من المستحيل أن نتوهم أن لا تترك عقود التيه التي ألقت بكلكلها علينا، وما نزال نعاني من خسفها الأمرَّين، أثرا مدمرا على وعي النخبة في بلادنا (ولا نقول "المثقفون" فذلك مفهوم آخر له دلالة أخرى) .. فمن يزرع الشوك لا يجني العنب.
وقد يعتقد بعضنا خطأ - أو سهوا - أن أسوأ عقابيل تلك المحنة الانهيار الاجتماعي الذي أحدثه زلزال العاشر يوليو، رغم حسن نيات بعض القائمين عليه وغفلة بعض؛ حيث دُفع بصفوة الأمة الموريتانية إلى السجون والمنافي والإقامة الجبرية والتهميش والبطالة؛ وتسوّر من بعدهم قمةَ الهرم الاجتماعي، وواجهةَ السلطة والأعمال في الدولة - والثقافةَ أيضا- من هم دون ذلك. فطغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد؛ خصوصا، بعدما خبروا مقايضة السلطة بالمال؛ الشيء الذي أدى إلى استقالة وتلاشي الدولة الحديثة، وانهيار المجتمع. فاستشرت السيبة والگزرة ونهب المال العام، وتدهورت الأخلاق والقيم، وضعف الوازع الديني، وانتشر الجهل والهدر والضياع.
غير أن واقعنا المعيش أثبت بما لا يدع مجالا للشك، وجود ما هو أسوأ وأفظع وأبقى من ذلك الزلزال الاجتماعي، ألا وهو ارتداده المعنوي في البناء الفوقي؛ حيث انهارت في ظله ثقافة وقيم المجتمع الأصيلة النبيلة في جوهرها (المروءة والإباء والصدق والقناعة والورع) وما طعَّمها وطبعها من مآثر وشيم العهد البطولي الموريتاني، عهد الاستقلال وبزوغ الدولة المتسم بعلو همم وقوة إرادة وصدق جيل الكفاح الوطني ضد الاستعمار وأعوانه بشكليه: القديم والجديد، ومن أجل نيل وتوطيد الاستقلال السياسي، ومراجعة الاتفاقيات الاستعمارية المجحفة وإجلاء القواعد الأجنبية وتحرير الاقتصاد (إنشاء العملة وتأميم ميفرما والبنوك) وترسيم اللغة العربية وكتابة اللغات الوطنية الأخرى والقضاء على العبودية وتشذيب وتذويب الفوارق الاجتماعية والكيانات التقليدية الموازية للدولة كالإمارات والمشيخات والعصبيات الجهوية والاثنية الخ.. تلك الثقافة الوطنية الديمقراطية التي أفرزها ذلك العهد ورعتها مدارس التنوير ونشرها الشباب الوطني الديمقراطي وتلقفتها واحتضنتها الجماهير الكادحة.
فيومئذ كانت ثقافة الوظيفة "المبلولة" والسيارة والدار غير معروفة ومستهجنة جدا. والثقافة السائدة لدى النخبة والمجتمع معا هي رسالة التفاني في خدمة الشعب، وكانت الفوارق الاجتماعية طفيفة كذلك. فكم من إطار كان مهيأ بحكم تكوينه وحاجة البلد إليه ليرتقي أسمى الوظائف "المبلولة" لكنه أبى وتعفف انسجاما مع روح التضحية والايثار السائدة آنذاك. وكم من مسؤول تجرد من تلك الأقانيم طوعا ويمم وجهة النضال في سبيل قناعاته (كما فعل قادة الحركة الوطنية سنوات 70 - 75، وكانت آخرَ ذكرى نحتفظ بها في زمن التيه لذلك المثل استقالتا السيدين دافا بكاري ومحمد الأمين ولد الناتي من الوزارة.
وقد حدثت استثناءات قليلة من النوع الذي يؤكد القاعدة؛ ولكن صرامة الرئيس المختار رحمه الله وتشبثه بمبدئه المعروف {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه}(موريتانيا على درب التحديات، ص 403) كانت لتلك الحالات بالمرصاد. والأمثلة معروفة لا تحتاج إلى ذكر. بينما كان معظم رؤساء ونخب ومجتمع عهد التيه يشجعون الفساد ويحمون المفسدين.
نعم.. لقد خلق ذلك الواقع الجديد ثقافة أخرى تناسبه وتبادله التأثير، وتسوغه في الوعي الجمعي البدوي البدائي المعطى، وفي اللا وعي، وتحميه وتحتمي به، وتمده وتستمد منه قوتها وترسبها واستمرارها..
وتلك الثقافة هي التي ما تزال طاغية في مجتمعنا اليوم تنخر العقول وتؤتي أكلها كل حين؛ وذلك رغم الانحسار النسبي للظروف التي أنجبتها، ورغم المحاولات الجادة الرامية إلى كبح جماحها ومحو وتجفيف بعض منابعها. وذلك بسبب تفشي ورسوخ بؤر الفساد في الدولة وفي المجتمع، وبسبب قوة العادة أيضا.
ومن أبرز خصائص هذه الثقافة: تغليب المصلحة الخاصة، والعصبية الجاهلية، والهوى، على المصلحة الوطنية العامة، وعلى الحق، والعقل. وبذل ما يقتضيه ويمليه ذلك الزيغ من شطط في سبيل إلغاء الدولة، والدين والقانون والعلم والعقل، بصفتها حواجز وعقبات تقف في وجه غلبة وسيطرة الأنا والعترة الأَمَّارتين.. وبالتالي إلغاء الغير أيا كان.. وخصوصا رموز الوطنية والخير والإصلاح كالرئيسين المختار ولد داداه وأحمد ولد بسيف والشيخين محمد سالم ولد عدود وبداه ولد البوصيري، حتى لا يتفشى إرثهم وذكرهم؛ وتلك غاية جميع الحملات المغرضة التي تعصف بالبلاد من حين لحين تحدوها نكرات وأقزام لا أصول لها ولا فروع.
ومن التجليات البارزة لهذه الثقافة ما تتسم به الحياة اليومية عبر تعاطي النخبة مع الشأن الوطني العام، ومواقفها من القضايا العادلة.
(يتبع)
الأستاذ محمدٌ ولد إشدو
تصنيف: