كيف صرتُ فاعلا رئيسيا في مهزلة انتخابية وطنية ...!

لو أن أحدا روى اليوم القصة بوصفه ممن عاشوها، لتصورتُ شخصيا أنها من رسم خياله الكاريكاتوري؛ غير أنني أنا أحد ابطال العملية الرئيسيين، وسوف اسرد الوقائع كما حدثت بكل وفاءٍ؛ صحيح بأن روايتي[i] لن تخلو من ثغرات أو عثرات: ذاكرتي ربما أصبحت متهالكة وقاموسي عاجزا عن أداء ما يجول في خلدي من ذكريات ومشاعر. لكنني سوف أحاول. ولدي على الأقل شاهد على ما أقول. ولا أظنه "مجروحا".

السياق : لماذا استفتاء وطني؟

جرت العملية في منتصف السبعينات من القرن الماضي بينما حرب الصحراء الغربية في بدايتها وتدور رحاها بوتيرة عالية بين طرفي الصراع المسلح: المغرب وموريتانيا من جهة، وجبهة بوليزاريو مدعومة بقوة من الجزائر من جهة أخرى. أما على الصعيد السياسي فقد قررت موريتانيا إضافة نواب (أربعة أو خمس على ما اعتقد) إلى الجمعية الوطنية بوصفهم ممثلين عن سكان وادي الذهب الذي تم ضمه آنذاك إلى بلادنا بموجب الاتفاق الثلاثي بين سلطاتنا والمغرب والحكومة الاسبانية بينما كانت الساقية الحمراء-جزء الصحراء المتبقي-من نصيب المملكة المغربية.  

وجرى استفتاء وطني على لائحة المرشحين. ولستُ أدري لحد الآن لماذا لم يقتصر التصويت على سكان المنطقة التي يمثلونها. غير أن السؤال لم يكن مطروحا آنذاك بالنسبة لي؛ لسبب بسيط: ثقافتي الانتخابية ضعيفة جدا حينها وتجربتي معدومة في المجال قبل مشاركتي في تلك العملية.

تحضير العملية: " إن كنت تكره قريبتك، فنحن لن نحذفها".

قبل موعد الاقتراع بأيام، وقع عليَ اختيار بعض زعامات القبيلة رفقة شاب آخر (الطالب اخيار)، لكي نساهم بفعالية في تحيين وتحديث اللائحة الانتخابية لمكتب قبيلتنا لأننا نقرأ ونكتب اللغة الفرنسية. ولأن الشرط لا يتوفر في اعيان وزعامات القبيلة، فلم يكن لديهم من حل سوانا رغم أنهم ليسوا معنا على نفس الخط الفكري. فنحن "متذمران" وهم موالون للنظام وملزمون، كما هو حال جميع القبائل، بتلبية طلب السلطات الإدارية القاضي بتوفير "متفرنسيْن" عن كل قبيلة وخبيرين مسنين يعرفون بالأسماء البنية القبلية: من مات، ومن هو على قيد الحياة من البالغين، ومن ينبغي حذفه من اللائحة الانتخابية...

وقد جهزت عدة مكاتب لقبائل ولاية إنشيري توزعت على غرفتين فيما أظن. وعلى ضوء المعلومات، أو على الأصح الأوامر، التي تردنا من الخبيرين، كنتُ انا والطالب اخيار و"المتفرنسون" من القبائل الأخرى نحذف أو نضيف من شاءوا حذفه أو تسجيله على اللوائح الانتخابية. ولا يحق لنا فعل أو تغيير شيء لا يوافقون عليه. أتذكر، مثلا، أن أحد المتفرنسين اعترض على الإبقاء على اسم امرأة له بها أواصل قربى متينة في النسب وهي مسجلة في سجل "فخذ" آخر متزوجة من أحد أعضائه. فرد عليه أحد الأعيان المتشددين: "إن كنت تكره قريبتك، فنحن لا نكرهها ولن نحذفها من سجلنا". والمفارقة حسب قريبها "المتفرنس" أنها لم تلمس في حياتها-تغمدها الله برحمته الواسعة، بطاقة ناخب ولم تدخل مكتب تصويت. مانعها الوحيد: الورع المطلق والخوف من الله عز وجل.

كما تم حذف اسم شخصية تعرف آنذاك بمعارضتها للنظام بأمر من حاكم المقاطعة. وقد شعرت شخصيا بعدم تحمس بعض الأعيان المقربين في النسب من المعني لحذفه. غير أن الجميع كان متفهما للموقف. كلهم يعلمون أن المعارضة "جريمة خطيرة". ومن جهة أخرى، الحاكم كان متعاونا جدا وودودا. وبما أن العملية تجري تحت سلطته المباشرة، فكلما طلب منه أحد الأعيان إضافة أسم على اللائحة، قبلَ له بذلك حتى وإن كان الإسم الجديد قاصرا من المنظور الانتخابي. كما كان لا يعترض على عدم حذف الأموات. لعله يعتبر، مثل "الأعيان"، أنهم يزيدون من الوزن الديموغرافي لمناطقهم وللقبائل التابعة لهم!

واستغليتُ مرة فرصة غياب الحاكم لأتشاور مع الطالب اخيار بالفرنسية حول الموضوع. فخلصنا إلى أن منافسة خفية تجري بين الزعامات القبلية وربما بين الحكام والولاة: كلهم يريد أن يكون وراءه خلق كثر. وهذا ما "بعث الروح في موتانا"، قلنا ساخرين.   

العملية الانتخابية: "قليل الأدب"

قبل الاقتراع بيوم، اتصل بي أحد أعيان القبيلة وطلب مني أن اتأهب للمشاركة في العملية الانتخابية، موضحا أنها سوف تبدأ غدا صباحا خارج المدينة قرب "شلخة أهل مسكه" على ما اعتقد. وبأننا سوف نقضي اليوم كاملا في نفس المكان، حيث ستجرى العملية الانتخابية بكاملها. التي سوف يشرح لنا الحاكم أو ممثله تفاصلها، وبصورة خاصة سوف يشرحها لي ولزميلي الطالب اخيار. وحدد المكان الذي سننطلق منه صباحا قبل طلوع الشمس حتى لا نتأخر عن موعد بداية التصويت.

تواجدنا جميعا في الموعد المحدد ثم انطلقنا على متن سيارة لاندروفير نحمل معنا المعدات الانتخابية (الأوراق الانتخابية، صندوق الاقتراع...)، بالإضافة إلى المؤن واللوجستيك (ذبيحة، ماء، لبن، شاي، سكر...) لم يكن عددنا يفوق عشرة أفراد، غير أنه تبين أنه أكثر مما ينبغي، حيث كنا متزاحمين في السيارة.

فور وصولنا، نصب العمال الخيمة وبسطوا الفراش، وبدأوا بصناعة الشاي وازريك وذبح الشاة. أما أنا والطالب اخيار، كنا نجهز المعدات الانتخابية، وننتظر لحظة انطلاق عمليات التصويت التي تبدأ عند الساعة الثامنة تماما امتثالا لنص القانون حسب تعليمات الحاكم والوالي على حد قول زعيم "الأعيان".

ولفت الآخرون انتباهنا بأن هذا الأخير سيكون أول المصوتين. فما إن حان الوقت حتى أمرونا بوضع ورقته الانتخابية (bulletin de vote) في صندوق الاقتراع نيابة عنه. وهكذا كررنا جميعا، خلال الساعات الأولى من النهار، العملية نيابة عن الناخبين المسجلين على اللوائح التي بحوزتنا. مر بنا  الحاكم في بداية العملية ليعطي تعليماته للجماعة:

"ينبغي أن تكون نسبة المشاركة 100% وأن تكون كلها لصاح اللائحة".

وما إن بلغت عقارب الساعة الحادية أو الثانية عشر حتي كادت عمليات التصويت تشرف على نهايتها. وقد لاحطتُ أنني لم أصوت بينما اسمي مؤشر عليه ضمن المصوتين. فأجابني أحد الحاضرين بأنه صوت عني وأمر زميلي بالتأشير على اسمي. قلت له بأنني حاضر ومعي بطاقة تعريفي وكان عليه ألا يفعل ذلك. قال آخر بأنه يمكنهم سحب صوتي من الصندوق إن شئتُ، لأن مفتاح القفل معهم. فرد عليه أقرب الحاضرين إلي في النسب بأنني "قليل الأدب". فسكتنا جميعا وواصلنا ملء الكيس بأصوات الناخبين، الأحياء منهم والأموات، حتى نفدت الأوراق الانتخابية. حينها زارنا الحاكم مرة ثانية. 

وقد انتهت عمليات ملء الصندوق بحضوره في حدود الساعة الواحدة بعد الزوال. وغير في تعليماته:

" يجب أن تنال اللائحة 99،99% من الأصوات المعبر عنها."

ثم  أضاف بأنه يجب ان نبقى في عين المكان حتى بعد السادسة ظهرا.   "لأنه لا يجوز، حسب نص القانون، فتح الصندوق وفرز الأصوات قبل السادسة"، على حد قوله.

فامتثلنا جميعا لنص القانون في هذه النقطة بالذات، رغم كونها هي الأصعب: كيف لأمرئ أن يقضي نصف نهاره تقريبا في الفناء، لا يعمل شيئا ولا يرجوه؟

البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)

 

 


[i]  تذكرتُ هذه التجربة الانتخابية الشخصية، وأنا أتابع عبر القنوات الفضائية الغربية "الاستفتاء الشعبي" الذي نظمه الكرملين في مناطق أوكرانيا التي قرر ضمها إلى روسيا.

 

تصنيف: 

دخول المستخدم