قمة الإنصاف / ذ. محمدٌ ولد إشدو

موريتانيا والجامعة العربية: "كر فأنت حر"

عندما برزت الدولة الموريتانية إلى الوجود في نهاية الخمسينات، ووجهت بالصد والوأد من قبل أهلها (عدا شقيقتها تونس) وهذه عادة عربية جاهلية {وإذا بشر أحدهم بالأنثى..} إلا أن لها أسبابا سياسية أخرى من بينها البعد، وادعاء المغرب، وانقسام إفريقيا والعالم آنذاك إلى كتل ومعسكرات متصارعة يسعى كل منها لبسط نفوذه في محيطه وإلغاء الآخر (كتلة الدار البيضاء، الاتحاد الإفريقي الملغاشي، دول حلف الأطلسي، ودول حلف وارسو). وهذا ما جعل حلف المغرب: الجامعة العربية (مؤتمر اشتوره) وكتلة الدار البيضاء والاتحاد السوفيتي، يعارضون استقلال موريتانيا ويرفضون انضمامها إلى الأمم المتحدة؛ الشيء الذي أدى إلى عزلتها عن العرب وألحق بها أفدح الأضرار، وأثر سلبا على مسارها في السنوات الأولى من عمرها، فتقوقعت وأصيبت بالتوحد. وإن ننس لن ننسى أن احتفالات الاستقلال في 28 نوفمبر 1960 لم يحضرها من إفريقيا الشمالية وآسيا العربية والإسلامية سوى ضيفين اثنين فقط هما: محمد المصمودي وزير خارجية تونس وآغا خان من باكستان.

وقد استمر حصار العرب المقيت لموريتانيا سنوات عانت فيها الأمَرّين؛ حيث كان جواز سفرها مرفوضا في العالم العربي - عدا تونس- مثل الجواز الإسرائيلي. وفي ذلك يقول الشيخ محمد سالم ولد عدود معاتبا المملكة الليبية:

ما رعت أختنا ذمام العهود   قارنت بيننا وبين اليهود!

ويقول أيضا مخاطبا القادة العرب:

يا أهل مصر ويا أهل العراق ويا    هل الحجاز وأهل الشام واليمن
ويا جلالة مولانا الشريف ويا     جلالة الندب مولانا الفتى الحسن
ها إن تا أمة منكم محافظة         على العروبة والإسلام والوطن

ثم انعقد المؤتمر التأسيسي لمنظمة الوحدة الإفريقية سنة 1963 فكانت موريتانيا التي انسحبت قبله من الاتحاد الإفريقي الملغاشي دولة مؤسسة لتلك المنظمة التي أنهت انقسام القارة. وتمت تسوية الخلافات الموريتانية المغربية لاحقا. ولكن موريتانيا - رغم ذلك- ظلت خارج الجامعة العربية إلى غاية سنة 1973 حين دخلتها من بابها الواسع بعد أن أبلت بلاء حسنا إثر حرب حزيران فقطعت علاقاتها الدبلوماسية - وهي في السنة السابعة من عمرها- مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بسبب دورهما الخبيث المخزي في تلك الحرب ودعمهما للعدوان الإسرائيلي على العرب، وقادت حملة التضامن الإفريقي الواسعة مع مصر؛ والتي أسفرت عن طرد إسرائيل صاغرة من إفريقيا، وشاركت - حسب إمكانياتها المتواضعة يومئذ- في المجهود الحربي العربي. وكأن لسان حال العرب يقول لها ما قالته عبس لفتاها المنبوذ عنترة ابن شداد حين حمى الذمار: "كر فأنت حر".ولم يتوقف ظلم ذوي القربى إلا نهاية سنة 1963 حين قررت مصر عبد الناصر - وهي يومئذ زعيمة العرب دون منازع- فك الحصار عن موريتانيا، وأوفدت إليها وفدا مصريا رفيع المستوى بقيادة وزير الصحة النبوي المهندس، وعضوية شيخ الأزهر الشريف الشيخ محمود شلتوت رحمهما الله، وذلك للاطلاع على حاجيات موريتانيا وتلبيتها مباشرة. ومنذ ذلك اليوم أخذت مصر بيد موريتانيا وظلت تقف بجانبها في السراء والضراء.

المكانة التاريخية لقمة نواكشوط   

ورغم أن العرب لم يدخروا جهدا في مساعدة ودعم وتنمية موريتانيا خلال أزيد من أربعين سنة من انضمامها إلى جامعتهم وآثروها ودللوها أحيانا كثيرة، وكأنهم يريدون أن يكفروا عما فرطوا فيه من حقها قبلُ، فإن جميع ما فعلوه - على كثرته- لم يعوض أو يجبر ما عاناه الموريتانيون من ضياع وتشرد وشعور بالعزلة في سني طفولة دولتهم العاثرة، وظلوا يشعرون دائما بذلك الفراغ المعنوي والحزن النفسي، وتلك الهوة التي تفصلهم عن محيطهم العربي. وظلت الحالة كذلك إلى أن جاء اختيار موريتانيا وتشريفها باستضافة القمة هذا العام، وقبول الحكومة الموريتانية الفوري لهذا التشريف واستعدادها لرفع تحديه رغم ضيق الوقت وضعف الإمكانيات. فكان ذلك هو التعويض الأمثل والمناسب لهم عما فاتهم، والبلسم الشافي لأوجاع وأحزان الماضي التي كانوا يعانونها. وبذلك تكون قمة الأمل في انواكشوط هي بحق قمة الإنصاف أيضا. فهذه هي المرة الأولى التي ينصف فيها العرب والتاريخ معا تلك الغادة البدوية التي أنكروها و"أضاعوها" في طفولتها، وها هي اليوم تستعيد حقوقها واعتبارها. إن رفرفة الأعلام الحقيقية لدول الجامعة العربية في سماء انواكشوط خلال الأسبوع القادم سوف تعني لنا نحن جيل الاستقلال أن الحلم الذي راودنا منذ أزيد من نصف قرن قد تحقق؛ فقد كنا ونحن ثلة من الشباب - لهول حرماننا من هويتنا- نعلق نفس هذه الأعلام من ورق على دار أهل همدي التي نسكنها في مدينة أطار غير بعيد من قاعدة "لاكوك" الفرنسية التي تحرس مصالح فرنسا في الشمال.  

شروط نجاح قمة انواكشوط

لا شك في أن الوضع العربي والدولي الراهنين لا يسمحان بتنظيم قمة ترف وفضول؛ أي قمة من أجل القمة. لذا يجب على قمة العرب الأولى في انواكشوط أن تمثل نقلة نوعية في العمل العربي أو لا تكون. ويتمثل ذلك في اتخاذ قرارات تاريخية وجدية تحفظ ما بقي من بيضة الأمة. ولا يتم ذلك إلا بالانسلاخ من نير التبعية للقوى الأجنبية، ووقف الحروب والنزاعات البينية العبثية التي لا يستفيد منها غير العدو، وانتهاج سياسة تصالح قومي تسعى لتسوية كافة النزاعات العربية بالطرق السلمية وحقن دماء الأمة، ووضع إستراتيجية عربية تضع في أولوياتها صيانة الأمن العربي، والتمييز بين الصديق والعدو، ومكافحة الإرهاب، ودعم الثورة الفلسطينية وإنهاء التطبيع مع العدو الصهيوني ومحاصرته.. إذ في ذلك وحده يكمن نجاح قمة انواكشوط في نظر العرب وجامعة العرب. وفي سبيله يجب أن تنشط الرئاسة الموريتانية للقمة والدبلوماسية الموريتانية، أثناء القمة وبعد القمة، وأن لا تسمح موريتانيا - في حدود اللباقة- بأن يصدر باسم قمة انواكشوط ما لا يخدم قضايا الأمة العربية ووحدة صفها، فيكون وصمة عار في جبين بلادنا يذكره لها التاريخ.   

أما فيما يخصنا بصفتنا البلد المضيف، فإن نجاح استضافتنا للقمة يتطلب توفر أربعة شروط نرجو من الله - عز وجل- أن يوفقنا ويعيننا على تحقيقها، وهي:

  1. الأمن. إن الأمن في هذه المرحلة من تاريخ العالم هو الضمان الأول والأخير لأي نجاح كان. ومما لا ريب فيه أن اختيار بلادنا كان من أسبابه ما تتمتع به - والحمد لله- من أمن واستقرار قل نظيره في دول أعرق وأغنى منها. ومع ذلك، فإنه يجب تجنب الغرور وعدم ترك أي شيء للصدفة، كما يجب اتخاذ مختلف الاحتياطات وجعل كل الاحتمالات في الحسبان، وتغليب جانب الأمن على كل جانب. فبتوفر الأمن تنجح القمة أيا كانت النواقص والاختلالات الأخرى، وباختلاله - لا قدر الله- تعتبر القمة فاشلة مهما كان. ولعل حادثتي الحذاء واقتحام البرنامج التلفزيوني البارحة - رغم بساطتهما- تحملان من الدلالة ما يفتح أعين من يهمهم الأمر على كافة الصعد.
  2. النظام. وبعد الأمن يأتي دور النظام؛ فبه تسهل كل الأمور وبدونه تتعقد وتستعصي، وبه يتم ترشيد الإمكانيات والحد من التكاليف والنفقات. والنظام هو وضع الأشياء في محلها. فيجب من الآن أن يعطى ما يستحق من أهمية. وأن نعلم أن طبيعة مجتمعنا البدوية وما تتسم به حياتنا من عفوية وفضول، كل ذلك مناف للنظام؛ فيجب أن نتحلى في تنظيمنا وإدارتنا لهذه القمة بالصرامة والالتزام بالنظام ومحاربة الفوضى والمجاملة والمحاباة والمحسوبية؛ مهما كان الثمن الذي سيكلفنا ذلك. رضي من رضي أم غضب من غضب. وفي هذا الصدد تجب المحافظة على نظافة وانسيابية مدينة القمة، وخلوها من جميع مظاهر التخلف والانحطاط والفوضى.
  3. كرم الضيافة. إن قبولنا لتحدي استضافة القمة في أمد قصير وإعلاننا أننا سننظمها بما لدينا حتى لو اقتضى الأمر تنظيمها تحت الخيام، يعتبر شجاعة منقطعة النظير وثقة لا حدود لها بالنفس. ذلك أن عمر عاصمتنا هو عمر الاستقلال، وأن المستعمر لم يترك لنا شيئا على الإطلاق، وأن ما بنينا في العشرين سنة الأولى من استقلالنا هدمته حرب الصحراء العبثية وتيه الانقلابات الرجعية ونظام الفساد الذي عشش في بلادنا ثلاثين سنة، ولما نتعاف من مخلفاته حتى الآن. وقد تضافرت هذه العوامل كلها لتجعل إمكانياتنا محدودة جدا. ومع ذلك فسوف نجود بمالنا وأنفسنا في سبيل إكرام ضيوفنا، فتلك سجيتنا. وفي هذا المجال يجب الحرص على إبراز ثلاثة أوجه من الحفاوة، أو ما نسميه بالحسانية "لحسان":

أ. البشاشة والترحيب وطلاقة الوجه حتى نكون كالمحلق.

ب. الوجه الثقافي الموريتاني الأصيل الذي يشكل بطاقة تعريفنا ومناط هويتنا.

ج. الوجه البدوي الصحراوي - الإفريقي الطبيعي (الجمالة، الحلوبة، المشوي، الخيام والأكواخ والرقص والغناء الأصيلان). وإنه لمن المؤسف حقا أن تكون عاصمتنا بلا حدائق وبلا ساحات عمومية وبلا معالم حضارية وجمالية مثل نصب الشهيد والجندي المجهول، أو تماثيل لببكر بن عامر أو يوسف بن تاشفين أو ابن ياسين أو الإمام الحضرمي أو اعلي شنظورة أو الحاج عمر أو محمد لحبيب أو بكار، والمختار ولد داداه وسيد المختار انجاي.. وأن لا يكون المسجد الكبير المزمع إنشاؤه قد أصبح حقيقة ومعلما مرابطيا شامخا. ولكننا نحمد الله تعالى ونشيد ببعد نظر وعلو همة وطموح حكومتنا التي خططت لميناء انواكشوط الجوي وبنته وشغّلته قبل حلول هذه المناسبة؛ إذ لولاه لما كان التفكير فيها ممكنا، ونتمنى أن تكون استضافة هذه القمة بداية للتفكير الجدي في إضفاء مسحة جمال وحضارة على عاصمتنا وبلادنا، وعلى حياتنا العامة حتى نواكب العصر ويكون لدينا ما نقدمه لضيوفنا بعد الحليب والتمر والمشوي.. فليس بالخبز وحده يحيى الإنسان.

4. الوحدة الوطنية. من المعلوم بالضرورة أنه لا يمكن تنظيم عمل بهذا البعد بنجاح ما لم يشترك فيه الجميع؛ خاصة أن ريعه ومردوده - إيجابا أو سلبا- ملك للجميع. وعليه فإنه يجب إشراك الجميع، كل من موقعه، وتمثيل الجميع. ونحن إذ نستقبل القمة العربية اليوم، ونرجو أن نستقبل القمة الإفريقية والإسلامية وقمة عدم الانحياز غدا وبعد غد، يجب أن نبرز خصائصنا وتنوعنا الاجتماعي الذي هو مصدر ثراء وقوة لنا، وأن لا نترك للمتطرفين والمرجفين والمتحمسين منفذا للمزايدة وتفتيت اللحمة الوطنية. وفي هذا الصدد تجب العناية بما تقوم به فرق وأجهزة الإعلام والسهر على تطهيرها من المتسللين ومراقبة عملها حتى لا تنشر ما لا تحمد عقباه.

تصنيف: 

دخول المستخدم