عدت إلى أطار / بقلم : ديدي ولد محمد (ضابط سابق)

لكنني لم أعد ذلك المتدرب الذي شدّ رحاله ذات صباح مشمس، بزهو البزة العسكرية أحمل في عيوني صرامة الانضباط، وفي روحي أحلام فجر جديد
كل زاوية مررت بها فتحت لي صندوقًا من الذكريات، فيها وجوه أصدقاءٍ لم ينل منهم الغياب، وأحلامٌ ما زالت ترفرف في أفق القلب. عدتُ إلى أطار.....، وعدتُ إلى نفسي... إلى ذلك الفتى الذي لم يغادر المكان، بل بقي بين تلك الجبال يحرس أحلامه القديمة تحت ظلال الزمن
عدتُ إلى أطار.......، لا جنديًا يحمل السلاح، بل مدنيًا يحمل ذاكرة أثقل من كل دروع الدنيا. كانت المهمة قصيرة، أما الرحلة التي خضتها بين أروقة الذكرى فكانت أطول مما تحتمله الأيام
أماطيل وكأن الأرض هناك ما زالت تحفظ الأوامر في ترابها ذلك الفضاء الهادئ الذي كان ملاذنا للمشي ليلًا، حين تتثاقل الهموم على صدورنا، ولا نجد للراحة سبيلًا إلا في سكون الليل وأحاديث الروح تحت أستار السماء.
حمدون فكان للمكان نبضٌ خاص حيث تعلمنا فنون القتال، وتذوقنا لأول مرة معنى الحذر والترقب بين تلك الصخور وكأن الأرض نفسها كانت تخبئ أنفاسنا تحتها حتى تمر اللحظة، ولا زالت أعونات الملس تهمس لي هنا كنت تختبر صبرك، وتصنع شجاعتك كم انتظرنا فلول العدو القادم من حاسي عكَي
     دخلت المدينة من بوابتها القديمة، كأنني أعبر بابًا من الزمن لم تعد المدينة كما نعرفها تغيرت ملامحها حتى كدنا لا نعرف مدخها الذي يحمل ذلك الدفء الذي الفناه ولا حتى الانسان الذي كان ينسج احلامه بعرق الجبين، مضى زمن الرجال الذين كانوا يحملون الشمس فوق اكتافهم كل صباح يعملون يحبون الأرض يفرحون بالقليل، واليوم تاهت الوجوه خلف شاشات زجاجية مسكونة بضجيج العولمة وأوهامها فغدت الأرواح تلهث خلف السراب وقد غاب عنها النبض الذي كان يصنع الحياة. 
وبينما كنت في أحد فنادق المدينة، جاءني من يُخبرني أن سيارة عسكرية تنتظرني في الخارج، فإذا برفيق الدرب الذي تقاسمت معه حياة الصبا وبراءة الأيام، عَلِم أنني في المدينة وأمره القائد الفذ المرحوم الجنرال الداه ولد محمد العاقب بإحضاري إلى مكتبه… ولم يكن مجرد أمر عسكري، بل دعوة وفاء لا تعرف التقادم.
لم يكن ذلك الجنرال زميلي ولا رفيق دفعة، بل قامةٌ عسكرية سامقة، سبق أن تولّى قيادة سريتي ذات يوم -دفعة 20- من الطلبة الضباط.
ومع ذلك، أمر بإحضاري إلى مكتبه
ولم يكن مجرد أمر بروتوكولي، بل لفتة إنسانية نادرة، من قائدٍ يعرف كيف يزرع الودّ بين معلم وتلميذ 
دخلت عليه وأنا أحمل بين يديَّ العمر الذي مضى، فعانقني بصدرٍ لم يتغير، وبعينٍ ما زالت تعرف أن ترى الرجال لا بالمظهر، بل بما حملوه من وفاء
رحل بعد ذلك، ولكن ذكراه لم ترحل
رحم الله ذلك القائد، صاحب القلب الكبير والذاكرة التي لا تُفرط في أبنائها
وفي تلك الزيارة، لم تكن الرحلة رحلة مكان فقط، بل رحلة روح 
وقفتُ أمام السكن الذي احتضن ليالي التعب 
لمستُ جدران قاعات الدروس، التي شهدت ولادة الحلم الكبير
تنفستُ رائحة المطعم، حيث كانت وجباتنا مغموسة بالتعب، ومحلّاة بابتسامات الصبر
كل زاوية كانت تحكي، كل باب كان يعرفني، كل ركن يُخفي قطعة من شبابي الذي مرّ سريعًا، لكنه لم يُمحَ
كأنني أعود بقلبي لا بقدمي، "وجِئْتُ أَحْمِلُ تَارِيخِي عَلى كَتِفِي... وكُلُّ حَقَائِبِي فِيهَا زُفَافَاتُ"
بيتٌ ليس عن العشق، بل عن عشقٍ من نوعٍ آخر… عشق الأيام التي صنعتني، وصاغت بداياتي، قبل أن تأخذني الحياة إلى جهةٍ أخرى من العالم
أدركت حينها أن بعض الأماكن لا تُغادرنا، حتى وإن غادرناها
وأن الزمالة التي تُبنى في التعب، لا تُمحى بسهولة من القلب، ولا تُستبدل
وأن التحول إلى الحياة المدنية، مهما بدا واسع الأفق يبقى أحيانًا بلا ملامح إن لم تحمله ذاكرة رفاقٍ تقاسموا معك الحلو والمر
كانت تلك الرحلة أشبه برجعة الروح إلى الجسد الأول.
تحياتي

تصنيف: 

دخول المستخدم