هناك خمسة محاور يجب العمل عليها بسرعة وجد، وأن تظل في مقدمة الثوابت الوطنية حتى يتحقق الإصلاح، وهي:
1. وعي خطورة الفساد، وإعلان الدولة والمجتمع الحرب على مؤسستـه، باعتبارها العدو الرئيسي للإنسان والطبيعة والدولة، والعقبة الكأداء في وجه الحرية والديمقراطية والنمو والأمن والإصلاح. ويجب الاقتداء في هذا المجال أيضا بقول الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله في آخر خطاب له رئيسا للجمهورية: إنني أقول لأولئك الذين ينادون بـ"اتخاذ الإجراءات الاقتصادية والمالية بوصفها السبيل الوحيد الكفيل برفع التحديات التي تواجهنا" أن "لا جدوى من أي إصلاح اقتصادي ومالي ما لم يسبق بالإصلاح الأخلاقي الذي أشرت إليه آنفا".(خطاب أذيع يوم 8 يونيو 1978. موريتانيا على درب التحديات ص 416 - 417).
2. منع وتحريم وتجريم الجمع بين السلطة والمال، بين"الإمارة والتجارة" حسب تعبير ابن خلدون. ولدينا رصيد من التجربة الرائدة في هذا المجال؛ لأن هذا المبدأ كان قد تبناه وطبقه بحزم ونجاح بُناة الجمهورية الإسلامية الموريتانية. يقول الرئيس المرحوم المختار ولد داداه في مذكراتـه: "لقد حاولت على الدوام، مدة وجودي في السلطة، أن يتطابق تصرفي فيها مع تصوري الأخلاقي للمسؤولية. وهكذا فإن المسؤول - في نظري، وخاصة المسؤول السامي - مطالب ببذل قصارى جهده في الابتعاد عن مَوَاطن الشُّبـه في جميع المجالات الأخلاقية والمادية. ومن الضروري أن يتحلى بالصرامة اتجاه نفسه ليكون قدوة حسنة للآخرين، وأن يفرض وجوده بالفضيلة لا بالاستبداد، وأن لا تكون رغبتـه احتكار السلطة والمال. وعليه - في الوقت نفسه - أن لا يكتفي بتحاشي الرشوة؛ بل تلزمه محاربتـها بكل عزم وفي أي شكل مادي أو أخلاقي كانت. ولا فرق - في نظري - بين المحاباة والمحسوبية وبين الرشوة الصارخة والمكشوفة. فالكل مذموم ويستحق الإدانة. إن لين جانب المسؤول حيال الإخلال بواجبـه ذنب لا يغفر. ولهذا السبب كنت دائما أعاقب بقسوة كلما أبلغت عن حالة من هذا النوع؛ نظرا لأن إهمال العقاب يجعلني متمالئا مع المتـهم بالجريمة".(موريتانيا على درب التحديات، ص: 403).
3. ترسيخ الديمقراطية والمساءلة. ويقتضي ذلك - حسب محمود عبد الفضيل -: " توسيع دائرة الرقابة والمساءلة من جانب المجالس التشريعية والنيابية والأجهزة الرقابية ومنظمات المجتمع المدني بغية تحقيق درجة أكبر من "الشفافية" في العقود الدولية والعطاءات واتفاقيات المعونة... ولا شك في أن الضمان الحقيقي لحل مشكلة الفساد يكمن أساسا في تداول السلطة حتى لا يعشش الفساد لمدد طويلة، ويتم توارثه والتستر عليه". ويجد هذا القول مصداقيتـه والمثلالحي على صحتـه في قضية "ملحقات وود سايد" التي لم تكن لتكتشف وتتم إثارتـها في غياب برلمان حقيقي ومسؤول، وأجهزة رقابة فعالة، لولا انـهيار السلطة التي تبيح ذلك التصرفوتتستر عليه! وكذلك تسيير الفترة الانتقالية!
4. إصلاح هيكل الرواتب والأجور؛ لا يواجه الفساد بالوعظ أو بالزجر وحدهما؛ وخاصة ما يتعلق منـه بالموظفين.. بل لا بد من تحسين ظروف الموظفين وجعلهم في منأى عن الحاجة؛ وذلك بمنحهم مرتبات توفر لهم العيش الكريم؛ الشيء الذي يزيد حصانتـهم إزاء الفساد والمفسدين؛ ففي ظل الرواتب الزهيدة لا يمكن، بحال من الأحوال، وتحت أي ظرف من الظروف، منع الموظف من الارتشاء واختلاس أموال الدولة، ولسان حاله يجادل مع الخيام:
القلـب قد أضنـاه عشق الجمـال ** والصدر قد ضاق بما لا يقال
يا رب هل يرضيك هذا الظما** والماء ينساب أمامي الزلال!
أو مع الحلاج:
ما حيلة المرء والأقدار جاريــة ** عليه في كل حال أيها الرائي
ألقاه في اليم مكــــتوفا وقال له: ** إياك، إياك أن تبتل بالمــــاء!
5. إنـهاء سياسة الإفلات من العقاب. وتفعيل حكم القانون. وتحقيق إصلاح قضائي حقيقي؛ إذ لا مجال للتفكير في خوض حرب ناجحة ضد الفساد، ما لم تتحقق تلك الشروط، ويتم الأخذ بمبدأ "صرامة المختار السقيمة"!.(انظروا كتاب موريتانيا على درب التحديات، ص 405).
ومن القواعد الأساسية التي يجب التنبيه عليها والتمسك بـها في حقل مكافحة الفساد: ضرورة الابتعاد عن "التركيز على استـهداف بعض الأشخاص والشركات على نحو نمطي، إلى جانب استـهداف المعارضة السياسية في أغلب الأحيان، على حساب التركيز على منع ارتكاب الفساد، وخلق الحوافز التي تشجع على الاستقامة"(دانيال كوفمان: الخرافات والحقائق المرتبطة بإدارة الحكم والفساد.) إذ كم من جريمة ارتكبت، وكم نـهب من مال عام، وكم أخذ من عمولات، وكم ترك من حبل على الغارب سدى إبان المرحلة الانتقالية في ظل التركيز النمطي على قضية وزير نفط سابق وشركة "وود سايد" الأسترالية دون غيرهما! أوليس هذا عين مكافحة الفساد بالفساد؟! وحدها السلطة "الديمقراطية" في عهد الرئيس "المؤتمن" كانت منسجمة مع نفسها، فقايضت "الديمقراطية" بالفساد! ثم ما لبثت أن سلمت مقاليدها لرموزه! وانتـهت اللعبة!
(من كتاب "أزمة الحكم في موريتانيا" ص185 وما بعدها)
تصنيف: