في هذه المحطة السادسة من شهادته حول مسايرته لموريتانيا الحديثة حسب مواقعه المتعددة و مقدراته المتنوعة، تارة بوصفه مفكرا محللا و أديبا، وتارة بوصفه شاهد عيان و مراقبا، وتارة اخرى بوصفه موظفا في الدولة أوشابا ناشطا سياسيا يحلم بتغيير الاوضاع و صنع الحداث، أو بوصفه محاميا و قانونيا أبت الأحلام والمثالية أن تفارقه، يصل الأستاذ محمدُ ولد إشدو الآن في هذه المحطة من مشواره الطويل ذي المعالم الكثيرة، المتنوعة الألوان والأشكال، إلى استنتاجات هامة استنبطها من مسايرته لموريتانيا الحديثة ( نشأتهاـ تطورها و مراحله المختلفة...)، وركز على الإفصاح عنها لمحاوره (لحسن) مُعِد برنامج َ"ضيف و قضية" (الحلقة 6)، قناة "الوطنية" :
" ذ. إشدو: أبدأ بمحاولة تلخيص ما مررنا عليه حتى الآن. هذا الكيان الذي جمع شمل الموريتانيين، والذي بدأ سفر تكوينه من 20 مايو 1957 كما أسلفنا، ووضعت أسسه في الثاني من مايو 1958 بألاگ كان إنجازا مهما للأمة الموريتانية ولسكان هذه الأرض الذين كان معظمهم بدوا متفرقين، ومنهم من يعيش خارج العصر. كان خطوة جبارة إلى الأمام في مصلحة جميع سكان موريتانيا.
تولى بناء موريتانيا رجال أقوياء وأمناء وجديون، نهضوا بهذا العبء كما ينبغي، وبذلوا جميع طاقاتهم في مجالين هما التقشف والفصل بين المال والسلطة.
هكذا كان جل الجيل المؤسس، وخاصة المختار ولد داداه (رحمه الله) الذي كان المنسق حسب قوله؛ فقد خرج من موريتانيا وليس معه إلا دراعة من "بركال" ومذياع نقال، وهو من جيل كانت هذه شيمته: جمال عبد الناصر، بورقيبة، شيخو توري.. إلخ. فهذه الجماعة كانت جادة فيما تصدت له، وكان الجو العام، وخصوصا صعود حركة مناهضة الاستعمار وتحرير الشعوب وعدم الانحياز التي اندلعت عقب الحرب العالمية الثانية يشكل عاملا ملائما ومساعدا على التحرر والبناء.
لقد شادوا دولة عصرية كما قلت، من ميزاتها حرية القرار والتقشف. قد لا تعلمون أن موريتانيا قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع الصين الوطنية سنة 1965 بعد أن أقامت علاقات مع الصين الشعبية في العام ذاته، في وقت لم تكن لها قوة ولا وسائل تقريبا وكانت خاضعة إلى حد ما للمستعمر الذي لا يعترف إلا بالصين الوطنية، لكن القرار ظل حرا. وساندت فيتنام وكامبودج ولاوس ضد الولايات المتحدة، وقطعت علاقاتها مع الولايات المتحدة وبريطانيا سنة 1967 إثر حرب حزيران.
ثانيا قاومت التحديات الخارجية المتمثلة في المطامع والداخلية المتمثلة في المؤامرات وفي النزعات القبلية والجهوية ومحاولات بعض الإمارات رفع رؤوسها ومشاغبة الدولة.. إلخ.
بعض الذين لم يدرسوا ظرف النشأة أو الذين ولدوا بعد ذلك يقولون: حكومة التراجمة (إمالزن) وعملاء الاستعمار.. وأعتقد أن التراجمة في تلك الفترة كانوا النخبة للأسف، وكانوا عموما أحسن المؤهلين للقيادة وأحسنهم وعيا. وكانوا مرغمين أيضا على نوع من العلاقات مع المستعمر لضمان تحقيق الهدف وتدرجا في مرامهم، فهم لا يقودون ثورة وليست لديهم قواعد شعبية واعية، فاختاروا اعتماد الوسطية والتعقل والمرونة، وساروا سير ضعفائهم.
ومن جهة أخرى فإن بعض الناس يرى أن موريتانيا برزت إلى الوجود على الصيغة التي نراها الآن؛ فإنها وجبة دسمة حبا بها الله من شاء من المسؤولين، وأود أن أقول لهم إنها لم تكن هكذا، وإنما تطلبت جهودا كثيرة بذلها الكثير من الرجال والنساء، ولن يرضى أولئك - ومعهم الأجيال المؤمنة بموريتانيا- أن تظل نهبا صيح في حجراته.
إن الدولة الموريتانية وإن كانت قد أنشئت من الصفر تقريبا، فإن لموريتانيا ماضيا مجيدا لا يجوز نسيانه ولا الذهول عنه. تحدثت عنه سلفا وسألخص الآن بالقول إن من لا يعتز بالمرابطين ودولتهم، ولا بناصر الدين وحركته، ولا بالألماميين (أو يجهل الجميع) ولا يعتز بالبيضان بيضا وسودا، ولا الزنوج بولارا وسوننكيين وولفا، ولا بعلماء موريتانيا وفن موريتانيا.. لا يعتز بالمختار بن بونا ولمجيدري بن حب الله وحرمه ولد عبد الجليل وسيدي عبد الله بن الحاج ابراهيم والحاج عمر تال والشيخ محمد الماميا ومحمذ فال بن متالي ومحمد يحي الولاتي.. إلى آخر اللائحة الطويلة. ولا يعتز بغرظو ولا باعلي انبيط بن حيب الله وسدوم وسيد أحمد بن آوليل، ولا يعتز بالإمارات المعروفة – ولا أريد الإطالة- ولا يعتز بالموسيقى الموريتانية، ولا بلبتيت واسغير ولبير ولا بالكرس ولا بلگتري ولا بالحر ولا بتنجوگه..
أعتقد أن من لا يعتز بكل ذلك فوطنيته معدومة، ولن يضر موريتانيا شيئا، لكنه لن ينفع نفسه أيضا.
فيما يتعلق بتصفية الاستعمار أرى أن نبدأ قبلها بكلمة بسيطة عن إرهاصات الوحدة الوطنية التي تلت أحداث 66 فقد استطاعت موريتانيا الخروج من تلك الأحداث العنصرية وتعزيز وحدتها الوطنية، وذلك بسببين:
الأول شجاعة المختار ولد داداه وإصراره على تحمل المسؤولية ورفضه الهبوط بغير العاصمة، وعدم قبوله التدخل الأجنبي المتمثل في العرض الفرنسي بالمساعدة، معتمدا في حل الأزمة على نفسه وما كان متاحا له من وسائل.
الثاني عدم وجود عنصرية بين مكونات الشعب الموريتاني وهو أمر أساسي وجوهري وحقيقي؛ فالزنوج والبيضان يتعايشون منذ زمن بعيد وكل يتقبل الآخر، بله محاولة تقسيم البيضان الجديدة التي لا أساس لها من الصحة.
بدء العنصرية
فالعنصرية إنما بدأت في بداية الستينات في النخبة، وفي الشباب بالخصوص؛ حيث بدأ بعضه يشد في اتجاه والبعض يشد في اتجاه آخر. وكان لديها أساس تمثل في المطالبة بترسيم اللغة العربية والضمانات التي تطالب بها الأقلية.
وبعد سيطرة المختار على الوضع والإجراءات التي اتخذها كما قلت، والتعديل الوزاري الذي نحّى فيه من جسدوا الطرفين في نظر الناس (وقد لا تكون الحقيقة كذلك). واعتقال جماعات يعتقد أنها كانت ذات دور أساسي فيما حدث. أعتقد أن هذه الإجراءات هدَّأت الوضع، لكن أمورا جرت وكانت أساسية لا بد أن أذكرها هنا:
1. بدأ إخماد الفتنة العنصرية من بو امديد كما أسلفت عند ما تضامن البيضان مع جماعة الزنوج المضربة عن الطعام وهددوا بإضراب مماثل ما لم تلب مطالبهم. ثم لما أعيد الجميع إلى مدرسة الشرطة بلكصر كان من اليسير تلاقي وجهات نظرهم.
2. عند ما حاول حزب الشعب - ممثلا في اتحاد العمال الموريتانيين- الهيمنة على العمل النقابي هب النقابي جابيرا جاگيلي رحمه الله، واتخذ مبادرة الاتصال بالنقابيين البيضان، وخاصة نقابة المعلمين العرب وما تعلق بها، ودعاهم إلى توحيد الجهود من أجل منع تلك الهيمنة، وقد انخرطت في هذا العمل نقابة المعلمين العرب، وكان يقودها رجل يجمع بين لعصابه والترارزه يدعى محمد ولد دداه رحمه الله، ويلقب بالنقيب، وهو رجل شجاع جدا، ووطني جدا، ثم جاءت الجماعة التي كانت بالقاهرة؛ خاصة محمد المصطفى ولد بدر الدين ومحمدو الناجي وإلى جانبهم الشاعر أحمدو ولد عبد القادر، وبدأ التنسيق في هذا المجال.
جاءت نكسة 67 والثورة الفرنسية 68 ومذبحة الزويرات وهزيمة الولايات المتحدة الأمريكية في فيتنام، والثورة الثقافية في الصين كما أسلفت، ثم جاء الجفاف! كل هذه عوامل أظهرت عري الاستعمار الجديد، وأظهرت للشباب من مختلف فئات موريتانيا ومكوناتها؛ سواء من كان في فرنسا ومن كان في دكار ومن كان هنا، أن الموريتاني ليس عدوا للموريتاني وإنما العدو هو سيطرة الاستعمار ومن يساندون الاستعمار. وهكذا فإن أول احتجاج كان في شكل مظاهرة وإضراب يوم 2 يونيو في روصو ردا على مذبحة الزويرات وشارك فيه شباب البيضان وشباب الزنوج، وكان الخطوة الأولى في هذا المجال.
ثم جاء إنشاء اتحاد الطلبة الموريتانيين أيضا ثم اتحاد الطلبة والمتدربين الذي أنشئ في دمشق. هذا الاتحاد وإن اقتصر إنشاؤه على شباب البيضان فإن حاضريه منهم كانوا متنورين، وجاء بمبادرة من الدكتور محمد محمود ولد اماه جزاه الله خيرا، وشارك فيه شباب قادمون من فرنسا ومن السنغال ومن مختلف نواحي المشرق العربي ورغم ندرة البعثيين بين الجماعة المنشئة لهذا الاتحاد فإن موقف السوريين كان نموذجيا وديمقراطيا، فلم يتدخلوا في شيء من أعماله على الإطلاق.
النشاط الطلابي في الخارج
عندما أنشئ هذا الاتحاد، رغم أن العناصر الفاعلة فيه من حركة القوميين العرب كما أسلفت، فقد كان فيه عناصر من جماعة تولوز كالمصطفى ولد اعبيد الرحمن وعبد الله ولد اسماعيل، وقد علت فيه الدعوة للوحدة الوطنية والعمل المشترك. وينبغي أن نتوقف هنا عند نضال طلابنا في دكار؛ فقد كانوا مجموعة قريبة من الوطن، والجامعات المنتشرة اليوم في إفريقيا، وقد صارت لدينا جامعتان بحمد الله ونأمل المزيد.. كل هذا لم يكن موجودا آنذاك. لا توجد جامعة في موريتانيا ولا في الكثير من الدول الإفريقية؛ فقد كانت جامعة دكار ملتقى لطلاب إفريقيا الغربية. وكان طلابنا فيها سنة 1968 طليعيين، وكانوا نموذجيين وأكثر وعيا وانفتاحا من بقية الطلاب، وقد قادوا نضال طلاب إفريقيا في مناسبة غريبة سأرويها لك..
وقع خلاف بين الطلاب وإدارة الجامعة، فلجأت الإدارة إلى استدعاء الدرك الذي اقتحم الحرم الجامعي وهدد من نبس من الطلاب ببنت شفة بالرد القاسي ومن بين الطلاب موريتانيون طبعا. شاء الله أن طالبا موريتانيا واقفا قرب قائد الدرك، فبمجرد تفوهه بهذا التهديد لطمه حتى سقط أرضا وأنفه ينزف، فهب الطلاب الذين كان الخوف من الدرك يسيطر عليهم يعلنون ويخوضون الثورة ضد الاستعمار الجديد في دكار الذي كان بوابة الاستعمار الجديد آن ذاك. هذا الطالب هو الخبير والأستاذ والسياسي الطالب محمد ولد لمرابط.
وأغلقت الجامعة فعاد الطلاب الأفارقة من دكار إلى بلدانهم وهم يثنون على شجاعة الموريتانيين وثقافتهم واهتمامهم بالشأن السياسي وإقدامهم.
في عامي 68، 69 عاد الطلاب الموريتانيون من الدراسة بدكار ووقعت أحداث طلابية مماثلة بالجزائر فنظم الطلاب الموريتانيون بالجزائر إضرابا وعادوا إلى أرض الوطن، وفيه عقد مؤتمر اتحاد الطلاب والمتدربين (UGESM) الموحد، وبدأت مرحلة النضال الوطني الديمقراطي ضد الاستعمار الجديد، وولدت الحركة الوطنية الديمقراطية".
تصنيف: