ترتبط موريتانيا ومصر بعلاقات تاريخية بدأت مع السنوات الأولى لاستقلال موريتانيا والنشاط الدبلوماسي المبكر الذي اضطلع به الرئيس المختار ولد داداه، واهتمام جمال عبد الناصر بموريتانيا وتاريخها الثقافي والتوجه العروبي والحس القومي والوحدوي للكثير من نخبها آنذاك، وذلك قبل العزلة العربية التي عرفتها مصر على إثر "اتفاقية كامب ديفد "، والعزلة الإفريقية التي اختارتها لنفسها بعد ذلك وتوليتها وجهها شطر الغرب والخليج العربي، بعيدا عن عمقها الإفريقي واستثمار الصيت والثقل الكبيرين الذين تركهما لها الزعيم جمال عبد الناصر في القارة الإفريقية، وقابل ذلك أيضا ما شهدته موريتانيا من اضطرابات سياسية ابتداء من نهاية سبعينات القرن الماضي وإلى غاية نهاية الثمانينات منه، ومن ثم تقوقع وانكماش النظام الذي قادها بعد ذلك على نفسه وسباته الدبلوماسي طيلة عقدين.
"فبأي منطق يكون لبعض القوى السياسية الأخرى الحق في إملاء من يجب على موريتانيا إقامة وتوطيد العلاقات معه من الدول، ومن يجب عليها مخاصمته والدخول معه في صراع ومجابهة؟!"
لكن يبدو أن الظروف قد سنحت اليوم لاستعادة تلك العلاقات لحيويتها على ضوء تنبه مصر لخطورة " استصغارها " لإفريقيا وغيابها عن ساحتها من ناحية، ومن ناحية أخرى استعادة موريتانيا لدورها الدبلوماسي والمكانة والدور الذين فرضتهما لنفسها في إفريقيا والعالم، مما مكنها من رد بعض جميل مصر التاريخي، من خلال مساعيها ونجاحها في تسريع عودتها لعضوية الاتحاد الإفريقي بعد تعليقها على إثر الإطاحة بالرئيس محمد مرسي.
قبل سنوات ثار الشعب المصري على نظام الرئيس حسني مبارك وأسقطه، وتولى الجيش قيادة البلاد مؤقتا، وهذا شأن داخلي مصري، ثم جريت انتخابات رئاسية أوصلت محمد مرسي لكرسي الرئاسة، وبمجرد إعلان فوزه رئيسا وصلته برقية تهنئة من رئيس الجمهورية (الموريتاني) عبر له خلالها عن تمنياته له بالتوفيق، وأكد له استعداده للعمل معه في كل ما من شأنه تعزيز وتطوير علاقات الأخوة والتعاون بين البلدين.
كما لبى رئيس الجمهورية ( محمد ولد عبد العزيز) بعد ذلك دعوة الرئيس محمد مرسي لحضور قمة منظمة التعاون الإسلامي المنعقدة بالقاهرة يناير 2013، ولم يفوت فرصة وجودهما في محفل إقليمي للالتقاء به وتجديد استعداده للعمل معه فيما يخدم تطوير العلاقات بين البلدين كما حدث في أديس أبابا وغيرها، ولم يعترض أي من الأحزاب والشخصيات الوطنية الكثيرة التي تتعارض في الفكر مع النظام الجديد في مصر على الاتصالات واللقاءات الرسمية الموريتانية معه، لأنها تدرك أن لها حدود مجالها الذي تعمل فيه، وأنها ليست هي من يوجه السياسة الخارجية للبلاد رغم أن بعضها شريك في الحكم، فبأي منطق يكون لبعض القوى السياسية الأخرى الحق في إملاء من يجب على موريتانيا إقامة وتوطيد العلاقات معه من الدول، ومن يجب عليها مخاصمته والدخول معه في صراع ومجابهة؟!
ثار الشعب المصري ثانية على رئيسه محمد مرسي فعزله الجيش وتولى قيادة البلاد، ونظمت انتخابات رئاسية اختار فيها المصريون الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيسا لمصر، أو فرض نفسه عليهم أو نصبوه رئيسا أو ملكا أو امبراطورا.. وهذا أيضا لا يزال شأنا مصريا داخليا، كما سيظل شأنا مصريا داخليا بقاء السيسي في الحكم، أو إسقاطه وتولي نظام مصري آخر غيره، ستمد له موريتانيا يد التعاون بمجرد أن يمد لها تلك اليد.
"لسنا"هيومن رايس ووتش " ولا "معهد كارتر..." (...) ولسنا نادمين على نهجنا السلمي والمسالم" .
نحن لسنا شرطي عالم، ولسنا الأمم المتحدة ولا منظمة " هيومن رايس ووتش " ولا معهد كارتر لتعزيز الديمقراطية وشفافية الانتخابات.. ولم نكن يوما في تاريخنا، ولا نسعى لأن نكون ذلك البلد المشاكس المزعج الذي يخشى ويحذر البعيد والقريب مكائده وتدخلاته، ويُشار إليه بالأصابع في كل مشكلات واضطرابات تحدث هنا أو هناك، ولدينا في أنفسنا وفي بلدنا من التحديات ما يشغلنا عن التدخلات في شؤون الآخرين، ولسنا نادمين على نهجنا السلمي والمسالم.. كما أن الديمقراطية والحرية والكرامة والعدالة والمساواة في مصر، وشكل وطبيعة الحكم ومحاسبته وخلعه وقبوله أو رفضه، هي من مهام وشؤون وصلاحيات التسعين مليون مصري، وليس الثلاثة ملايين موريتاني.
ولن يتحقق حسن الجوار في حي إذا كان كل أهل بيت فيه يمسون ويصبحون على جيرانهم ليعرفوا ماذا أكلوا بالأمس أو البارحة، وهل يصلون ويصومون، ولماذا لا يجعلوا باب غرفة نومهم للشرق وصالونهم للشمال، وما هي العلاقة بين أفراد الأسرة، وهل الزوج متزوج على زوجته، ولماذا ضربوا أبناءهم أو لماذا دللوهم..؟ إذ لم يقر الشرع ذلك ولم تقره الأعراف ولا حتى الحصافة والذوق السليم، ومن ذلك استمدت الأمم ما يحفظ علاقتها ببعضها وسنت القوانين المنظمة للعلاقات الدولية باعتبارها مجرد أسر كبيرة متجاورة تتعاون وتتواصل، لكن في حدود احترام الخصوصية والسيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض.
هناك بلدان تمتلك المال والسلاح، أو النفوذ في مجلس الأمن وتبيح لنفسها أن تتدخل في هذا البلد أو ذاك، وتخلق وتدعم المعارضات هنا وهناك، أو تدعم هذا النظام إذا ضمن لها مصالحها، وتعادي و تسقط ذاك إذا عارض أو تصدى لتلك المصالح؟ نعم، لكننا لسنا من تلك البلدان، وحتى المال وتكويم السلاح المستورد، قد تبين لبعض بلدان المنطقة أنهما لا يكفيان وحدهما للتمدد وتحقيق الطموحات الأكبر من حقيقتها وحجمها وقدراتها، فبدأت تلك البلدان اليوم تراجع حساباتها للتخلص من الأعباء السياسية والمالية والإعلامية التي جلبت لها الأضرار بعد أن راكمتها على نفسها دون القدرة على حملها وتحملها..!
"نحن أيضا لم نسأل الرئيس التركي، ولم نعاتبه على طوافه بحدودنا في زيارات لكل جيراننا وعدم زيارتنا"
ولا نعتقد أن الرئيس الموريتاني برمج أصلا زيارته لمصر وألمانيا وفرنسا، بهدف خلق مبرر للتغيب عن حضور قمة في تركيا التي لم تكن تعرف عنا شيئا ولم تكن تربطنا بها علاقات، وهو من زارها سنة 2010 وأقام معها العلاقات الدبلوماسية لأول مرة، وفتح أمامها مجالات التعاون في شتى المجالات، في الشؤون الدينية والتجارية والنقل الجوي والاستثمار.. والنظام الذي أقام معه تلك العلاقات وفتح أمامه تلك المجالات، هو نفسه النظام الذي لا زال حاكما في تركيا اليوم، بفكره وتوجهاته وسياساته واستراتيجياته التي لا تعنيننا ما دامت لا تشكل خطرا علينا أو تدخلا في شؤوننا، وفي الوقت الذي نتكلم فيه يوجد وزير من الحكومة التركية في زيارة لبلادنا، يتجول بين القطاعات الوزارية الموريتانية لبحث مختلف أوجه التعاون بين البلدين اللذين يمكنهما تطوير تعاونهما مع الإبقاء على نظرة وموقف كل منهما من القضايا الأخرى..ولا توجد، حتى الآن، مؤشرات ولا معطيات توحي بأن قمة تركيا ستكون حاسمة أكثر مما سبقها من قمم صدرت عنها قرارات وبيانات حول عالم إسلامي كان منقسما ولا يزال، ولا زالت تلك القرارات والبيانات على الرفوف، إلا إذا كان هناك من يعتبر مجرد انعقادها هناك حسما في حد ذاته، وسوف نرى!
نحن أيضا لم نسأل الرئيس التركي، ولم نعاتبه على طوافه بحدودنا في زيارات لكل جيراننا وعدم زيارتنا، ولم أطلع أيضا على عتاب أو مساءلة له ممن يعاتب قيادتنا اليوم على التغيب عن قمة في بلاده له الحق في حضورها، أو إرسال من ينوبه فيها كما يحدث في أكثر من قمة ومؤتمر كان آخرها قمة جاركتا الإسلامية قبل أشهر.. حضور الرئيس الموريتاني إذن لقمة تركيا واجب بالكتاب والسنة والقياس والإجماع، وزيارة الرئيس التركي لبلادنا أمر فيه خلاف بين الندب والاستحباب؟! لا نتقاسم هذه القناعة مع من يتبناها أو يروج لها.. ثم إن العالم ظل منذ نشأة الدنيا، وسيبقى، محاور وأحلافا تديرها وتبلورها المصالح والمواقف والأحداث، ولينظر كل بلد أين توجد مصالحه ليكون في الحلف أو المحور الذي يلبي مصالحه ويضمن أمنه واستقراره. فأين الغرابة ولم الاستغراب من ذلك والفرقاء في البلد الواحد هم أيضا محاور وأحلافا ورؤى ومواقف وإيديولوجيات، ويرى كل منهم أن محوره وحلفه ورؤاه ومواقفه هي الصراط المستقيم؟!
"الرئيس (عزيز) لا يزور السيسي، بل يزور بلدا عربيا كبيرا وعظيما..."
الرئيس كذلك في زيارته لمصر لا يزور السيسي، بل يزور بلدا عربيا كبيرا وعظيما برجالاته وعظمائه وتاريخه وحضارته التي سبقت السيسي بسبعة آلاف عام وستعقبه إلى ما شاء الله، لكن السيسي اليوم هو من يقود هذا البلد، ونحن نتعامل رسميا مع الأنظمة والحكومات القائمة لا مع الأحزاب والتنظيمات، كما أن النظام والحكومة المصريين يتعاملان رسميا مع نظام وحكومة موريتانيا لا مع أحزابها وتنظيماتها، لأن الله تعالى يقول ( واتوا البيوت من أبوابها ) وأبواب الدول اليوم هم قادتها وحكوماتها، وحتى قديما، في أول دولة للإسلام، كان قائد تلك الدولة محمد عليه الصلاة والسلام وخلفاؤه يتعاملون مع الأمم الأخرى، حتى الكافرة منها، من خلال ملوكها وقياصرتها.. وهذه أمور لشدة بداهتها وإدراك وتعارف الجميع عليها، قد يكون قولها أو التذكير بها مبتذلا، لكن ما العمل إذا كان البعض يُخضع الثوابت والبديهيات لمزاجه ويتعمد " أكل الأونطة " بل وإطعامها للآخرين؟!
لا شك أن بمصر من المعالم ما يستحق الزيارة والاستمتاع، وقد زرنا تلك المعالم بصفتنا أشخاصا عاديين، فزرنا جامع الأزهر، وأهرامات الجيزة وأبي الهول، وجبل المقطم، وقلعة صلاح الدين، ومسجد عمرو بن العاص، ومسجد محمد علي، والمتحف الإسلامي، والمتحف القبطي، والمتحف الفرعوني، ودار الأوبرا، وضريح جمال عبد الناصر، وخان الخليلي، والسيدة زينب، وميدان التحرير، ومحطات مترو الأنفاق، وشربنا القهوة في مقهى الطابق العلوي لبرج القاهرة.. لكن بصفتنا زوارا عاديين لديهم الوقت ولسنا رئيس دولة في زيارة عمل ليومين مضغوط الوقت بالمواعيد والمهام، وليس سائحا ولا باحث أو منقب آثار.. رتب له ابروتكوله ما يرغب فعلا في زيارته والاطلاع عليه ولم يسخروا منه، فتجول فعلا بين الأبقار والكتاكيت لأنه قائد بلد متخلف جدا في مثل هذه المجالات المفيدة للناس وللاقتصاد وتحسين ظروف العيش، وترك خلفه في بلده تجارب لها يريد الاطلاع على مثيلاتها لإغنائها والاستفادة من خبرات القيمين عليها، والتقى عديد الشخصيات من مديري ورؤساء المؤسسات المالية والخدمية العربية التي ظل دورها غائبا عنا بفعل غيابنا وتقاعسنا، وتحتاج هذه المؤسسات لمن يعرفها بموريتانيا ومقدراتها وحاجياتها، ويقطع خطوات نحوها لكي تقطع خطوة إليه..
"قصة الأب والإبن والحمار"
وكان الرئيس دائم الحرص، في كل زيارة لبلد أجنبي، على زيارة مراكز الخبرة والمنشآت الإنتاجية والصناعية لمعرفة ما يمكن لموريتانيا الاستفادة منه فنيا واقتصاديا منها، فزار الصين وحرص على زيارة المراكز العاملة في صناعة وتطوير تقنيات الطاقات المتجددة لأن موريتانيا غنية بهذه الموارد وبادئة في استغلالها، وزار السودان قبل ذلك وحرص على زيارة مصنع السكر بها فوقع اتفاقا تعاون معها، وعاد وأسس لمصنع مماثل ها هو اليوم في مراحل متقدمة، وزار الإمارات قبل ذلك وحرص على الاطلاع على تجاربها في مجال تقنيات التحسين الوراثي لسلالات الإبل، لأن موريتانيا هي ثاني بلد في العالم من حيث عدد الرؤوس من هذه الثروة، وعاد وأسس لمركز مختص في هذا المجال تم تجهيزه، وها هم فنيوه الآن يخضعون للتكوين داخليا وخارجيا استعدادا لبدء عمله ونقل الأجنة له من المركز الأم في الإمارات. أذلك أهم وأكثر مردودية لموريتانيا أم تجول الرئيس بين المعالم والآثار؟! نحن متأكدون من أنه لو كان اقتصر على زيارة المعالم والآثار لقُلبت الآية ولتعرض لنفس التهكم والانتقاد، كما حدث مع الأب وابنه وحمارهما في قصتهما المشهورة، ركب الأبن الحمار وسار الأب على رجليه فاتهم الابن بالعقوق، فركب الأب وسار الابن فاتهم الأب بفقد الحنان، فركبا عليه معا فاتهما بقساوة القلب وغياب الشفقة على الحمار، فنزلا عنه وسارا خلفه فاتهما بالبخل، فما كان منهما إلا أن حملاه على رقبتيهما..!
محمدو ولد البخاري عابدين
تصنيف: