الخط السياسي الذي اختاره الآن السيد محمد جميل منصور الرئيس السابق لحزب تواصل واضح نسبيا: التحلي بالوسطية وتفادي القطيعة بشكل صريح وعلني مع الحزب وسياسته، وكذلك تفادي الصراعات المفتوحة مع أي كان من الفاعلين السياسيين؛ ورغم ذلك، تبقى الخلفية النظرية لفكره منبثقة من ما ناله وكدسه من ثقافة سياسية وفلسفة إسلامية خلال مشواره ألإخواني. ويوظفها احسن توظيف ما استطاع لذلك سبيلا وفقا لهذا الخط المعتدل والتوافقي الذي يسير عليه اليوم.
ومن آخر وأهم محطات مساره على هذا النهج ما أفصح عنه امس حول موضوع لحراطين الذي عالجه بحذر شديد، حيث كتب:
"تابعت بعض التسجيلات المنشورة عن نقاش هام دار في الأيام الماضية حول هوية الحراطين تحدثت فيه شخصيات وازنة أبرزها من هذه الشريحة أو هذا المكون ومن خلفيات سياسية متعددة، وكان الثراء والصراحة ميزتين بارزتين في هذا النقاش وقد رأيت أن أسهم فيه فقضية في هذا المستوى وبهذه الأهمية تغري بالمشاركة:
1 - حول تصنيف قضية الحراطين، هل نحن أمام مشكلة ثقافية تتعلق بالهوية أم نحن إزاء إشكال اقتصادي واجتماعي يحل بتغيير ظروف الناس وتحسين ظروف معاشهم ومستوى الخدمات المقدمة لهم، أم نحن في شأن يتعلق بحقوق الإنسان وإشكاليات العدالة، أم الموضوع موضوع سياسي يحل بالشراكة والتقديم والتمييز السياسي الإيجابي.
وقد رأيت معظم المتحدثين يميلون إلى أحادية الزاوية حصرا أو تركيزا، والظاهر والله أعلم أن قضية الحراطين قضية حقوقية لها انعكاسات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، أما كونها حقوقية فلإنها تتعلق بظلم وقع وحرية سلبت ومساواة مطلوبة وعدالة مرغوبة، وأما كون هذه القضية ذات انعكاسات في المجالات المذكورة فذاك هو شآن القضايا المجتمعية ذات الحمولة الكثيفة، فالرفاه الاقتصادي أو الكفاية وتحسين المستوى الاجتماعي والشراكة السياسية واعتبار الخصوصية الثقافية، ما لم تتأسس على مقاربة تحريرية تشكل مرجعية مسلم بها ومسلم لها تصبح علاجا محدودا قد يخفف ولكنه لا يضمن التحول والتغيير المطلوبين.
2 - حول هوية الحراطين، فإيقاع ظلم على جزء صغر أو كبر من شريحة إو مكون قومي معين لا يغير هوية هذا الجزء، فمختلف المكونات مارست الاسترقاق وتعرضت أجزاء منها لهذه المظلمة فهل خرج ضحايا الاسترقاق من هويتهم الثقافية والاجتماعية لأنهم ظلموا، من يطلق عليهم الحراطين ينتمون للمكون العربي في موريتانيا - ولا تهمني هنا قصة الأصول والتداخل الحاصل فيها فالهوية العربية هنا ثقافية - ولا أقول جزء من مجتمع البيظان، وخلفية هذا التفريق تستحضر ما استقرت عليه دلالة المصطلحات واستعمالاتها الإجرائية والخوف من إيحاءات سالبة في حالات دون أخرى.
3 - داخل المكون العربي في موريتانيا لا يمكن إنكار التمايز الحاصل بين البيظان والحراطين ويظهر في جغرافيا السكن وفي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وحتى في الجوانب الثقافية والفنية، وقد ساعد في هذا التمايز وترسيخه ما سماه الأستاذ المختار ولد نافع الهوية الطاردة والمطاردة، أي تلك التي تطاردك بمعنى تريدك إذا كانت تبغى كثرة على غيرها أو كثرة بعضها على بعض، وتطردك بمعنى لا تريدك إذا تعلق الأمر بالتقديم والريادة والتمثيل والاستفادة.
4 - إن حضور منطق الأغلبية والخلفية السياسية له عند عدد من الذين يتناولون هذا الموضوع أضاف تعقيدات إضافية، فالذين يتحدثون عن الأبرتايد لابد أن يوجدوا لها مشهدها (أغلبية سوداء باعتبار اللون مظلومة مقابل أقلية بيضاء ظالمة) والذين يعطون الأولوية للهوية العربية للبلاد يدعمون ما يريدون بمشهد (أغلبية عربية انطلاقا من الاعتبار الثقافي)
ومع أنني من الذين يرون عروبة الحراطين، فإن قصة لمن الأغلبية لا تمثل شاغلا لي، فالأغلبيات المعتبرة في فقه الديمقراطية والدولة المدنية هي الأغلبيات الاختيارية التي تفرزها صناديق الاقتراع والمفروض أن تكون على أساس الرؤى والبرامج أما الأغلبيات الجبرية القائمة على ما لا يختاره الإنسان (لونه، عرقه، شكله، ....) فلا اعتبار لها، ثم إن المواطنة في الدولة الحديثة هي أساس الانتماء وهي الهوية التي تسع الجميع وتنميتها وحمايتها والعمل بمقتضاها أهم من اعتبارات تحضر في الماضي أكثر مما تعني الحاضر والمستقبل.
5- مطالبة البعض بحسم الجانب الشرعي في هذا الموضوع مطلب مشروع وملح، صحيح أن تحسنا كبيرا حصل في نظرة عدد من الفقهاء والمهتمين بهذا الجانب، ولكن مع ذلك هناك حاجة للقطع مع التردد والتناقض الذين يظهران بين الفينة والأخرى عند البعض.
إن مقاربة تحريرية صريحة وجريئة تترجم في فتاوى واضحة وأدبيات مؤصلة أصبحت ضرورة.
إن حجم التوظيف الذي وقع للدين - بقراءات قاصرة خاطئة - لتبرير ممارسة الاسترقاق وظلم الحراطين يقتضي أن يسهم الدين - بقراءته الصحيحة - في التحرير والمساواة والمواطنة الحقة"*.
* المصدر : محمد جميل منصور (فيسبوك).
تصنيف: