ما يثير الاهتمام في هذا الموضوع هو الارتباط القائم في اللاوعي العام بين: الساحل والصحراء من جهة والاضطرابات والتهديدات الأمنية من جهة أخرى ومن بينها (العنف-التشدد- السعي لإقامة سلط تيوقراطية ...إلخ) وكأن ذلك أمر جديد على المنطقة.
فبعض علماء الاجتماع يقولون بوجود علاقة ما بين البداوة والغلظة في السلوك والتشدد في المعتقد، وبين التصحر والجفاف وقساوة الحياة والتعصب والتطرف.
فسكان الصحراء أكثر تجاوبا مع دعوات التشدد من ساكنة الحضر.
ومن أمثلة ذلك نجاح دعوة بن عبد الوهاب في البادية السعودية وفشل أستاذه ابن تيمية في المدن (الشام ومصر)، سهولة توظيف رفض البدو للمظاهر الحضارية الحديثة (ساعات-تلفونات-مدارس...) وربطها بالبدعة (بوكو حرام مثلا).
فالاضطرابات والتهديدات الأمنية في منطقة الساحل والصحراء خاصة لها:
- تاريخ ملهم.
- جغرافية مناسبة.
- واقع اجتماعي محفز.
ويحسب لحركات العنف المسلح أنها استطاعت استلهام هذا الموروث التاريخي التليد، واستغلال هذا الفضاء الجغرافي المفتوح والاستفادة من هذا الواقع الاجتماعي المزري.
فتاريخ المنطقة إن أحسن توظيفه كفيل باستقطاب مجموعات عرقية شكلت في الماضي القريب حواضن اجتماعية لإمامات ودول إسلامية.
- حركة توبنان (1645 – 1675م)
- إمامة بوندو الإسلامية (1690 – 1900م)
- دولة الفوتا دجالون (1725 – 1896م)
- دولة الأئمة فوتا تورو (1770- 1880م)
- دولة سوكوتو (1804- 1903م)
- دولة ماسينا (1810 – 1862م)
كما أن الساحل والصحراء كفضاء جغرافي يحتل موقعا محوريا في القارة الإفريقية، يربط بين شمالها وجنوبها، بين المحيط الأطلسي وحوض البحر الأبيض المتوسط وشواطئ البحر الأحمر وهو وبذلك يشكل:
- المكان الأنسب للسيطرة على طرق التجارة والتهريب.
- الملاذ الآمن للخارجين عن القانون.
- الحلقة الأضعف في المنظومة الدولية. إذ يشمل كليا أو جزئيا دولا توصف بالهشة (موريتانيا ومالي والنيجر وتشاد والسودان وبوركينا فاسو ونيجيريا، والسنغال...).
أما تردي الواقع الاجتماعي فيبرز من خلال كون المنطقة:
- بؤرة فقر وتخلف.
- مرتعا للمظلوميات والاستبداد وسوء الحكامة.
- مركزا للتنوع العرقي والديني واللغوي، الذي بقدر ما هو مصدر ثراء وتنوع، هو وقود للصراعات والنزاعات.
وعليه فلا وجه للاستغراب، فمن منظور كل هذه الزوايا ترتبط منطقة الساحل والصحراء بتحديات أمنية كبيرة وتعيش على واقع اضطرابات وتحولات جيوسياسية وأمنية هامة، تجعل الوضع فيها من بين الأكثر تعقيدا في العالم.
من أبرز هذه التحديات والتحولات:
أولًا: الاضطرابات الأمنية
- تصاعد نشاط الجماعات المسلحة المتطرفة:
- جماعات مرتبطة بالقاعدة (جماعة نصرة الإسلام والمسلمين).
- جماعات تابعة لداعش (نظيم الدولة في الصحراء الكبرى).
تحالفت هذه الجماعات مع شبكات التهريب والجريمة المنظمة مستفيدة من:
- حالة عدم الاستقرار القائمة في منطقة الساحل (الصحراء الغربية وشمال مالي والنيجر وتشاد وغرب السودان).
- تداول السلاح والذخيرة خارج الأطر الشرعية.
- سهولة تجنيد العنصر البشري المستاء من الفقر والظلم والتمييز.
- الاستفادة من غياب السلطة في مثلث ليبتاكو كورما، أزواد والمنطقة العازلة في الصحراء الغربية كممرات آمنة وقواعد خلفية.
- التغييرات الغير دستورية:
- حدوث انقلابات عسكرية في مالي (2020 و2021)، بوركينا فاسو (2022)، والنيجر. (2023)
- التحول السياسي غير التوافقي في تشاد بعد رحيل إدريس دبي 2021.
- الصراع على السلطة في السودان بعد سقوط نظام البشير 2019.
- الأوضاع المضطربة في الجوار المباشر (ثنائية السلطة في ليبيا-الصراع في جنوب السودان ووسط افريقيا واثيوبيا والصومال...)
أدت الانقلابات العسكرية في دول الساحل (مالي-بوركينا فاسو-النيجر) إلى تدهور علاقاتها مع الجيران والشركاء وإلى تحولات جذرية في تحالفاتها الدولية حيث:
- رفضت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا هذه الانقلابات.
- انسحبت الدول الثلاث من المجموعة وشكلت كوفندرالية الساحل.
- انسحبت هذه الدول أيضا من مجموعة دول الساحل الخمس وأسست حلفا عسكريا جديدا.
- توترت علاقات الجزائر مع مالي بسبب التدخل الروسي وعدم تطبيق اتفاقية الجزائر مع المتمردين الطوارق.
- اتفقت ليبيا (حفتر) مع دول الساحل على التعاون العسكري والأمني.
- حاولت موريتانيا التوسط لحل الخلافات البينية ومع الدول الغربية وإنقاذ تجمع دول الساحل الخمس دون جدوى.
- تدهور الأمن الداخلي وغياب الدولة
يتمثل في:
- ضعف الحكومات المركزية.
- عدم السيطرة على المناطق الريفية البيئة الخصبة للتطرف والعنف.
- ضعف الجهاز الأمني وتردي الوضع الاقتصادي.
- الفقر والبطالة الذين ضاعفا قدرات الإرهابيين على تجنيد الشباب العاطل.
- تزايد الفساد والظلم بسبب ضعف أجهزة الدولة الرقابية.
ثانيًا: التحولات الجيوسياسية
- تراجع النفوذ الفرنسي والغربي:
- انسحاب القوة الفرنسية (برخان) من دول الساحل 2022.
- إنهاء مهام القوة الاوروبية (تاكوبا) 2022.
- انسحاب القاعدة الأمريكية 201 من النيجر 2024.
- انسحاب القوات الفرنسية من تشادEFT 2025.
- بداية انسحاب القوات الفرنسية من السينغالEFS 2025.
- حل القوات الفرنسية في ساحل العاج 2025.
- التعايش الفرنسي في منطقة القرن الإفريقي مع وجود أميركي وصيني وياباني.
- المطالبة بترسيم لغات محل الفرنسية وتغيير العملة.
- الوعي والدعم الشعبي للموقف الرافض للوجود الفرنسي.
- تنامي النفوذ الروسي
أعلنت روسيا استعدادها:
- لدعم القدرة القتالية لقوات تحالف دول الساحل.
- التعاون معها في مجالات الزراعة والطاقة.
تسعى روسيا إلى:
- دعم التوجهات المناهضة للغرب.
- ضمان وجود عسكري دائم في المنطقة.
- العمل كمورد أساسي للأسلحة والمعدات.
- العمل كمزود للأمن من خلال الشركات الأمنية فاغنر (أفريكا كوربس).
- التحولات في التحالفات الأمنية الإقليمية:
تأثرت بعض التحالفات الأمنية الإقليمية في منطقة الساحل والصحراء بالتطورات الأمنية في المنطقة:
- انسحبت مالي من لجنة الأركان العملياتية المشتركة (CEMOC).
- انسحبت مالي والنيجر وبوركينا فاسو من مجموعة دول الساحل الخمس (G5 Sahel).
- انسحبت النيجر واعلنت تشاد نيتها الانسحاب من القوة المشتركة المتعددة الجنسيات في حوض بحيرة تشاد (FMM).
- جمد عمل القوة المشتركة التشادية السودانية ((FMTS بسبب التوتر القائم بين البلدين.
- ظهور تحالفات جديدة:
- إنشاء تحالف دول الساحل ((AES بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو.
- تفعيل القوة الاحتياطية للأكواس لمحاربة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود (Force en Attente de la CEDEAO) .
ثالثًا: الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية
- النزوح الداخلي واللاجئون:
تسبب نشاط جماعات العنف المسلح في:
- نزوح ملايين الأشخاص بسبب العنف في المناطق الحدودية.
- تدهور الأوضاع الإنسانية.
- وصول أكثر من 181000 لاجئ مالي إلى موريتانيا عام 2024، استضافتهم منطقة الحوض الشرقي منهم 99,000 ألف لاجئ في مخيم امبره وذلك بسبب:
- انتهاكات قوة فاغنر المتكررة ضد المدنيين.
- خرق اتفاق الجزائر للسلام بين الحركات الأزوادية والجيش المالي.
- نشاط الميليشيات المحلية (متطوعون من أجل الوطن VDP - ميليشيا الدفاع الذاتي "Dana Amassagou"- كتائب المستنفرين...).
- الفقر والتهميش:
تسبب الفساد في انتشار الفقر والتهميش والحرمان مما أسهم في خلق جو من عدم الاستقرار تفاقم بسبب:
- غياب الدول وضعف الحكومات وافتقادها للشرعية.
- الهشاشة الاقتصادية وضعف الحكامة.
- العجز البنيوي والغـذائي والصحي.
- الأزمات الاجتماعية.
- تنامي التهديد الإرهابي والجريمة المنظمة.
- تغير المناخ:
- تسبب الجفاف والمجاعة في المنطقـة في نشوب صراعات حول مصادر الغذاء.
- واجه الأمن البشري تحديات كبيرة ك: - تغير المناخ - العجز الغـذائي - النمو الديموغرافي - تنامي الهجرة والنزوح - انتشار الأمراض والأوبئة.
- تسبب التصحر وندرة المياه وتقلص الأراضي الزراعية في صراعات بين الرعاة والمزارعين.
عموما يمكن القول إن منطقة الساحل والصحراء تمر بـمرحلة إعادة تشكل عميقة بسبب:
- تغير موازين القوى الدولية والإقليمية.
- ازدياد التهديدات الأمنية.
- تفاقم الأزمات الهيكلية الداخلية.
- احتدام التنافس الدولي.
- ارتباط قضايا الأمن والتنمية.
تأثير هذه التحولات على الأمن الموريتاني
رغم استقرار الوضع الأمني منذ سنوات، لا تزال موريتانيا معرضة لهجمات جماعات العنف المسلح لأن:
لكن موريتانيا لديها بالمقابل:
- جيش مدرب ومجهز ومتماسك.
- شراكات أمنية قوية.
- دبلوماسية نشطة.
- وضع داخلي مستقر.
- دعم من حلف الناتو والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
- استراتيجية وقائية فعالة اعتمدت الحوار المجتمعي وإزالة التطرف والتنمية.
وإن كانت فعاليتها مرهونة ب:
* تهدئة الجبهة الداخلية.
* الاستقرار في دول الجوار.
وذلك لأن:
- تدهور الأمن في أي بلد سيتسبب في تهديد المنطقة بأكملها.
- انتشار التحالفات غير المتجانسة يعرض جهود مكافحة الإرهاب للخطر.
- التشرذم يفتح ثغرات أمنية لجماعات العنف المسلح.
- غياب التواصل بين القوات على الأرض يسهل تنقل المجموعات المسلحة.
- التنافس على منطقة الساحل بين الغرب وروسيا وتركيا والصين ودول الخليج يخلق التوترات ويحول دون ظهور رؤية أمنية مشتركة.
التهديدات الأمنية التي تواجهها موريتانيا تأتي أساسا من ثلاثة اتجاهات استراتيجية رئيسية:
اتجاه ساحلي ويشمل الواجهة البحرية لبلد:
-
ليست لموريتانيا تقاليد بحرية.
-
محدودة الحضور والسيطرة على المياه الإقليمية.
-
طويل الشاطئ (أكثر من 700 كلم).
-
العاصمتان الإدارية والاقتصادية شاطئيتان.
- أهم موانئ البلد ومنشآته النفطية والغازية واساطيل صيده ضعيفة الحماية.
ولذلك يعتبر الشاطئ الموريتاني مصدر تهديد رئيسي للبلد لكونه يمكن استخدامه:
- مسرحا لأعمال القرصنة البحرية.
- ممرا لقوافل المهاجرين إلى أوروبا.
- قناة لتهريب المخدرات.
- طريقا سالكا لإبرار مجموعات إرهابية تنوي القيام بأعمال عنف وتخريب.
- مصدرا لتهديد بيئي محتمل.
اتجاه شمالي وشرقي يشمل الحدود الجزائرية والصحراوية المغربية والحدود المالية (منطقة أزواد) ويفتح على المنطقة المتوسطية ومنطقة الساحل عموما وهو اتجاه:
- ساخن لوجود جبهات مفتوحة في أزواد والصحراء الغربية.
- حيوي لاحتوائه على أهم الثروات المعدنية.
- خطير لمواجهته عصابات التهريب والجريمة المنظمة والجماعات الإرهابية.
- نشط لكثرة المنقبين والمنمين فيه.
ولذلك يشكل تهديدا دائما لإمكانية:
- اندلاع الحرب من جديد بين البوليساريو والمغرب.
- انتقال المواجهات في أزواد للتراب الوطني.
- تشكل عصابات مسلحة في مناطق التنقيب عن الذهب.
- السعي لجعل المناطق الشمالية وطنا بديلا.
- استئناف نشاط جماعات العنف المسلح.
اتجاه جنوبي يشمل الحدود مع السينغال وجزء من الحدود المالية ويفتح على إفريقيا السوداء وهو اتجاه:
- صعب التأمين لكثرة المعابر النهرية وتعدد الطرق البرية.
- مفتوح على مناطق سهلية تتيح حرية وسرعة الحركة.
- تعبره أهم شبكات الطرق المتصلة بالمحيط الإفريقي.
ولذلك يشكل أكبر تهديد لأنه:
- منطقة تماس عرقي وثقافي ساخنة.
- مدخل للمهاجرين من الجنوب الإفريقي.
- معبر لمسارات الرعي الموسمي.
- محل نزاعات عقارية ومائية دائمة.
أخطر التهديدات التي تواجهها موريتانيا:
- انزلاق حركات التحرر المسلحة (MNLA,POLISARIO) بسبب الإحباط واليأس للتشدد والعنف المسلح.
- حصول أعمال قرصنة بحرية قبالة السواحل الوطنية.
- قلب المعادلة الديموغرافية من خلال توطن/توطين المهاجرين من دول جنوب الصحراء.
- تحول الصراع السياسي بين المركز والهامش لنزاع مسلح.
- تشكل حاضنة اجتماعية محلية لحركات العنف المسلح.
على موريتانيا كي تحافظ على أمنها وتسهم في أمن المنطقة أن:
- تتبنى مواقف أكثر استباقية لمواجهة التطورات المتسارعة.
-
تدعو لإعادة التفكير في التعاون الإقليمي، وتجاوز منطق الكتل والانقسامات.
-
تحين مقاربتها الأمنية لتأخذ في الحسبان المستجدات.
-
تسهم في بناء الثقة مع وبين الجيران والشركاء والحلفاء.
-
تواصل التوعية لتفكيك الخطاب المتطرف.
-
تشرك كل الفاعلين الاجتماعين والمحليين في هياكل الحوار والوساطة والمصالحة.
-
تفعل أسس الحكامة الرشيدة.
-
تعطي الأولوية لبرامج الدمج وإعادة التأهيل.
-
تشجع وتمول النشاطات المدرة للدخل.
-
تعزز جهود حماية البيئة ومكافحة التصحر.
-
تقيم شراكة حقيقية مع المجتمع المدني.
-----------------------------------------
*تم اعداد وتقديم هذا النص من طرف مؤلفه - العقيد (متقاعد) محمد الأمين عارف ولد البراء- في إطار ملتقى جرى يوميْ 22 و23 من الشهر الجاري في أحد فنادق نواكشوط نظمه "مركز الكفاءة في مجال السلام والأمن" التابع للهيئة اللألمانية (Fondation Stifting Ebert) بالتعاون مع المركز الموريتاني "موريتانيا الآفاق". وكما هي العادة فقد استهل العقيد عارف عرضه بكلمة شكر لأصحاب المبادرة ٌقبل أن يطرح إطارا موجزا جدا لفحوى ورقته، قائلا:"
"بسم الله الرحمن الرحيم
أولا: أشكر "مركز الكفاءة في مجال السلام والأمن" و"موريتانيا الآفاق" لدعوتي للمشاركة في جلستها التي تتناول التعاون الأمني في الساحل والصحراء.
سأستعرض في هذ المداخلة جملة من النقاط يمكن أن تلامس جوانب متعددة من الموضوع أو تثير على الأقل تساؤلات تدفع المتلقين للمزيد من البحث."
تصنيف: