أعود لأقول إنه لا شيء أشد إيلاما للنفس وضررا على القضية من الجمود! أتذكر أنه يوم إعلان تأميم ميفرما، وقد عدت أنا وزملائي المطلوبين إلى انواكشوط من السنغال، ولكنا ما نزال نعيش ونعمل في نطاق السرية، ونحن نرى ذلك اليوم أن قاماتنا بلغت السماء، جاءني في الظهيرة شاب من الحركة وهو يبكي فقال: أوديتم بنا! (اخليتونَ) فقلت: بماذا؟ قال: طالبتم بتأميم ميفرما وكنا نظن أن تأميمها مستحيل، وبه كنا نحارب النظام، والآن وقد أممت ميفرما ماذا بقي لنقوله للشعب، وبماذا نحارب النظام؟!
لحسن: أي أن الهدف كان محاربة النظام.
ذ. إشدو: الهدف محاربة النظام، الهدف إحراج النظام. الهدف ربما لا يكون معروفا تماما. إنه التطرف والطفولة اليسارية التي تصيب حتى الشيوخ!
قلت له: يا أخي إن لنا هدفا وطنيا ساميا وكل من سار في اتجاهه فلا ينبغي أن نحاربه أونسيء إليه؛ أحرى أن نرفع اليد عليه. قال: كلا، بل أوديتم بنا! وذهب باكيا دون أن يقتنع، لشدة جموده على النص. وآل به الأمر للالتحاق ببوليزاريو وكان من ضحاياها.
لحسن: النضال عنده إنما هو محاربة النظام، سواء أحسن أم أساء!
ذ. إشدو: نعم! لي أصدقاء ساءت العلاقة بيني وبينهم للأسف؛ أو ساءت بينهم وبين أنفسهم، حين قلت إن العبودية لم تعد في موريتانيا. لماذا؟ لجمودهم على هذا الشعار الذي كان صائبا في السبعينات! ففي السبعينيات كانت العبودية موجودة، وكنا نحاربها، ولم يشعروا بشيء مما حدث بعد ذلك على ما يبدو، فهم يحاربون شيئا غير موجود؛ وهذا هو الجمود! وهو خطير جدا.
أمران من أخطر ما يكون على من يهتم بالسياسة أو الثقافة: أحدهما الجمود، والآخر التقليد الأعمى.
يقال على سبيل النكتة إن سياسيا مغربيا كان لديه حزب منتم إلى الأممية الاشتراكية، وكان يخرج في الصيف (في المغرب) وقد رفع مظلته وفتحها، فإذا سئل عن السبب قال: المطر ينزل الآن على موسكو!
تصور أن قوما وقع الربيع العربي في تونس وهي منذ عشرين سنة تحت حكم بن علي، أو في مصر وهي تحت حكم مبارك منذ 30 سنة فقالوا: لا بد من حدوث الربيع العربي في موريتانيا! هذا التقليد الأعمى.
لحسن: جميل.. سنستفيض في الحديث عن الوضع الراهن، لكنا نتابع التسلسل التاريخي للأحداث. عند ما دخلت حركة الكادحين في حزب الشعب، ربما بدأت تؤمن بالمشروع الوطني للنظام.
سنة ذهبية
ذ. إشدو: عاشت موريتانيا قرابة سنة ذهبية في ظل المشروع الوطني للنظام وللمعارضة الوطنية، أصدق تعبير عنها قول الشاعر أحمدُ ولد عبد القادر في قصيدته "ريشة الفن":
هــــــللي مــــورتان ما ذاك إلا ** ومضة من سراجك المتـــلالي
هــــللي يا بــلاد مــا نـــحن إلا ** قطرة من معينك السلـــــسالي
هللي صفــــقي لوثبة نــــــــبع ** ظل يسقي مواكب الأجــــــيال
حاول الغرب حبسه ذات يـــوم ** عن مجاريه عبر هذي الرمال
فانبرى يمضغ السدود ويجري ** لا يبالي بشأنها لا يـــــــــبالي
وتسامى أصــــالة وشمــــوخا ** في رحاب الخلود ثر النــــوال
نهضة ترفع المـــعارف جسرا ** ذهبيا يرقى بها للمـــــــــعالي
فكرها عزمها صــواعق نـــار ** تتصدى للمــــــــسخ والإذلال
وانتقام من الجمـــود وضرب ** لنوايا المستعمر المــــــــحتال
هل لهذا الوجود معـنى إذا لم ** يتفــــهم هــــويتي ومـــجالي
لحسن: إذن كانت القصيدة تجسيدا للفترة الزمنية.
ذ. إشدو: نعم، كانت تجسيدا لتحقيق الحلم. هذه السنة الذهبية توجت هذا المجهود باحتفالات الذكرى الخامسة عشرة للاستقلال الوطني عام 1975 فكانت هذه الذكرى تتويجا للسعادة والحبور والتصالح مع النفس والاعتناء بالمواطن الموريتاني؛ فوزعت القطع الأرضية في السبخة والميناء وتيارت وقضي على "الكبة" آن ذاك، أنجزت أشياء لم تكن من قبل.
في هذه المقاطعات الثلاث منحت القطع الأرضية مقابل ألفي أوقية للقطعة، وكان الدواء يباع للمواطن بسعره لدى المختبر الذي أنتجه وتتحمل الدولة ما زاد على ذلك.
لحسن: إذن كانت السنة مزدهرة قبل أن تقع حرب الصحراء.
ذ. إشدو: جاءت الحرب فأكلت الأخضر واليابس خلال أقل من ثلاث سنوات.
لحسن: وأنتم تحدثتم كثيرا عن هذه الحرب، ولديكم آراء عديدة حول حرب الصحراء؛ وخاصة أنكم في حركة الكادحين، وهذه كانت موجودة داخل حزب الشعب عند اتخاذ قرار من قبل الرئيس المختار ولد داداه..
نقاط عديدة سيتم تناولها بحول الله في الحلقة القادمة من البرنامج.
ذ. إشدو: وخاصة نقاشنا مع الحكومة في هذا المجال، ونقاشنا مع البوليزاريو في هذا المجال أيضا.
لحسن: بطبيعة الحال. إذن ستكون في الحلقة القادمة محاور متعددة تتعلق بحرب الصحراء، وبانقلاب 1978 الذي أعقبها. هذه الحلقة كانت مخصصة للحديث عن هذه النقاط التي عُنونت بمنعطف تصفية الاستعمار الجديد، الذي كانت تعاني منه موريتانيا حينها، وأفضتم في الحديث عنه فوفيتم وشفيتم في شرح التفاصيل الدقيقة لتلك المرحلة.
في ختام هذه الحلقة أتوجه بجزيل الشكر إليكم حضرة المحامي والسياسي، والأديب أيضا؛ فقد أمتعتمونا بالنصوص الأدبية التي واكبت مختلف المراحل المتعلقة بالتاريخ السياسي الموريتاني.
الأستاذ محمدٌ ولد إشدو شكرا لكم على قبول الدعوة والحضور، وطبعا بإمكانكم توجيه كلمة للمشاهدين فيما يتعلق بالحلقة القادمة بحول الله.
ذ. إشدو: شكرا لك وللمشاهدين؛ وما أود قوله للمشاهدين هو أنني – إن شاء الله- سأبذل قصارى جهدي في الموضوعية، ولن أحدثهم إلا بما أعتقده، ولن أروي إلا ما شاهدته أو تأكدت منه عن طريق الثقات. ورحم الله جميع الذين أسهموا في بناء هذا الكيان الأساسي المهم الذي كانت الأمة الموريتانية في أقصى الاحتياج إليه، وأطال الله بقاء الذين ما يزالون أحياء. وأطلب من جميع من ما زالوا أحياء أن يكتبوا ما استطاعوا عما عاشوه. وأستحسن وأهنئ على ما كتبه معالي الوزير يحي ولد منكوس، وما كتبه النائب والسياسي يحي ولد عبدي الذي كان معارضا داخل حزب الشعب ثم التحق بقيادة الحزب نفسه في بعض مراحله، وأتمنى لهما طول العمر، وأشكرهما على مبادرتيهما.
لحسن: الكتابة للتاريخ ضرورية دائما، والأمانة التاريخية ورواية التاريخ بشكل موضوعي أكثر أهمية، بخصوص هذه المرحلة وبخصوص الأجيال القادمة أيضا..
ذ. إشدو: ومن لا تاريخ له لا روح له ولا عقل له.
تصنيف: