لحسن: هذه الممارسات التي انتهجها النظام حين ذاك، ووصفتموها بأنها قمع جابه به احتجاجات اتحاد العمال وغيره.. هل يمكن اعتبارها محاولة من النظام لحماية المصالح الفرنسية داخل موريتانيا؟
ذ. إشدو: سأجيبك عن هذا السؤال انطلاقا من المرحلة الثانية التي كانت معركة تصفية الاستعمار الجديد.
بعد النضالات التي تحدثت عنها، وبعد تبرئة القادة النقابيين وبعض القادة السياسيين في محاكمة الثامن عشر من مايو، وقع شبه هدنة كان فرصة للتفكير، وربما للتغيير أيضا؛ فقد وقع ما يمكن اعتباره أزمة سياسية، فما هي الأزمة السياسية؟
الأزمة السياسية (وقد تسمى أزمة ثورية) هي أن يكون المحكومون رافضين أن يُحكَموا والحكام عاجزين عن الحكم، وقد وقع أكثر هذا في عموم البلاد، فانعدم الاستقرار وانتشرت حالة من الرفض جسدتها المظاهرات والأغاني والاحتجاجات والإضرابات.
في هذه المرحلة وقع إضراب ثان في "ميفارما" احتجاجا على ممارساتها الاستغلالية العنصرية غير الإنسانية التي سبق ذكرها. وفي هذه المرحلة ارتأى النظام أن يغير لسببين:
1. نمو الحركة الوطنية واتساع احتجاجاتها ووجاهة مطالبها.
2. لطبيعته هو المتمثلة في عدم كونه مجرد نظام عميل للاستعمار مدافع عنه فقط؛ وإنما كان مزدوج الطبيعة وسطيا يأخذ من هنا وهناك، ويعطي من هنا وهناك.
فاتجه إلى توسيع دائرته لتشمل مجموعة من الأطر يسمون التكنو قراط بعضهم قريب عهد بالتخرج والبعض كان هنا. من هؤلاء من دخل الحكومة كالشيخ عبد الله ولد بيه، وكان عنصر ذكاء وإصلاح وخبرة. ودخلها الأستاذ محمذن ولد باباه وقد سبق أن تحدثنا عنه. ودخلها عبد الله ولد اباه رحمة الله عليه، ودخلها سيدي ولد الشيخ عبد الله وحمدي ولد مكناس. وقبيل تلك الفترة أو فيها دخلها أحد الذين كانوا يعارضون يمين حزب الشعب في لبراكنه: أحمد ولد أعمر رحمه الله.
وبهذا اتسعت دائرة النظام لتشمل عناصر أكثر انفتاحا وأكثر وطنية وأكثر إصغاء للمطالب الشعبية وأكثر معرفة وخبرة، وبضغط هذه العناصر مع ضغط الحركة التي تحدثنا عنها وقعت الإصلاحات التي منها مراجعة الاتفاقيات مع فرنسا وإنشاء عملة وطنية.
نقد ذاتي
هنا لا بد من التوقف، من طرفي أنا، وأظن أن زملائي الآخرين سيفعلون مثل ما أفعل، لتسجيل نقد ذاتي للحركة في تلك الفترة؛ فهذه الحركة في تلك الأيام لم تفهم طبيعة ما جرى، من تحول جديد، ولم تفهم كما ينبغي قيمة هذه الإجراءات. وأذكر أننا في "صيحة المظلوم" – وهي لسان الحركة يومئذ- نددنا بهذه الإصلاحات واعتبرناها ذرا للرماد في العيون.. ونحن في الحقيقة إنما كنا نكرر خطأ وقعت فيه النهضة قبلنا، وكرر آخرون خطأنا نحن والنهضة أيضا بعد ذلك في الثالث من أغسطس 2005 وعند وصول الرئيس محمد ولد عبد العزيز إلى الحكم.
فالنهضة عند ما استقلت البلاد لم تفهم معنى ما حدث بسرعة، وإن فهمته لاحقا، فلم تسع للتكيف معه ووضع سياسة ملائمة إلا سنة 1961 بعد ما سجن قادتها في تشيت وتطورت الأمور.. حينها قبلت الحوار والجلوس إلى طاولة مستديرة مع النظام.
نحن أيضا لم نفهم الأمور الجديدة وسخرنا منها سخرية ولم نر فيها أكثر من ذر للرماد في العيون. ما حدث هو أن فئة اجتماعية تختلف عنا أخذت برنامجنا وبدأت تطبيقه دوننا. اختطفت شعاراتنا وبرنامجنا! كان علينا أن نقول: نعم لما وقع مما هو حسن، لا لعدم وقوع ما بقي؛ فهذا ما كنا نسعى إليه.. ذلك ما كنا نبغي.
دخلنا في صراع جديد مع النظام الذي ظهر بوجه جديد وبدأ توجها وطنيا فألغى الاتفاقات المذلة مع فرنسا، وأنشأ عملة وطنية قبل جميع دول إفريقيا الغربية، وهي أحد عوامل الاستقلال الاقتصادي.
من باب الموضوعية كان ينبغي أن نرحب بما تحقق ونقول: نعم، ولكن بقي كذا وكذا وكذا.. ومن الضروري إنجازه.
في هذا الصراع وقعت مماحكات بيننا وبين النظام، وصلنا فيها إلى أخطر نقطة.
لحسن: الصراع الذي حدث كان نتيجة لعدم فهمكم للإجراءات التي اتخذها النظام، أم لإصراركم على أن تكون هذه الإجراءات من طرفكم أو عن طريقكم؟
ذ. إشدو: كان نتيجة لتطرف يساري صبياني! لم نفهم في الوقت المناسب معنى ما جرى، ولم نفهم في الوقت المناسب طبيعة النظام، ولم نطرح في الوقت المناسب السياسة الملائمة، وأوصلَنا هذا إلى أخطر المراحل كما سأحدثك عنه.
في شهر مارس أو إبريل من سنة 1973 اجتمعت قيادتنا وقررت الهروب إلى الأمام (بعض الناس لا يعرف هذا) وتمثل ذلك في إعلان النضال المسلح ضد النظام، كان هذا قرار الأغلبية، وقد رفضت قلة هذا النهج.
نضال مسلح من لا شيء.. من فراغ، اتُّخِذ قراره من كوخ (تيكيت) في السنغال من طرف قادة مطاردين! لم تكن لدينا أية وسيلة له مهما كانت. الهروب إلى الأمام أمر وارد في مسارات الحركات السياسية. وأعتقد أن النهضة – أو بعض فصائلها- قررت مثل هذا؛ فالذين اعتقلوا على خلفية "اعمارة النعمة" وأحداث انواكشوط كانوا أساسا من النهضة. وعندما حولتُ إلى أطار كان هناك ثلاثة عناصر من النهضة سجناء، وبقوا فترة هناك ربما زادت في حق بعضهم على عشرين سنة، لأن النهضة اتجهت في مرحلة من تاريخها إلى الكفاح المسلح، ودخلت في علاقة مع قيادة الأركان التي كانت في المغرب.
نحن أيضا انطلقنا من لا شيء وكنا سنسير في نفس الاتجاه.
لحسن: افتقدتم الداعم فقط.
ذ. إشدو: افتقدنا الداعم ولكن أيضا كانت لنا ميزة هي وجود عناصر فاعلة في قيادة حزب الكادحين (الحركة الوطنية الديمقراطية) نشطت بشدة ضد القرار الذي اتخذته الأغلبية، وحين اجتمعت القيادة في شهر يوليو التالي ألغت هذا القرار وتبنت القرار الصائب المتمثل في الدعوة للوحدة الوطنية وتحديد الشروط الكفيلة بتحقيقها، وهي خمس نقاط منها تصفية بقايا الاستعمار الجديد؛ وخاصة الاستعمار الاقتصادي. تأميم "ميفارما" و"صوميما" والمصارف. ثم الديمقراطية، وكانت بندا أساسيا من بنودنا. ثم ترسيم اللغة العربية. إصدار عفو عام وإعادة المفصولين إلى وظائفهم والتوقف عن المطاردة.. إلخ.
لحسن: ألم يكن في دعوة الحركة الوطنية لترسيم اللغة العربية حينها نوع من عدم استيعاب بعض مكونات المجتمع الموريتاني؛ أو عدم إنصاف الزنوج؟
ذ. إشدو: لا، لا، اللغة العربية لغة كل الموريتانيين؛ فهي اللغة الأم للمتحدثين بها، ولغتهم جميعا لأنهم مسلمون، ولغتهم جميعا لأن من لا يتكلم العربية موريتاني، ولكنها قرنت لدينا بكتابة وترسيم اللغات القومية الثلاث. كان هذا مرسوما لدينا، ومحل اتفاق منا جميعا. والقيادة التي حدثتكم عنها كان من بين أعضائها قادة في المشعل بعد انضمام الأخير إلى حزب الكادحين؛ ففيها لاجي اتراوري ودافا بكاري وباه ببكر موسى.
في هذه الفترة (فترة النضال ضد الاستعمار الجديد) وخاصة سنة 1973 احتدم الصراع بيننا وبين النظام، فكان التعذيب الشديد، وكان سجن بيله، الذي ينبغي أن يكتب عما شهده من صنوف التعذيب التي لم تعرفها البلاد من قبل، وكانت المطاردة.
ومن سياسة الهروب إلى الأمام التي ذكرت لكم أن الكثير من أعضاء الحركة كان يعمل في وظائف رسمية تقوم به فلا يكون عبئا على الحركة على الأقل، فصدرت إليه الأوامر بأن يستقيل من وظائفه!
لحسن: إذن فقد كانت تصفية ممنهجة!
ذ. إشدو: كانت تصفية ممنهجة من الطرفين؛ نحن رسمناها لأنفسنا، والدولة تقرها بطبيعة الحال. هنا برز النص الذي حدثتكم عنه؛ فكان شاهدا على بعض ما حدث:
الجوع ألِخْلَه والتحــــــــفار ** والبط ألخنيگ ألعــــــجين
والصوع امن الشغله والدار ** واتجوسيس ألكذيب الشين
والحبس أتزفات المخــــتار ** هذ ما يخلع حد امتـــــــين
نحن نبغُ نحياو أحـــــــرار ** ولَ زاد انمــــــــوتُ حرين.
في خندق مع الخصوم!
لحسن: رائع! هذا يحمل قوة وإيمانا بالنضال..
ذ. إشدو: يحمل قوة وعنفوانا وإيمانا بالهدف؛ إلا أننا في مرحلة من المراحل كنا حليفا طبيعيا – من حيث لا ندري- للاستعمار وأعوانه، لأننا نقف ضد الذين يعملون على إصلاحات وطنية! وحين أفكر في هذا يؤلمني وأحمد الله على أن تم تداركه في وقت مناسب.
وقد شكل اليمين الموريتاني المعارض للإصلاحات الوطنية آن ذك حزبا يدعى حزب العدالة، وأصبحوا يمجدون نشاطنا ويرونه نشاطا إيجابيا.. تماما كما تفعل اليوم قوى الردة والنكوص حين تمجد نضال بعض القوى الوطنية ضد الإصلاحات الوطنية، وهذا ما نرجو تداركه. أما نحن في تلك الفترة فوصلنا إلى حدٍّ لم يبق خط فاصل بيننا وبين القوى اليمينية!
لحسن: فيمن تتمثل تلك القوى اليمينية؟
ذ. إشدو: تتمثل في كل من لا يساندون اتجاه فك الارتباط مع الاستعمار الجديد ولا التأميم وإصدار عملة وطنية.. وما إلى هذا، وكانوا كثيرا برزوا آن ذاك وعبروا عن أنفسهم وعارضوا ابتداء من مراجعة الاتفاقيات مع فرنسا، والكثير منهم لم يكونوا مع الاستقلال أصلا..
لحسن: إذن فالنظام برأيكم كان يفكر في اجتثاث بقايا الاستعمار من موريتانيا من خلال تلك السياسات؟
ذ. إشدو: فعل كل ما استطاع من ذلك. حين اجتمع الكادحون كما أسلفت وألغوا قرار الكفاح المسلح، واعتمدوا سياسة الدعوة إلى الوحدة الوطنية، أتذكر أن أحدهم علق بالقول: "هذي ظَيْمَة امتينه" وهي مصطلح لدى أهل اصرند، يعني أنها لعبة قوية.
فعلا لقد أمضى النظام فترة يحاول التنكر لسياسة الوحدة الوطنية ويصفها بالخيالية، وكان يمينه ويمين يمينه ضد هذا التحول، لكن لم تمرر سنة (يوليو 1974) إلا وكان قد انعقد مهرجان الشباب، فما هو مهرجان الشباب؟ هو مؤتمر – أو مهرجان إن شئت- جمع السلطة وممثليها بالحركة الوطنية الديمقراطية وممثليها لا تحت عنوان حوار.. ولكن تم بحث كل شيء، واتخذت الخلاصات والمقترحات التي نفت فيما بعد؛ وعلى رأسها تأميم "ميفرما"
تصنيف: