ما في نفوسهم من الألم والغيظ ، مع ما لانستطيع معرفة كنهه من الحكم الأخرى ، كما يقول الشيخ محمد يسلم في كتابه " توجيه المجموعات القبلية إلى ما يلزمهم في أخذ الدية" :" إن الدية في الجملة حد من حدود الله تعالى تطابق في استحسانه عقول العرب ونقولهم فنزل فيه الشرع مقررا لما أملاه عليهم الطبع .
ولاشك أن لله تعالى في الدية أحكاما وحكما لاتستطيع مخلوقاته معرفة كنهها وأن عليهم أن يسلموا لها مسلمين وأن ينقادوا لأمرها مستسلمين ، ومن ثم فإنه لايجوزتعدي ماحده الشرع في الدية من الأحكام بقواطع النصوص من كتاب وسنة وإجماع إلى مجرد العوائد الغابرة واستحسان العقول القاصرة .
وإذا تقررهذا فمن أحكام الدية الثابتة بقواطع النصوص أن أخذها لمن له أخذها وممن ألزمه الشرع بإعطائها ، مطلوب شرعا ، ومستحسن طبعا، وإن أمكن أن يقال أن التبرع بها ممن يملكها حيث يجوزله ذلك قد يكون في بعض الحالات أحسن ..فالدية على هذا من أطيب اصول الحلال وأخذها ـ حتى في قتل العمد ـ إما واجب أومن مستحسنات الخصال .
ومن الأحكام الثابتة لها كذلك أنها ملك خاص لورثة القتيل وحدهم وإن لم يكونوا من عاقلته ولا من قبيلته أصلا ،وأن المخاطب بدفعها إليهم عند لزومها هوإما القاتل نفسه في حالة القتل العمد أوعاقلته في حالة القتل الخطأ ، ولاحق لعاقلة المقتول غيرالوارثين ولا عليهم في أخذ الدية ولا في إعطائها أصلا .
ومن أحكامها كذلك أن لراشدي الورثة أن يتصدقوا بها على من لزمته حسب ماتسمح به النصوص في أحكام التبرع بالمال المعروفة ، وأن لولي القاصرمن الورثة أن ينظرله في الأصلح من أخذ الدية ومن القصاص إذا كان القتل عمدا، ويتعين عليه وعلى القاتل فعل الأصلح من ذلك .
أما إذاكانت الدية عن خطأ فيتعين على الولي أخذ الدية كاملة ولايصالح على أقل منها ، إلا إذا خشي ضررا أكثر من فوات ماتركه منها .
وقد عكست العادة المسؤول عنها هذه الأحكام كلها ، فمنعت ورثة القتيل من أخذ ديته ممن ألزمه الشرع بها وألزمتها للمقتول في الحقيقة إذ ألزمت بها عاقلته ، والأصل أن العاقلة لاتتحمل إلا ماكان لازما للمعقول عنه ..مع ما ألزمته العادة في ذلك من منة الرجال ومذمة السؤال ،ومع ما قد يضيع من الدية لغيرشيء »
وبما أن هذا الكتاب انطلق من أصلين هما : النصوص المعصومة ، ومستحسنات العقول والأعراف التي ثبت لها الحسن بنصوص الشرع ، لذلك سنقتبس منه فقرات وفق مايسمح به قالب هذا الموضوع ، رغم أن هذه الإقتباسات ستبقى مبتورة ومشوهة إلى حد ما لهذا الكتاب الجليل ، مثل ما يحدث عادة أثناء نقل الإستشهادات والفقرات من الكتب المترابطة الأفكار، ومع ذلك فإن هذه المعالجة برمتها سوف تكون ناجحة إذا استطاعت أن تسلط الضوء على هذا الكتاب الذي تتطابق أفكاره مع موضوع مقالتنا هذه، سيما أن مؤلف هذا الكتاب لم يكن عالما فحسب وإنما هو أحد أعيان قبيلته الميدانيين الذين يعالجون قضايا القتل والدية ،وله رؤية واضحة وقديمة في هذا الشأن .
ـ التعصب مع القاتل هدر للدماء وتشجيع للقتل :
رغم أن قانون العقوبات الموريتاني الصادر سنة 1983 أكد في المادة 295 على أن " كل من قتل خطأ .. يعاقب بالدية .." فإن عادة منع الورثة من أخذ الدية من الجاني اوعاقلته وأخذها من عاقلة المقتول ،وترك القاتل عمدا يذهب بدون قود بلا مبرر، سيبقى خطرها كبير جدا على المجتمع ، لما في ذلك من هدر للدماء وتشجيع للظلمة على زهق أرواح الأبرياء ، كما يقول الشيخ محمد يسلم في كتابه « توجيه المجموعات القبلية إلى ما يلزمهم في أخذ الدية" :" أما وجه كونه إهدارا للدم فلأن ما يؤخذ من الدية إنما تعطيه عاقلة المقتول لبعض عاقلته من ورثته فمضرته مقتصرة عليها سواء الدافع منها والآخذ ، أما الدافع فيتضرر باستهلاك ماله في الإنفاق على غيره مباشرة ، وأما الآخذ فيتضرر من منة المعطي التي صرحوا بأنها تسقط وجوب الوضوء إن لم يوجد ثمنه إلا بالهبة ، بالإضافة إلى أن من وهبوه هم أصحاب كفالته الإجتماعية في كل نوائبه الزمنية ، فكل تضررهم المالي يتضرر به ، إذ قد يصير بهم الضرر إلى أن يعجزوا عن لوازم التكافل الإجتماعي من عقل وغيره ، وفي ذلك ضرر عليه وعلى كل عاقلته .ولا ضرر على القاتل فيما تدفعه عاقلة المقتول لورثته لا في الحس ، إذ لم ينفق فيه شيئا من ممتلكاته ولا في المعنى إذ لم يعط موادة له ولا صدقة عليه ..
وأما وجه كونه تشجيعا للظلمة على القتل ، فإن من علم بعادتهم أن من قتل منهم يغرمون ديته لأهله عن قاتله هان على الظلمة سفك دمائهم ، لاسيما إذا عرفوا أن حد القصاص لايقام عليهم ..
فكأن أصحاب هذه العادة تعصبوا مع أعدائهم ممن لا تربطه بهم عاقلة على قتلهم عمدا..وقد اتفق العلماء على منع التعصب على قتل العمد فيما بين العاقلة الواحدة فكيف به فيما بينها وبين من لا يربطها به علاقة عصب ولا تحالف .
كما اتفقوا على أن دية العمد حد في الجملة لإجماعهم على حرمة إهداردم المسلم بدون مقابل من قصاص ودية ، إلا إذا تطوع أولياء الدم بالعفو مجانا ..
وإذا كانت حدا من حدود الله تعالى في حالة تعينها ، فإن أصحاب هذه العادة أجمعوا على خلاف المجمع عليه من وجوب إقامة حدود الله تعالى وحرمة الشفاعة إلى الأئمة فيها أو العفوعنها إلا لمن استثنى الله له ذلك من أولياء الدم في مسالة قتل العمد خاصة « .
الدية حد من حدود الله وأحكامها خارجة عن القياس :
إذا كانت دية العمد حد من حدود الله تعالى مع كونها عقوبة بديلة في حالة سقوط القصاص ،كمارأينا من قبل ، فإن العلماء قد أجمعوا على أن دية القتل والجرح شبه العمد ، والخطأ حد من حدود الله تعالى لكونها دينا منجما على ثلاث سنين وعقوبة أصلية ثابتة معروفة القدر والصفة لايجوزإدخال تبديل أوتعديل في أحكامها لأن فيها زجر وفيها ردع يكف الجناة ويحمي نفوس الناس ، قال تعالى : ((إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين)) ((ومن يتعد حدود الله فقدظلم نفسه )) .. يقول الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية :
« الحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع على ارتكاب ما حظر وترك ما أمر ..فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حظراً من ألم العقوبة ..وليكون ما حظر ممنوعاً وما أمر به من فروضه متبوعاً فتكون المصلحة أعم والتكليف أتم »
ومع ذلك فأصحاب هذه العادة يشرعون على الله بغيرإذن ، إذ لامعنى للتحريم أكثر من النهي الجازم المتوعد عليه بالعقاب ، في حالة أخذ الدية ممن ألزمته ، وإيجاب إعطائها ممن لم يلزمه الشرع بذلك ، وقد أكد الفقهاء على أن هذا الإجراء يعتبر تحريما لما أحل الله فضلا عن كونه نسخا للشرع بالعوائد ،التي لم ينتبه أصحابها أن أحكام الدية خارجة عن القياس كإلزام عاقلة القاتل بالدية على خلاف قاعدة ((ولاتزر وازرة وزر أخرى)) وأحكام القسامة .
وإذا كان أصحاب هذه العادة يعتبرون أن ما يقومون به هو من باب التطوعات الخيرية ،ويخدم العزة والكرامة ، فإن من لم تلزمهم الدية لا يدفعونها إلا وهم كارهون ، خشية من العارالمزعوم ، وهذا يتناقض مع الحديث الصحيح : (لايحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس ).
ومع ذلك فإن من لم تلزمهم الدية شرعا قدلايعطون منها شيئا ، وإن هموا بدفعها لأصحابها فسوف تكون ناقصة عن المحدود للدية الشرعية ، لأن المتطوع أكثر تساهلا من المفترض .
وأما العزة والكرامة والمروءة فلا يمكن ربطهم بالأعراف والعوائد الفاسدة والقبيحة شرعا، لأن ما أمرت به الشريعة الإسلامية واختاره لنا أفضل خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم ،الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاق فهوالحسن ، لذلك يقول صاحب الإضاءة :
وما لعقل وحده توصــــــل إلى قبيح أو إلى ما يجمـل
بل بما بفعله أمرنا فالحسن وضده انقاد لقبح بالرسن
ثم إنه ليس من دلائل ضعف شوكة القبيلة ولامن دلائل التفريط في كرامتها ، أنها تأخذ الدية من قبيلة أخرى ، فقد وجدنا في أيام العرب أن قبيلة عبس التي هي إحدى جمرات العرب أخذت الدية من قبيلة ذبيان بعد حربهما الطويلة المعروفة بحرب داحس والغبراء ،وقد تكفل بهذه الدية:هرم بن سنان والحارث بن عوف عن قبيلتهما ذبيان ،وفي ذلك يقول زهيربن أبي سلمى المعروف بصداقته لذبيان :
تداركتما الأحلاف قد ثل عرشهم وذبيان قد زلت بأقدامها النــــعل
فأصبحتمامنها على خير موطــن سبيلكما فيه وإن أحزنوا ســــهل
ويفهم من هذا أن عبسا كانت لها الغلبة لأن الشاعريعتبرأن قبيلة ذبيان زلت أقدامها في هذه الحرب ،التي كادت أن تقضي على القبيلتين ، وهو ما يستوجب مدح من سعى في الصلح ، لذلك فإن زهير قد سجل وقائع هذه الحرب وبالغ في مدح هرم بن سنان والحارث بن عوف في معلقته المشهورة ، التي يقول فيها :
يمينا لنعم السيدان وجدتما على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبسا وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشـم.
تصنيف: