يحيل عنوان هذه الورقة إلى المقارنة بين الشيخ عبد الله بن بيه أحد مجددي عصرنا، والشيخ محمد المامي (1202 – 1282هـ) أحد مجددي القرن الثالث عشر الهجري في بلاد شنقيط.
وقد وفقني الله تعالى لكتابة بحوث منشورة عن اجتهاد الشيخ محمد المامي. ومن خلال معايشتي لأعماله ومتابعتي لنشاطات الشيخ عبد الله بن بيه، كنت ألاحظ التشابه بين الرجلين فكرا ومنهجا، ثم حضرت نشاطا لرابطة العلماء الموريتانيين في نواكشوط، وفي أثنائه استُطرِد الحديثُ عن الشيخ محمد المامي، فعلق الشيخ عبد الله بن بيه قائلا: "إن الشيخ محمد المامي مفكر سبق عصره". فقلت في نفسي، مكملا العبارة: ".. والشيخ عبد الله بن بيه مفكر جاء في وقته". وكنت كل ما تعمقت في تأمل فكر ومنهج الرجلين زاد اقتناعي بأن الشيخ عبد الله بن بيه هو "مامِيّ" عصرنا، وهذا مجدد عصرنا كما كان ذلك مجدد عصره.
ربما يبدو بادي الرأي لمن ألقى نظرة عجلى على ظروف الرجلين، أن التشابه بينهما غير ممكن، نظرا لاختلاف ظروفهما غاية الاختلاف. فالشيخ محمد المامي كان يعيش في المجتمع الشنقيطي في القرن 13هـ، وهو مجتمع إسلامي خالص، بدوي منعزل عن العالم، بسيط الحاجات، يعيش الحياة في أبسط صورها، وذو خصوصيات تميزه عن سائر مجتمعات العالم.
والشيخ عبد الله رجل كوني يعيش في جميع القارات، في عالم تنعدم فيه الحدود المكانية، في عصر الذرة وغزو الفضاء، ويحاور جميع الأديان والحضارات، ويفتي في نوازل القطب الشمالي والقطب الجنوبي.
ورغم هذا التباين في ظروف هذين المفكرين، فإن المشاكل التي واجهاها كانت متشابهة، والمناهج التي اعتمداها كانت متقاربة؛ فالإنسان هو الإنسان، والشرع هو الشرع.
وقد اطلع الشيخ عبد الله بن بيه على تراث وفكر الشيخ محمد المامي، واستشهد ببيت الشيخ محمد المامي المشهور الذي يلخص جانبا من منهج صاحبه، وهو:
ولِلنوازلِ أحوالٌ وأزمنةٌ تَنَوَّعَتْ مثلَ الَاحوالِ الْأزامينُ
الشيخ محمد المامي مجدد عصره:
لقد أحس الشيخ محمد المامي أزمة يعيشها الفكر الفقهي الشنقيطي في القرن 13هـ، لها أسباب ومظاهر متعددة، منها:
- فقدان النصوص: فقد كان المجتمع الشنقيطي في ذلك العصر ذا خصوصية متفردة، أفرزت نوازل خاصة، لم يُفْتِ فيها السلف ولا الخلف؛ لأنها لم تقع في أعصارهم ولا في أمصارهم؛ والكتب الفقهية المتداولة ومدونات النوازل كلها ألفها الفقهاء الحضريون، وعالجوا فيها نوازل الحياة اليومية التي يعيشون، ولم تكن تخطر ببالهم النوازل البدوية حتى يفتوا فيها.
- انقسام الفقهاء الشناقطة في ذلك العصر إلى حيزين – حسب تعبيره –: حيز أصولي وحيز فروعي، وكلا الحيزين يطعن في الآخر. ولكن الحيزين كليهما لم يساهما في حل الأزمة: فالأصوليون لم تنفعهم أصولهم إذ لم يستنبطوا بها حلولا شرعية للضرورات التي ترهق الناس، والفروعيون لم تنفعهم فروعهم أيضا؛ لأن كتب الفروع لم تنص على هذه النوازل البدوية.
- كثرة الضرورات وشدة الحاجات التي تدعو إلى ارتكاب التصرفات والعقود المخالفة لمشهور المذهب المالكي.
- منع بعضهم الاجتهاد نظريا، وممارسته عمليا: فهم رغم منع الاجتهاد نظريا يمارسونه عمليا، وإلا فكيف يتصرف القوم حيال النوازل البدوية التي تنزل بهم أسبوعيا؟
لقد رأى الشيخ محمد المامي أن الحل الوحيد لهذه الأزمة هو اجتهاد فقهاء البادية أنفسهم لإيجاد حلول شرعية لهذه الأزمة؛ ورأى أن هذه الأزمة لا يمكن أن يحلها إلا أحد رجلين: رجل يرحل في أرجاء العالم الإسلامي بحثا عن الفتاوي والمناهج التي تساعد على حل لهذه الأزمة، ورجل يجمع ما في البلاد من المراجع العلمية، ويتفرغ للبحث فيها أيضا عن هذه الفتاوي والمناهج. ولما لم يجد الشيخ محمد المامي واحدا من هذه الرجلين، ترشح هو نفسه للقيام بهذه المهمة الصعبة.
ورغم أن الشيخ محمد المامي كان يعتبر نفسه مجتهدا ويصرح بذلك، فإنه كان يرى أن إعادة الاجتهاد في النوازل والمسائل التي كان قد اجتهد فيها القدماء من الصحابة فمن بعهدهم، ترف لا فائدة كبيرة ترجى من ورائه، فإعادة الاجتهاد فيها لا يغير من الواقع شيئا؛ إذ أنها مسائل خلافية من الخلاف السائغ وستبقى كذلك، سواء أبإعادة الاجتهاد أم بدونها، فيجب اتباع السلف فيها وعدم الخروج عن مذاهبهم. ويجب توفير كل الجهود في رأيه للبحث في النوازل غير المنصوص عليها، كالنوازل البدوية. وقد التزم هو نفسه بهذا المنهج.
وقد حاول الشيخ محمد المامي إيجاد حلول لهذه الأزمة، عن طريق غربلة كتب الفقه ومدونات النوازل بحثا عن نوازل مماثلة أو مشابهة يستأنس بها، وحصر فتاوي الفقهاء الشناقطة أنفسهم الذين بحثوا في هذه المسائل، والبحث عن الأقوال غير المشهورة في المذهب المالكي، وفي أقوال المذاهب الأخرى، وفتح حوار مع علماء عصره، واستخدام القواعد الأصولية، والفقهية، وفتح باب الاجتهاد، والاستشكال، واعتماد تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان، واعتماد التيسير والتسهيل، حتى أنه ذهب إلى الإباحة في جميع النوازل التي تدعو إليها الضرورة أو الحاجة في المجتمع الشنقيطي القديم، رغم مخالفتها لمشهور المذهب المالكي.
الشيخ عبد الله بن بيه مجدد عصرنا:
رغم التباين الواضح في ظروف هذين المفكرين العظيمين؛ فقد كانت الأزمتان متشابهتين، والمنهاجان متقاربين، كما تقدم. وليس ذلك بمستغرب؛ فكلاهما يمتح من مقاصد الشرع وقواعده، وكلاهما مؤمن أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، وأنها وحدها المنهج الصحيح، وأنها تتضمن حلولا شرعية لكل المشكلات، قال الله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) [الأنعام: 39].
فالقصور في وجدان حلول شرعية لهذه المشكلات إنما هو من الرجال، وقد تمثل الشيخ محمد المامي في هذا المقام بقول الشاعر:
لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها ولكنَّ أخلاقَ الرجالِ تَضيقُ
فالمسلمون اليوم عموما يعيشون أزمة شبيهة بالأزمة التي كان يعيشها الشناقطة في القرن 13هـ، ومن أبرز تجليات هذه الأزمة المعاصرة، أيضا:
- فقدان النصوص: فالمجتمع المعاصر ذو خصوصية متفردة، أفرزت نوازل خاصة، لم يُفْتِ فيها السلف ولا الخلف؛ لأنها لم تقع في أعصارهم ولا في أمصارهم؛ والكتب الفقهية المتداولة ومدونات النوازل أكثرها ألفه الفقهاء القدماء، وعالجوا فيها نوازل الحياة اليومية التي يعيشون، ولم تكن تخطر ببالهم النوازل الحديثة حتى يفتوا فيها.
- انقسام الفقهاء المعاصرين في هذا العصر إلى حيزين أيضا: حيز أصولي وحيز فروعي، وكلا الحيزين يطعن في الآخر. ولكنَّ الحيزين كلهيما لم يساهما في حل الأزمة، أيضا.
- كثرة الضرورات وشدة الحاجات التي تدعو إلى ارتكاب أفعال مخالفة لمشهور المذاهب، وهو وضع يعاني منه المسلمون عموما؛ إذ أن مقاليد الاقتصاد العالمي ليست بأيديهم، وتعاني منه خصوصا الأقليات الإسلامية التي تعيش في الغرب، في وضع غير مسبوق في التاريخ.
- منع بعضهم الاجتهاد نظريا، وممارسته عمليا.
وكما تصدى الشيخ محمد المامي لمعالجة أزمة عصره، تصدى الشيخ عبد الله بن بيه أيضا لمعالجة أزمة عصرنا، بمنهج علمي محكم، يقوم على دراسة دقيقة للواقع، ومعرفة عميقة بنصوص الشارع ومقاصد الشرع. حتى تحقق فيه حلم الشيخ محمد المامي بـ"الرجلين"، المذكورين سابقا.
ومن أهم معالم منهج الشيخ عبد الله بن بيه، كما يبدو من خلال كتابه: "صناعة الفتوى وفقه الأقليات" مثلا:
الفتوى صناعة لا هواية: لقد كثر "مُفْتُو الشاشات" – حسب تعبير الشيخ – في عصرنا، وتصدى للفتوى كل من شاء، حتى صارت ممارستها أشبه بممارسة الهوايات، التي لا تستلزم تخصصا، ولا استعدادا فطريا أو فكريا، فتضاربت الفتاوي، وكثرت الآراء المجافية لنصوص الشرع والمنافية لمقاصده، فزادت تعقيدَ الوضع المعقد أصلا، وأضحى الناس في حيرة من أمرهم لا يدرون ما يأخذون وما ينبذون. والواقع أن الفتوى – حسب منهج الشيخ – صناعة لا هواية؛ فيجب أن لا يتصدى لها إلا من حباه الله ذكاء فطريا، وعمقا فكريا، ومعرفة بالواقع. ومن ثم فإن الشيخ يثني على الفتوى الجماعية، ويعتبرها من حسنات الأمة في هذا العصر، وإن كانت له بعض الملاحظات على طريقة عمل المجامع الفقهية.
معرفة الواقع شرط ضروري للفتوى: يتميز الشيخ عبد الله بن بيه بمعرفته الدقيقة بواقع العالم المعاصر؛ فقد تولى منذ ريعان شبابه الوزارات، وشارك في أنواع الهيئات، ودرَس اللغات، ودرَّس في الجامعات، وطَوَّف في القارات، واحتك بالناس من جميع الطبقات، وحاور جميع الحضارات، والتقى بالخبراء من كل الأصناف والجنسيات، وشارك في المؤتمرات والندوات، القطرية والدولية، وحاز عضوية المجالس والمجامع العلمية، وأسس المراكز البحثية، وحصل على الجوائز والأوسمة الوطنية والدولية. وأتاح له كل أولئك أنْ كوَّن تصورا واضحا عن واقع العالم المعاصر، والمشكلات التي يعاني منها المسلمون اليوم. و"الحكم على الشيء فرع تصوره". فحصلت للشيخ "معرفة الناس" التي اشترطها الإمام أحمد في المفتي.
الحفظ المحضري، والبحث العصري: يبدو الشيخ في كتبه حافظا واسع الاطلاع؛ فيذكرنا بخريجي المحضرة الشنقيطية الذين اشتهروا بالحفظ مغربا ومشرقا، فلا تكاد تقرأ له صفحة إلا وتحس أنها زبدة عشرات المراجع، منها ما ذكره في الهوامش، ومنها ما لم يذكره. ولكن الرجل ليس مجرد حافظ يردد محفوظاته فقط، وإنما هو باحث معاصر أيضا يستنطق هذه المحفوظات ويستلهمها ويقارن بينها ويطبقها على الواقع المعيش.
التدقيق في المفاهيم والمذاهب: وضع الشيخ أساسا نظريا واضحا لمنهجه، فعَرَّف المفاهيم ودقق فيها، وقارن بين المذاهب فيها، فعَرَّف مثلا الفتوى والمفتي والمفتى به، والضرورة والحاجة، وقارن بين المذاهب في تصورها لهذه المفاهيم.
الإنصاف لا الاعتساف: أعلن الشيخ أن فكره اجتهاد خاص، يحاول أن يقنع به الناس، ولكنه لا يحاول أن يلزمهم به؛ فمن اقتنع به فذاك، وإلا فلا حرج عليه. وعالج الشيخ الخلافات بعقلية علمية محايدة، وحاول أن يجمع بين الأقوال فيها، ويُقَرِّب بين المختلفين، كما في مسألة اعتبار الترك دليلا شرعيا، وتعريف البدعة.
التمييز بين فقه العامة، وورع الخاصة: دعا الشيخ إلى التمييز بين أحكام الفقه وآداب الورع، والإفتاء للعامة والإرشاد للخاصة؛ فعلى المفتي أن يراعي أحوال الناس، فييسر على العامة ويختار لهم أسهل المذاهب وأيسر الآراء، ولا يحملهم على الورع، وبالمقابل يحسن به أن يرشد الخاصة إلى الورع والخروج من الخلاف وتوقي الشبهات.
الائتلاف والاختلاف لا الخلاف: يؤسس الشيخ منهجه على الدعوة إلى الائتلاف بين مكونات الأمة كلها من قوميات وأوطان ومذاهب وأحزاب وحكام ومحكومين، فلا سبيل إلى الحفاظ على وجود الأمة ثم إنهاضها إلا بنبذ النزاعات البينية بين مكونات الأمة، وتوجيه جميع الطاقات لهدف واحد مشترك، هو الحفاظ على وجود الأمة أولا، ثم إنهاضها ثانيا. وليس معنى ذلك محاولة إلغاء الاختلافات الطبيعية بين البشر؛ فهذا الاختلاف أمر فطر الله الناس عليه، ويميز الشيخ في هذا المجال بين مفهومي: "الاختلاف" و"الخلاف"؛ فالاختلاف يحمل دلالة جمالية، وقد وصف الله سبحانه وتعالى بعض مظاهر الجمال في الكون بأنها مختلفة؛ فكان ذلك الاختلاف سر الجمال فيها، مثل قوله تعالى: "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك" (فاطر: 27). أما "الخلاف" فهو المذموم، وهو خلاف الفرقة والتدابر والتقاطع والاقتتال والتبديع والتكفير.
تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان: من المعلوم أن الأحكام الشرعية لا تتغير ولا تتبدل، وهي صالحة لكل زمان ومكان. لكن الفتوى تتغير بتغير الظروف الزمانية والمكانية. وهو مبدأ اعتمده الفقهاء من كل المذاهب؛ فكم من نازلة يفتي فيها إمام المذهب أو غيره من السلف، ثم يذكر المتأخرون من أتباع ذلك المذهب أن تلك الفتوى كانت وليدة ظروف معينة وعلة محددة، وقد تغيرت تلك الظروف وزالت تلك العلة؛ فيجب أن تتغير الفتوى بناء على ذلك. وهذا الذي أخذ به الشيخ؛ ففي دراسته لمدونات الفتاوي القديمة كان دائما يضع نصب عينيه أنها للاستئناس والاستفادة قبل أن تكون للتقليد؛ لأن ظروف الحياة في عصرنا قد تتغير تغيرا يكاد يكون كاملا عن الظروف التي كان يعيش فيها أولئك المفتون.
التيسير لا التعسير: يشغل مفهوم التيسير حيزا مركزيا في فكر الشيخ؛ فهو يتخذ موقفا واضحا في هذه النقطة، ويرى أن التيسير قاعدة شرعية تنتظم جميعَ الأحكام الشرعية، ونصوصُ الكتاب والسنة ناطقة بأن أساس الشريعة الإسلامية التيسير لا التعسير. فكان الشيخ مستحضرا لهذا المبدأ تنظيرا وتطبيقا. وأعلن أنه يفتي بالأقوال الضعيفة تيسيرا على الناس إذا كانت محققة للمصالح، وتوفرت فيها الشروط المقررة للإفتاء بالضعيف، ويُلحق الحاجة الفقهية بالضرورة، كذلك.
عدم اعتداء الحدود، بلا تمييع أو جمود: ربما يتوهم من يرى حرص الشيخ على التيسير والرفق، أنه يجيز كل مسألة مطروحة للنقاش، ويبيح كل ما يهواه الناس. ولكن هذا التوهم مخالف للواقع؛ فالشيخ قد يخالف بعض الفتاوي الجماعية التي تجنح إلى التيسير إذا رأى أنها لا تأوي إلى ركن شديد من الأدلة الشرعية. فقد أفتت بعض المجامع بجواز استعمال الألبسة المصنوعة من جلد الخنزير مطلقا، ولكن الشيخ رأى تقييد الإباحة بالحاجة إلى استعمال هذه الألبسة، وذهبت بعض المجامع إلى عدم وقوع طلاق الغضبان، فخالفها الشيخ وأفتى بوقوعه وأطال في ذلك، وذهبت بعض المجامع إلى تشجيع العامة على الترجيح بين المذاهب والأخذ بالأرجح منها؛ فخالفها الشيخ ونبه إلى وجوه التزام العامة لأحد المذاهب المعتبرة.
الاجتهاد في النوازل الحديثة لا إعادة الاجتهاد في القديمة: كان الشيخ محمد المامي يرى أن الاجتهاد في بلاد شنقيط يجب أن يخصص للبحث في النوازل الجديدة التي لم يُفْتِ فيها القدماء، كما تقدم. وكذلك فعل الشيخ عبد الله بن بيه؛ فإذا استعرضنا منهجه تنظيرا وتطبيقا نجد الشغل الأساس له هو فتاوي العصر الراهن، ولا نجده يوجه أكثر جهده شطر المسائل الخلافية المعروفة قديما.
التقريب بين المذاهب والمناهج: يُقَرِّب الشيخ عبد الله بن بيه بين المذاهب والمناهج، ويلمح المشترك بينها فيركز عليه ويلفت النظر إليه؛ فهو مثلا ينبه إلى أن مراعاة الخلاف لا تختص بالمذهب المالكي، وإنما هي عند الحنابلة أيضا، وينبه إلى أن العمل عموما معتمد عند الحنفية والشافعية دون تخصيصه بقطر، فهم يشتركون في ذلك مع المالكية، وإن كان المالكية يختصون باعتماد عمل أهل المدينة أصلا من أصول المذهب، وينبه إلى أن المذهب الحنبلي يُنْسَب إليه اعتماد "المصالح المرسلة"، و"سد الذرائع"، كما عند المالكية.
اللمسة الشنقيطية في أعمال الشيخ عبد الله بن بيه: ثقافة الشيخ عبد الله بن بيه أصلها ثابت في التراث الشنقيطي وفرعها في السماء؛ فهو لم يأت من فراغ ولم يتنكر للتراث المحضري، بل تَمثَّلَه وجعله الأساس الذي انطلق منه في اجتهاده. فنجد الشيخ يُكثر من الاستشهاد بالمتون المعتمدة في المحاضر الشنقيطية، ويُكثر من الاستشهاد بأعمال أعلام التراث الشنقيطي، مثل والده الشيخ المحفوظ بن بيه، والشيخ سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم، والشيخ عبد الله بن الحاج حماه الله، والشيخ محمد المامي، والشيخ النابغة الغلاوي، والشيخ محمد بن محمد المختار القصري الولاتي، والشيخ ماء العينين.
الشيخ عبد الله بن بيه داعيةُ السَّلم الإسلاميةِ والعالميةِ: دعا الشيخ محمد المامي إلى إقامة الدولة الإسلامية في عصره، وعَمِلَ الشيخ عبد الله بن بيه على الحفاظ على وجود الدول الإسلامية في عصره؛ فكان داعية السلم في عصرنا الذي تعصف به الفتن الداخلية بين المسلمين، فكم خربت من بلاد، وكم أيتمت من أولاد، وكم أيمت من نسوان، وكم أجْلت من الأوطان. والله المستعان. فكان الشيخ داعية إلى سَلم إسلاميةٍ تضمن للجميع العيش المشترك، وتكفل للجميع إصلاح دينهم ودنياهم، وكان داعية إلى التقريب بين وجهات النظر بين الحكام والمحكومين، وجمعهم على كلمة سواء؛ ليتفرغ الجميع للهدف المشترك وهو حماية البيضة وتنمية الوطن. بدون نصب محاكم لتحديد الظالم من المظلوم، والانحياز إلى الحاكم أو المحكوم؛ فالطبيب عليه أولا أن يبدأ في إنقاذ حياة المريض، قبل أن يبدأ في محاكمته على تسببه في المرض. وكلما تقدم الزمن بدأ الناس يقتنعون شيئا فشيئا بصواب رأي الشيخ وصحة فراسته، وبدأت جهوده تؤتي أكلها؛ فقد بدأت بعض الأطراف المتحاربة في العالم الإسلامي تجنح للسلم، والحمد لله رب العالمين.
الخاتمة:
بعد هذا العرض الموجز عن أسس فكر الشيخ، يظهر أنه يستحق لقب "فقيه"، كما قال سفيان الثوري ومعمر: "إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة. فأما التشديد فيحسنه كل أحد"، وقد عقد كلامَه هذا الإمامُ النابغة الغلاوي بقوله:
وقال سفيانُ الإمامُ الأفضلُ: وإنما الفقيهُ مَنْ يُسَهِّلُ
مرخِّصا للناس لم يُشَدِّدِ إذ يَعرف التشديدَ كلُّ أحدِ
ويظهر أيضا أنه يستحق لقب "عالم"، كما قال الإمام المختار بن بونة في الوسيلة:
ولا تكن في الاتباع مُفْرِطاَ ولا مُفَرِّطا ولكن أَقْسِطَا
فالعالم الذي في الاَشيا يُقْسِطُ والجاهلُ المفْرِطُ والمفَرِّطُ
على أن الحديث عن الشيخ يطول, ولذلك فإني أختم هذه الورقة متمثلا بقول ابن رازقة:
تمنيتُ لو أُعطِيتُ في القول بسطةً فأَهتفَ فيه بالذي أنا أَعْرِفُ
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ورقة من إعداد العلامة الدكتور أحمد كوري بن يابة السالكي
نائب عميد كلية أصول الدين جامعة العلوم الإسلامية بالعيون
تصنيف: