أهم ملامح المقاربة الموريتانية لمكافحة التطرف.../ د. محمد اسحاق الكنتي

عانت البلاد من الأعمال الإرهابية التي استهدفت القوات المسلحة في ثكناتها، والمدنيين في الشوارع. ولم تفعل السلطات السياسية حينها سوى إحصاء الضحايا؛ فلم يكن الجيش، ولا قوات الأمن مجهزين لمواجهة عصابات جيدة التسليح، عالية التدريب. لكن هذه الظروف تغيرت جذريا مع حركة التصحيح سنة 2008 التي جعلت على رأس أولوياتها مكافحة الإرهاب دون المساس بالحريات، بل تعزيزها ضمانة لحقوق المواطنين وقطعا للطريق على الدعاوى المغرضة. ركزت السلطات الجديدة على تحديث تسليح الجيش وقوات الأمن ورفع معنوياتهم من خلال تحسين ظروف عملهم وتدريبهم، فانعكس ذلك سريعا بنقل المعركة إلى معاقل المتطرفين، وتحصين التراب الوطني. ورغم أهمية الإجراءات الأمنية في المقاربة الموريتانية إلا أن المقام لا يناسب التوسع فيها، لذلك سنركز على الجوانب الفكرية والاجتماعية لهذه المقاربة.
• لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف...
واكبت الإجراءات الأمنية الصارمة تدابير فكرية واجتماعية تفتح خط الرجعة لمن اكتشف، بعد التورط، أنه يتبع السبل وبنيات الطريق، ويحاول التوبة والإنابة إلى الله. فانتهجت الدولة سياسة تقوم على تعزيز الحريات؛ حرية التعبير بإلغاء عقوبة الحبس في قضايا النشر، وحرية العمل السياسي والنقابي والجمعوي بالترخيص للأحزاب، والنقابات، وهيئات المجتمع المدني، وتسهيل عملها، وتقديم العون المادي لها ضمن مسطرة شفافة شارك الجميع في وضع آلياتها، وحرية الدعوة بدعم المؤسسات الدينية من محاظر، ومساجد، ومعاهد، وتم استحداث جامعة للعلوم الإسلامية، وإطلاق إذاعة للقرآن، وقناة فضائية دينية، والتوسع في بناء المساجد.

ثم دعت الدولة العلماء إلى مناظرة الشباب المتطرف الذي قبض عليه لتستبين سبيل المجرمين. ووافق الشباب على مناظرة العلماء، وتكلل الحوار العلمي برجوع 80% من الشباب عن الأفكار المتطرفة فاستحدثت الدولة لهم برنامج دمج اجتماعي مكنهم من إطلاق مشاريع اقتصادية أمنت لهم دخولا فاندمجوا في المجتمع وعادوا مواطنين صالحين ينهضون بدور دعوي من خلال تحسيسهم لغيرهم من الشباب حول خطورة التطرف والغلو.

ولم يقتصر هذا البرنامج على الشباب المتورطين مع الجماعات المتطرفة وإنما شمل شريحة الشباب والفئات الهشة من خلال مؤسسات ذات نشاط اجتماعي واقتصادي ترعاها الدولة، مثل: وكالة التنمية المستديمة، الصناديق الوطنية للادخار والقرض، صندوق بيت المال، وبنك النساء.

قدمت هذه المؤسسات قروضا دون فوائد، ميسرة التسديد في دفعات صغيرة، فمكنت العديد من الشباب والنساء معيلات الأسر من إطلاق مشاريع صغيرة أمنت لهم دخولا، وأخرجتهم من دوامة البطالة. كما أطلقت الدولة سنة 2012 "برنامج أمل" لدعم المواد الأولية دعما للقوة الشرائية لذوي الدخل المحدود.

وشجعت الشباب على الانخراط في العمل السياسي من خلال أحزاب شبابية تؤطرهم ليساهموا بفعالية في بناء الوطن.

توج كل ذلك ب "لقاء الشباب، أنتم الأمل" الذي جمع نخبة الشباب من كافة الشرائح، وولايات الوطن، وحرص فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز على حضور انطلاقه، واختتام أعمال ورشاته التي قدمت مقترحات وجه فخامة الرئيس كافة القطاعات في اجتماع مجلس الوزراء بالاستفادة منها، كل في مجاله.

كما نصب مجلس أعلا للشباب ليكون هيئة استشارية، تقدم النصح في القضايا المتعلقة بالشباب.

إن ما يميز المقاربة الموريتانية لمعالجة ظاهرة التطرف هو إدراك القائمين عليها أن التدين ليس مصدر التطرف، بدليل أن الموريتانيين مجتمع عرف عبر التاريخ بتدينه، ولم تظهر فيه دعوات متطرفة، وإنما جاء التطرف من مصادر خارجية تقترح أنماط تدين لم تكن معروفة لدى الناس.

فركزت الدولة على تعزيز مظاهر التدين التي ألفها الناس متمثلة في: عقيدة الأشعري، وفقه مالك، وطريقة الجنيد السالك، التي تمثل في المخيال الاجتماعي مراتب ثلاثة: الإسلام، والإيمان، والإحسان.

فصحة العقيدة شرط للتفقه في الدين، والتفقه في الدين زاد السالكين طريق الإحسان.

أضف إلى ذلك إدراك القائمين على المقاربة الموريتانية لمعالجة ظاهرة التطرف أن البعد الدنيوي يمثل المسكوت عنه في أيديولوجيا المتطرفين وإن ظهر بشكل جلي في نشاطاتهم، فبادرت إلى إطلاق الحريات العامة، وإعادة توزيع الثروة ليشترك كل الموريتانيين في ثمارها، مع تمييز إيجابي لصالح الفئات الهشة، وإعطاء دور أكبر، في إدارة الشأن العام، والوظائف العليا في الدولة، للشباب والنساء.

أثمرت كل هذه الإجراءات الرشيدة سلما اجتماعيا قائما على قاعدة صلبة من الاطمئنان إلى العدل، والشعور بالمساواة في الحقوق والواجبات.

فلم يعد الشباب الموريتاني في حاجة إلى المغامرة بحياته في الصحراء ليعيش تصوره للعقيدة، ويسطو على ما يعده نصيبه من الغنيمة. فبإمكانه اليوم أن يمارس شكل التدين الذي يختاره، وأن يدعو إليه بين أهله وذويه، وفي مجتمعه، بحرية تامة دون ملاحقة من أجهزة الأمن ما لم يتخذ العنف سبيلا، والتطرف منهجا.

أما ما يعده "نصيبه من الغنيمة" فيمكنه الحصول عليه دون المخاطرة بحياته، وإنما اعتمادا على جهده وبلائه. بذلك تم تجفيف منابع تجنيد المتطرفين في صفوف شبابنا، وغدت بلادنا واحة سلم وأمن في منطقة مضطربة. كما أصبحت التجربة الموريتانية في معالجة التطرف والغلو مثالا يحتذى.

ومن الجدير بالذكر أن هيئات المجتمع المدني، وعلماء الدين، وقادة الفكر، وصناع الرأي العام شاركوا بفعالية في تصور هذه المقاربة، وفي تنفيذها في تعاون وثيق مع السلطة السياسية التي أطلقت المبادرة ورعتها... لكن السؤال عن مصادر التطرف المعاصر يظل قائما...
يتبع، إن شاء الله.

 

المصدر : صفحة د. محمد اسحاق الكنتي على فيسبوك

 

تصنيف: 

دخول المستخدم