لي ذكريات قديمة مع مدينة تجگجه ومدينة المجرية تعود إلى نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي.. وبما أن لها طعما لذيذا قلَّ أن عشت مثيلا له في المدن، والقرى و الأماكن الكثيرة التي نزلت بها، فإنني بقيت عدة عقود أتوق إلى تجديدها عبر زيارة للمنطقة كنت دائما أنويها، إلى أن تحقق لي الرجاء منذ أكثر من أربع سنوات.
كان ذلك في شهر نوفمبر 2016، وتزامنا مع زيارة قام بها الرئيس محمد ولد عبد العزيز آنذاك لولاية تگانت. وقرر موقع موريتانيا المعلومة، الذي أشرف عليه، القيام بتغطيتها. وفور وصولي عاصمة الولاية، صحبني صديق وقريب لي من السكان المقيمين في المدينة.
وفي اليوم الثاني من الزيارة، وبينما كنا نتجول بين نقاط وأماكن تذكارية مهمة بالنسبة لي شخصيا، مثل المدرسة الابتدائية رقم 1 وقبر كابولاني وغيرهما، اخبرنا أحد المارة يعرفه رفيقي أن قوما بدؤوا يتوافدون على الجهة الأخرى من البطحاء تحضيرا لاحتجاج على اعتقال أنصار لحركة "إيرا" المحظورة.
توجهنا فورا إلى عين المكان.. وما إن اقتربنا حتى تبين أن العدد قليل نسبيا -عشرة افراد أو أكثر بقليل- لكنه في تزايد. وسمات الغضب والتشنج بادية على وجهوهم وفي أقوالهم.
وقد كان من بينهم رجل يبدو يسير الحال من الناحية الفكرية والثقافية، رغم كون موجة الغضب العارمة قد جرفته. فسمعته يتحدث إليهم متحمسا ومستاء مثلهم.. والحاضرون يستمعون له ببالغ الاهتمام، وهو يقول:
-" لن نقبل باعتقال أي أحد تعسفا. وأعاهدكم على أنني سأظل معكم في هذا المكان أو غيره.. ولن انضم إلى موكب المستقبلين للرئيس الذي جئت إلى تجگجه من أجله حتى يتم حل المشكلة".
سألت قريبي عن هوية الرجل والجماعة التي معه. فأجابني بأن المعني هو ديدي ولد بِيَّ، وأن الآخرين من سكان المدينة وأن أكثريتهم من فئة لحراطين، ورقيفي يعرف جلهم فيما يبدو.
كنت اعلم أن ولد بِيَّ تقلد وظائف سامية في الدولة عديدة، إدارية وسياسية. لكن هذه أول مرة ألقاه وجه لوجه.. وأنا أتفاجأ بشدة اندفاعه لحد ولَّد لدي شعورا بالخوف من تأزيم الأوضاع. فقررتُ أن أحدثه في الموضوع.. وحاولتُ أن أكلمه على انفراد. وانتظرت عشرة دقائق تقريبا قبل أن يستجيب لطلبي، مشغولا بالنقاش والتشاورمع الغاضبين..
كان الوقت في فترة الزوال، مع بداية الظهيرة. ورغم أن مدة انتظاري كانت قصيرة، غير أن حرارة أشعة الشمس جعلتها تتمدد كثيرا حسب إحساسي.
ولما قدمت نفسي وأعربت له عن مخاوفي، رد علي بأن الحيلولة دون تأزيم الأوضاع تكمن في حل المشكلة المطروحة وفي صد الظلم عن المستضعفين.. وأن هذا هو دافعه الوحيد هو والجماعة التي معه. وبأنه شخصيا لا يقبل التفرقة بين الناس على أسس تقوم على الحرمان والتمييز العنصري بين مكونات هذا الشعب مثل" هذا بظان.. وذاك حرطان.. أو امرابط.. أو امْعلَّم" على حد قوله.
وكما أسلفتُ، كان الوقت في منتصف النهار وأشعة الشمس حارقة.. والتعب بدأ يأخذ مني . فغادرته هو وقومه. ثم علمت في ساعة بعد ذلك أن الموقوفين تم إطلاق سراحهم. ثم التقينا بعد الظهر على هامش اجتماع كبير دار ساعات في مباني الولاية، جمع بين رئيس الجمهورية وأطر الولاية، تأكدت فيه من صحة الخبر وهنأته على جراءته وقوة التزامه.
وكان ذلك آخر عهد لي بالسيد ديدي ولد بِيَّ إلى أن علمت منذ يومين بانفجار "قنبلة" دعائية ضده بسبب زلة لسان سيئة صدرت منه، وهي ترتبط بموروث ثقافي تمييزي يطفو دائما على الساحة، وبشكل عفوي، على السنة الموريتانيين .. بمن فيهم الفئات الأكثر تضررا من هذا الموروث .
ورغم كون صاحب زلة اللسان المذكورة ندم عليها بشكل لا يتصور، واعتذر بقوة شديدة، مرارا وتكرارا، فقد تسربت عنها وانتشرت أصداء مسمَّمة وخبيثة، ربما يختفي وراءها ويستغلها ساسة ماكرون... وينبغي على هؤلاء أن يأخذوا حذرهم لئلا يقعوا في نفس الورطة. فهم ليسوا في مأمن منها كما بينا.
لأن موروثنا الثقافي ،الشعبي والنخبوي، المثير للجدل أو ذا الطابع التمييزي – كما أسلفتُ- مترسخ بقوة شديدة في الذاكرة واللاشعور الجمعيين بدرجة تجعلنا جميعا، أيا كان انتماؤنا، الفئوي والطبقي أو السياسي والإيديولوجي، غير محصنين من زلات لسان مماثلة للتي سبقت الإشارة إليها أو حتى أشد شناعة.
البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)
تصنيف: