لقد شكلت انتخابات 22 /6/ 2019 الرئاسية علامة فارقة في الحياة السياسية الموريتانية، وخلقت منعطفا تاريخيا أسس لمرحلة جديدة مشرقة وواعدة بالخير والنماء. ومن خلال هذه التجربة السياسية الفريدة من نوعها في بلادنا وفي معظم إفريقيا والعالم العربي، شكلا ومضمونا، يستطيع المتتبع الكَيّس للشأن الموريتاني، استخلاص دروس وعبر جوهرية هي: أولا: قوة إرادة الشعب الموريتاني وبعد نظر قادته! لا شك في أن أهم ما في هذه العملية هو كونها وضعت - ولأول مرة- أسس دولة القانون في موريتانيا. ودولة القانون هي الدولة التي ينظمها ويحكمها دستور مصون يعبر عن إرادة الشعب بصفته ميثاقا وطنيا توافقيا شرعته واعتصمت به جميع مكونات وأطياف الأمة. وبهذا الإنجاز العظيم يزيح شعبنا - إلى الأبد- حاجز الجمود والانحطاط السياسي والاجتماعي الذي يرفعه في وجه تقدم ورقي الأمة الاستبداد والبغي واغتصاب السلطة والخلود فيها والتشبث الأعمى بها. وبديهي أن هذا النصر التاريخي لم يأت من فراغ؛ بل له حكاية طويلة وشيقة. إنها حكاية نضال الشعب الموريتاني الذي نهض باكرا من كبوة حرب الصحراء والانقلابات العسكرية الرجعية وناضل نحو ثلاثين سنة ضد الأنظمة العسكرية الاستبدادية الفاسدة، وضد العنصرية والعبودية والقمع والتهميش والقهر والهدر، وضد لعنة التطبيع مع العدو الإسرائيلي والانقياد الذليل لإملاءات السفارات الأجنبية، فتحدى السجون والمنافي والتعذيب والجوع والحرمان، وقدم عشرات الشهداء مهرا للحرية، وظل صامدا في درب النضال إلى أن أطاح في حركة 3 أغسطس 2005 المجيدة بفلول تلك الأنظمة والعهود المظلمة البغيضة، وأفرز قيادة محنكة حازمة وجريئة، وسن - عبر حوارات وانتفاضات ومؤتمرات ومناظرات عديدة- إصلاحات دستورية هيكلية رائدة رسمت معالم الدولة الوطنية الديمقراطية العادلة التي يريدها، فحد مدة مأمورية رئيس الجمهورية بخمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، ووضع سقفا لسن الترشح لرئاسة الجمهورية هو 75 سنة، وحظر مراجعة المادتين 26 و28 من الدستور، المتعلقتين بمدة مأمورية رئيس الجمهورية وشروط تجديدها (المادة 29 جديدة) وجرّم الانقلابات والرق والعنصرية.. إلخ. فأصبحنا كما قال أحمد شوقي: يبنون بالدستور حائـــــــط ملكهــم ** لا بالصـفاح ولا عــــــلى الأرماح هـــو هيكل الحريـــــة القـاني لــه ** ما للهـياكل من فـــــدى وأضـــــاحِ ينهار الاستبداد حـــــول عراصــه ** متحــطم الأصــــنـام والأشــبـــاح هو ما بنى الأعزال بالراحــات أو ** هــــــو ما بنى الشهـــداء بالأرواح. وانطلقت من هذه النقطة مسيرة البناء والأمن والتنمية في بلادنا: فأطلقت الحريات، وتم بناء جيش وطني قوي، وأمنت الحدود، وضبطت الحالة المدنية، وأصلحت قطاعات أساسية في الدولة كالاقتصاد والبنى التحتية والتعليم والصحة والعلاقات الخارجية، وأزيلت مدن الصفيح، وتوفر الماء والكهرباء والأمن الغذائي. وقد تم كل ذلك رغم تخاذل ونكوص بعض فصائل "قوى التغيير" وانضمام بعضها إلى معسكر أعداء الإصلاح، وضلوع بعض في محاولات زعزعة النظام الوطني والتأسي بغلاة "الربيع العربي" بدل أن يرفدوا حركة الإصلاح والبناء! لكن نواة الحركة الوطنية (وبالخصوص الرئيسان محمد ولد عبد العزيز ومحمد ولد الغزواني وصحبهما) صمدت على درب التحديات تقطر المسيرة الوطنية إلى غاياتها النهائية، فحققت - بحمد الله- الأمن والازدهار والتداول السلمي للسلطة، وأمنت عبورنا إلى بر الأمان، فرست سفينتنا على الجودي! وكان لهذه العوامل مجتمعة دور أساسي: أ. وعي وصمود الشعب الموريتاني الذي ظل خلال هذه المسيرة متشبثا ببوصلة الإصلاح، ووفيا لثوابته الوطنية، ومتمسكا بنهج الرجال الذين أنقذوه من الذل والهوان والقهر والدمار وحققوا له معظم ما يصبو إليه، وما يزالون يحدونه لتحقيق المزيد! فهذا الشعب هو الذي حافظ على الوحدة الوطنية والأمن والسلم الاجتماعي؛ وهو الذي حمى البلاد وأمن السلطة الوطنية من عواصف "الربيع العربي" الهوجاء وسياسة الرحيل الرعناء. وهو الذي قهر كيد الفساد والمفسدين، وهو الذي فرض وأجاز تعديل الدستور المتعلق بإلغاء مجلس الشيوخ، وتغيير العلم الوطني. وهو الذي جاء بأغلبية برلمانية وبلدية وجهوية مريحة، وهو الذي كرس استمرار النهج الوطني بانتخابه أحد قادة مسيرة الإصلاح وأبطال بناء الجيش واستتباب الأمن: الرئيس محمد ولد الشيخ محمد أحمد ولد الشيخ الغزواني، ليكون خير خلف لخير سلف! ب. وطنية وبُعد نظر وشجاعة ووفاء الرئيس محمد ولد عبد العزيز الذي انتصر على خصومه السياسيين الألداء، وعلى وسوسة أصدقائه وذويه وغيرهم من شياطين الإنس ودعاة المأمورية الثالثة، وأعلنها صريحة ومدوية في قصر المؤتمرات مساء الخميس الحادي والعشرين من أكتوبر 2016 أثناء اختتام الحوار الوطني الشامل، وفي مناسبات مهيبة أخرى: "سأحترم الدستور، وسأبر يميني، ولن أراجع المادتين 26 و28 من الدستور، ولن أترشح لمأمورية ثالثة مهما كانت الدواعي". ثم أعلن ترشيحه ودعمه وتأييده لأخيه وصديقه وشريكه في العمل الوطني فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ محمد أحمد ولد الشيخ الغزواني! وبذلك يكون فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز قد نجح في أداء مهمتين قلما وفق قائد في إنجازهما؛ ألا وهما: - التخلي طواعية عن السلطة والتغلب على جميع إغراءاتها. - تحضير وتهيئة الخلف الكفء الصالح. وهذه الأخيرة أهم من جميع الإنجازات الوطنية الكبرى؛ بما فيها الأمن والحرب على الفساد واحترام الدستور والتخلي طواعية عن السلطة، لأنها هي صمام أمن الوطن وضمان الحفاظ على المكاسب واستمرار النهج الوطني الإصلاحي. وإن تجارب دول مثل ساحل العاج والسودان والجزائر وغيرها لخير وأصدق دليل على ذلك! فإذا كان الشعب الموريتاني هو المهندس الأول لهذا النصر، فإن فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز هو المهندس الثاني له. ولولاه ما كان ليتحقق ما تحقق! ج. كفاءة وشجاعة وصبر مرشح الإجماع الوطني، فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ محمد أحمد ولد الشيخ الغزواني؛ فالرجل بحق هو المهندس الثالث الذي خولته خصاله الحميدة وشجاعته وصبره ومثابرته وثقافته الواسعة وخلقه العظيم - إضافة إلى تجربته ومكانته وإنجازاته الوطنية- أن يحقق هذا النصر! لقد فاجأ الرجل الموريتانيين في خطاب إعلان ترشحه في ملعب انواكشوط، وظل يفاجئهم خلال حملته الانتخابية يوما بعد يوم ومرحلة بع أخرى: لقد "وضع الألفاظ في موضعها" كما أوصى بذلك كونفشيوس، ولمس مكمن الداء، وكان ملما بخصوصيات مختلف مناطق البلاد، وداعيا إلى سبيله بالتي هي أحسن، ويعد ناخبيه بإنجاز الضروري والممكن، ولم يجمح خياله إلى مبتذل أو مستحيل! لقد ذكرني الرجل الذي لم نكن نعرف عنه سوى تفانيه في العمل وإخلاصه للوطن وصورة جامدة كالتمثال العتيق، عندما طفق يخطب بأعلى صوته ويعلن عن تعهداته، وللعهد عنده قيمة حسب قوله! بقائد ثوري فيتنامي كان يعمل خلال حرب التحرير وراء خطوط العدو؛ بل في عمقه، في إحدى المدن الكبرى. كان الناس لا يعرفون عن الرجل الذي يقود الثورة في مدينتهم سوى أنه أبكم وأصم؛ ومع ذلك فهو أمين في تعامله معهم ويحظى لذلك بعطفهم واحترامهم! وظل كذلك عشرين سنة إلى يوم تحرير تلك المدينة! يومها وقف الأبكم الأصم في ساحة النصر وأطلق صرخة مدوية سمعت في جميع أرجاء المدينة وطفق يخطب! ومن أهم إنجازات المرشح - فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ محمد أحمد ولد الشيخ الغزواني كونه أحبط كيد خصومه الذين راهنوا من أجل إسقاطه على فك الارتباط والوقيعة بينه وبين صديقه وداعمه الأساسي الرئيس محمد ولد عبد العزيز؛ فادعوا أنه مجرد مرشح شكلي، وأنه دمية في يد الرئيس الحقيقي، وذهب بهم الغلو إلى تزوير تعهد منه بالتنازل لصالح الرئيس محمد ولد عبد العزيز.. إلى آخر تلك الترهات. الشيء الذي جعل بعض المندسين في صفوف حملته (وهم كثر) يسقط في الفخ ويتبرأ من أية علاقة بين المرشح والرئيس محمد ولد عبد العزيز! أما التمثال فظل صامتا ما شاء الله، ولما قرر أن يتكلم سفه أحلامهم ونوه بعلاقاته الوطيدة الراسخة مع الرئيس محمد ولد عبد العزيز، وأظهر للجميع أنه جبل لا تهزه الرياح! وهنا تجدر الإشارة أيضا إلى: - أنه أول مترشح للرئاسة يعلن بين ظهراني فصيلته أثناء حملته الانتخابية أن انتماءه إليها لن يخولها حقوق غيرها ولن يحرمها حقوقها. - أنه أول مترشح للرئاسة يدعو الناس للتصويت على أساس الاقتناع، ويعلن أنه لا يريد التصويت له إلا ممن يقتنع ببرنامجه الانتخابي دون من لا يقتنع به. - أنه أول مترشح للرئاسة يعلن أثناء الحملة الانتخابية ضمان تمتع الموريتانيين بحقوقهم الوطنية دون غيرهم. د. اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات. لن نكون منصفين إذا لم ننوه في هذا الحديث بدور اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات ورئيسها وحكمائها والعاملين فيها، في تحقيق هذا النصر المؤزر! ذلك أن دور هذه اللجنة في تنظيم الاستحقاق الوطني تنظيما محكما وذا مصداقية، كان حاسما نظرا لما أبدته طواقمها من جد ونشاط وتضحية، وما تتمتع به تلك اللجنة من حرية واستقلال عن الإدارة والسلطة التنفيذية، وما تملكه من إمكانيات، وما تراكم لديها من خبرة. وهنا يمكننا القول إن من بين أهم إنجازاتنا الديمقراطية إنشاء ودعم وتمكين اللجنة الوطنية للانتخابات!
(يتبع)
بقلم : الأستاذ محمدٌ ولد إشدو
تصنيف: