أحداث 66 : وقفة عند إحدى اخطر محطات تاريخ موريتانيا الحديثة برواية شاهد عاصرها و تأمل فيها: الأستاذ محمدٌ ولد إشدو في مقابلة

الأستذ محمدُ ولد إشدو

 

                                                              

من المنعطفات التي عرفتها الدولة الموريتانية الوليدة وكانت خطيرة وحاسمة أحداث 1966 ومن أسبابها صدور قوانين تقضي بإجبارية تعليم اللغة العربية في المرحلتين الابتدائية والثانوية..

لحسن: هذا ما أسميتموه في بعض كتاباتكم بمنعطف البحث عن الهوية..

ذ. إشدو: نعم.. سميته صراع ترسيم اللغة العربية والحفاظ على الهوية والوحدة الوطنية. هذا الصراع كاد أن يودي بالبلاد؛ خاصة أنه استُغِل سياسيا.

صودق على قوانين إجبارية اللغة العربية من طرف الجمعية الوطنية.. فاحتجت مجموعة من الطلاب من إخواننا أبناء منطقة النهر وأضربوا ورأوا في الأمر حيفا عليهم، فآزرتهم مجموعة من المثقفين تسمى "مجموعة 19" وأصدرت بيانا تعلن فيه تضامنها معهم وتدعو لإضراب. نوقش الأمر في المكتب السياسي لحزب الشعب وفي البرلمان. وينقل الرئيس المختار ولد داداه بأمانة وتفصيل النقاشات التي دارت بهذا الخصوص. فانقسم المكتب السياسي وانقسمت الحكومة إلى فريقين:

- فريق بقيادة المرحوم محمد ولد الشيخ وفيه كانْ أليمان، رحمه الله ثم انضم إليه رئيس البرلمان با ممدو صنبولي رحمه الله.

- وفريق بزعامة أحمد ولد محمد صالح أطال الله بقاءه.

المختار كان كما قال الأمير أعمر ولد المختار لابنه الأمير محمد لحبيب عندما أراد إبداء رأيه في إحدى القضايا الشائكة؛ قال له: اسكت؛ فأنت "شِيخْ، والشِّيخ ما ينعر" (أي لا ينحاز). المختار لم ينحز، لكنه يذكر أن الصراع احتدم، وأن طائفة كانت مع تطبيق القانون وتدعو لعقوبة موظفي الدولة الذين أخلوا بالنظام ودعوا لإضراب غير شرعي، وطائفة ضد معاقبتهم. ويثني الرئيس المختار في مذكراته على جو النقاشات الصاخبة التي دارت بين الفريقين، كما يثني على رجل عظيم ظل واقفا مع موريتانيا وفوق هذه التناقضات العرقية؛ ألا وهو المرحوم يوسف كويتا. كان يذكرهم كلما طال النقاش بأن لهم أبا واحدا وأما واحدة هي موريتانيا، يستوي في ذلك الأبيض منهم والأسود. "لا تنسوا أن أباكم هو موريتانيا، وأن أمكم هي موريتانيا، وأنكم إنما جلستم هنا لمصلحة موريتانيا". ويقول: "إن الشعب الموريتاني الذي لا ناقة له ولا جمل في خصومات المثقفين التي بدأت تهزنا يسمع ويرى وينتظر منا قرارات تعزز الوئام الوطني وتوطد وحدة الوطن الموريتاني، وعلينا أن لا نخيب أمله". (ص 338).

في تلك الأثناء (بداية 66) كانت زيارة مزمعة للرئيس المختار إلى مالي، وكانت مهمة بما أنها تأتي بعد فترة من توتر العلاقات والجفاء بيننا وبين مالي التي كانت تدعم المغرب وترعى نشاط المخربين الذين يتسللون عبرها. وقد تجاوزت بعض التفاصيل من ضمنها مناشدة المرحوم سميدع للرئيس المختار من أجل ترسيم العربية عندما زار الثانوية التي كانت بمثابة الجامعة كما أسلفت، ومنه خطاب الأستاذ باباه بصفته أصغر أستاذ في الثانوية آنذاك، وقد ألقاه بالعربية ودعم فيه مطلب ترسيم العربية وطلبت سفارة فرنسا عدم إلقائه. فأصر الرئيس المختار على أن يترك الأستاذ وشأنه وليلق خطابه كما شاء، ثم أصر على أن لا يعتقل بعد الخطاب، وهو ما لم يعلم به الأستاذ باباه إلا بعد نقله من وزارة التعليم إلى وزارة الدفاع، فقد قال للرئيس – حسب ما رويت عن الثقات-: "إني تحت الخدمة وحيثما بعثتموني سأبذل وسعي، لكني أنجزت الكثير في هذه الوزارة (وزارة التهذيب) وأرجو أن تعتنوا به". فقال له: "أيها العميد سنحافظ على كل ما أنجزته في تلك الوزارة، ولو كنا سنفعل غير ذلك لكنا قد لبينا طلب إحدى السفارات عند ما طلبت أن لا تلقي خطابك، ولما أصررنا على أن تلقيه، ولما رفضنا طلبها باعتقالك بعده".

عرف هذا بعد اندلاع حرب الصحراء وتعيينه وزيرا للدفاع؛ وهو التعيين الذي له دلالته المتمثلة في تبعية الحرب للسياسة من خلال إسناد حقيبة الدفاع إلى أستاذ للغات الحية.

المهم أن المختار كان من الضروري أن يسافر إلى مالي ففعل، ولكنه سافر بأحد الجناحين؛ فقد رافقه محمد ولد الشيخ وكان أليمان وبا ممدو صنبولي رحمهم الله، وبقي الجناح الآخر هنا. وفي أواخر زيارته لمالي انفجرت الأحداث هنا! فكيف انفجرت؟ السبب أن الطلاب المنتمين للشريحة العربية وزعوا - هم أيضا- منشورا ضمنوه التضامن مع التعريب ودعوا - هم الآخرون- لإضراب، وحتى نقابة المعلمين العرب وبعض الهيئات والموظفين دعوا لإضراب أيضا، لكن قيادة الإضراب كانت عند الطلاب. لماذا اختار الطلاب التاسع من فبراير والمختار في غياب عن البلاد؟ ومن كان وراء هذا الاختيار؟ أنا في محاولات التحليل التي قمت بها، وبالاعتماد على العديد من المعطيات، أرى أن التاريخ محدد من طرف وزارة الداخلية، وأنها كانت وراء جانب مهم مما حدث. أعتقد أن الجناح الذي لم يسافر ساهم في تحويل إضراب الطلاب ومنشورهم إلى حركة عنيفة، ولا شك أن أفرادا تابعين لوزارة الداخلية دعوا في الليل لأعمال عنف باسم شريحة البيضان من مكبر صوت مسجد الإمام بداه بلكصر (الذي كان المسجد الوحيد تقريبا بلكصر).

حسب تحليلي أنا فالأحداث التي وقعت في التاسع من فبراير كانت لها أهداف أكبر مما هو معلن، ومثالا على ذلك فإن الشغب الذي حدث بالثانوية ليلة التاسع من فبراير لم يُشعر به الرئيس المختار، وقيل إن الهدف هو عدم إزعاجه أثناء زيارته لمالي، وحين تجددت الأحداث صباحا كان الناس قلقون على أبنائهم المحصورين في الأقسام الداخلية حفاظا على أمنهم، فاجتمعوا بمختلف أعراقهم ومكوناتهم أمام الثانوية بحثا عن أبنائهم فحدثت الاشتباكات ولم يُشعر بها الرئيس أيضا إلا وهو في الطائرة! حين اتصل به المدير المساعد لديوانه أحمد بزيد (و لد احمد مسكه) (رحمه الله) عن طريق برج المراقبة فأشعره به. ما الذي اقترح عليه أحمد بزيد؟ اقترح عليه أن لا ينزل بمطار انواكشوط.

لحسن: إذن فقد كانت بوادر محاولة انقلابية؟

ذ. إشدو: هذا ما أراه. لكن المختار رفض أن يهبط في دكار وأصر على الهبوط في مطار انواكشوط، وقال لمدير ديوانه المساعد: افعلوا ما تيسر من المراسيم التي كانت تجري في العادة. وبدأ المدير المساعد في تحضير المراسيم في المطار، وحضر بعض أعضاء السلك الدبلوماسي وعزف النشيد الوطني وبعد انتهاء المراسيم اختلى به السفير الفرنسي وأبلغه استعداد فرنسا لمساعدته ودعمه لإخماد تلك الأحداث عن طريق حاميتها الموجودة بدكار، فرد عليه بالشكر طالبا منه البقاء بمعزل عما يجري حتى يُحتاج إلى تدخل بلاده.

ويقول المختار في كتابه: "أبقينا علاقات مع فرنسا للحماية من عدو خارجي، فإذا اعتمدنا عليها في حمايتنا من أنفسنا فنحن لسنا دولة إذن!". وقد اتخذ الإجراءات التي كانت كفيلة بإعادة الأمور إلى مجاريها وبالحفاظ على الوحدة الوطنية وتجنيب البلاد منعطفا خطيرا؛ كل ذلك دون اللجوء إلى حماية فرنسا.

لحسن: لمن كانت المصلحة الكبرى في تلك الأحداث وفي الانقلاب على النظام حسب تحليلكم؟

ذ. إشدو: هناك جناحان، أحدهما كان معه في سفره والثاني تخلف عنه.

لحسن: إذن فقد كانوا شركاء فيما حدث.

ذ. إشدو: كما قلت لك، وكما يقول هو في إقالته لمحمد ولد الشيخ وكان أليمان وأحمد ولد محمد صالح وبا ممدو صنبولي بعد الأحداث مباشرة.. يحلل الرجلين (محمد ولد الشيخ وأحمد ولد محمد صالح) تحليلا رائعا فيقول إنهما رجلا دولة لا نظير لهما، وصديقان فيما بينهما، وأفكارهما تكاد أن لا تلتقي؛ فأحدهما ثوري وطني، والآخر محافظ وطني، لكن المحيطين بهما خلقوا عداء بينهما فلم يستطيعا إخماد الكثير من الأمور، إلى حد أن الناس أصبحوا ينظرون إلى أحدهما على أنه ممثل البيضان والثاني ممثل للزنوج بدل النظر إليهما باعتبارهما ممثلين للدولة الموريتانية!

أقالهما المختار وكأنما يذرف الدموع أسفا عليهما؛ فقد كان مرتبطا بهما بشدة وأعاناه في بناء موريتانيا، ولم يكن يريد التخلي عنهما لو لم يقع ما وقع.

ويقول إنه فوجئ بانتماء المرحوم صنبولي إلى معسكر محدد على أساس عرقي بدل أن يبقى ممثلا لجميع موريتانيا كما كان المرحوم يوسف كويتا.

هذا شيء من الماضي لكنه ماض جميل، وقد كتب عنه المختار وتناوله آخرون، وقد أردت أن أمر به.

تصنيف: 

دخول المستخدم