حوار الساعة (ح 2): ذ. إشدو يروي بدايات الحراك الشبابي في ظل الدولة العصرية الموريتانية

الأستاذ إشدو: كنا ناصريين، لكني عند ما سافرت إلى فرنسا صيف 1963 من أجل دراسة اللغة الفرنسية ومررت بدكار، التقيت هناك شبابا أمدني بأسمائهم مهاجر لبناني زار انواكشوط، وكان أول ضيف عربي ينزل في فندق مرحبا، فأخذته من الفندق وآويته في بيتي الجديد في ابلوكات. تعرفت على أولئك الشاب وصاروا أصدقائي، وعن طريقهم عرفنا حركة القوميين العرب، وعرفنا كارثة فلسطين.

وعند عودتي من فرنسا جمعت مجموعة من الأصدقاء وأسسنا  فرعا سريا لحركة القوميين العرب.

المختار باب: ما هي الأدوار التي كانت تقوم بها تلك الجماعة؟

ذ. إشدو: أكثرهم قادم من الريف إلى العاصمة بحثا عن وسيلة للتعلم. أحمدو ولد عبد القادر قادم من معهد أبي تلميت. فاضل ولد الداه قادم من البادية. المحجوب ولد بيه كذلك. بينما كان محمد المصطفى ولد بدر الدين ومحمدو الناجي ولد محمد أحمد معلمين. وجل هؤلاء ذهبوا إلى مصر للدراسة، ولم يبق هنا من المجموعة غيري أنا والأستاذ أحمدو ولد عبد القادر.

المختار باب: تاريخ مهم، ويهمنا جميعا.. لكن متى تأكدت أن للشباب دورا يجب أن يلعبه؛ خصوصا في السياسة؟

ذ. إشدو: في سنة 1964 بعد عودتي من فرنسا، وتشكيل فرع حركة القوميين العرب هنا، عقد المؤتمر الأخير لرابطة الشباب الموريتاني، وقد حضرته وألقيت فيه قصيدة هي الأولى في ديوان "أغاني الوطن" عنوانها رسالة الشباب. أقول فيها:

ألا اتحدي شبيبتنا وثوري ** وسيري نحو تقرير المصير.

إلى أن أقول:

شبيبة يعرب لبي ندائي ** لقد أودى العذاب بنا فثوري.

فهذه القصيدة تركز على دور الشباب. وربما نبعت من العناية التي أوليناها للشباب آنذاك وتنظيمنا للشباب، وحركة الشباب التي فجرناها فكرة الرئيس المختار - رحمه الله- حين قال: "إن موريتانيا هي ما يصنعه بها شبابها".

المختار باب: هل يمكن أن تذكر بالأسماء من كان يرأس هذه الأنشطة؟

ذ. إشدو: حركة القوميين العرب هنا - كما قلت لكم- قبل رجوع الجماعة التي سافرت إلى القاهرة، كانت تتألف من شخصين أو ثلاثة أو أربعة.

المختار باب: من هم بالأسماء؟

ذ. إشدو: أنا والأستاذ الشاعر الكبير أحمدو ولد عبد القادر، فنحن من أنشأ مجلة "موريتانيا الفتاة" ومن خلالها بدأنا ننشر الفكر القومي العربي التقدمي، وندعو للتحرر وجلْيِ الهوية. أن تتحرر موريتانيا من الهيمنة والاستعمار الجديد الفرنسيين، وتستعيد هويتها العربية الإفريقية. هذه هي البداية.

وبعد سنة تقريبا التحق بنا المرحوم سميدع، وفي تلك الفترة أو بعدها بقليل التحق بنا بدن ولد عابدين ومحمد الحسن ولد لبات. هؤلاء إذن هم من كان يقود النضال القومي الوطني في هذه البلاد في تلك الفترة.

المختار باب: هل أثمر هذا النضال القومي الوطني آنذاك، وماذا كانت ثمرته؟

ذ. إشدو: أثمر جدا.. ولم تلبث حركتنا الشبابية أن توسعت وأصبحت وطنية وتشمل كافة القوميات والفئات والشرائح، وفرضت نفسها على النظام وحاورته واتفقت معه على تحقيق الأهداف الوطنية المرحلية.

فنظام الرئيس المختار كان يحوي جناحين: جناحا محافظا ومتحفظا من الشباب، إن لم نقل: يعاديه. وجناحا منفتحا على الشباب ويرى أن الشباب قادر على خدمة الدولة الناشئة. وفعلا أثمرت جهود الشباب.

المختار باب: هنا نتحول من انفتاح الرئيس آنذاك على الشباب إلى الانفتاح اليوم. ما تقويمكم لتعاطي النظام الحالي، وانفتاح الدولة عموما في العقد الأخير على الشباب، ودور الشباب بشكل عام، انطلاقا من تجربتكم الرائدة آنذاك ومتابعتكم للساحة؟

ذ. إشدو: سأضيف كلمتين ردا على سؤالكم هل أثمر نضال الشباب. ما حققته موريتانيا، ويتمثل في مراجعة الاتفاقيات المذلة مع فرنسا، وإنشاء العملة، وتأميم ميفرما، مما وفَّر قاعدة اقتصادية للبلاد، ترسيم اللغة العربية واللغات الوطنية الأخرى، وما واكب ذلك من سياسات تقدمية واجتماعية. كل هذا جاء نتيجة نضال الشباب، فالواقع أنه ثمرة لعملنا؛ ففي سنة 1974 نظم ما سمي يومها مهرجان الشباب؛ وهو في واقع الأمر ملتقى حواري بين الشباب الثائر والنظام، والتقينا فيه مع الحكومة، واتفقنا على كثير من مطالبنا. حدث هذا في أغسطس، وفي نوفمبر تم تأميم ميفرما، لتنخرط البلاد نهائيا في نهج التقدم والنماء.

المختار باب: هل كان هذا نضالا تطوعيا بحتا من أجل الوطن، أم كانت وراءه مآرب أخرى؟

ذ. إشدو: لا لا، فالشباب آنذاك وشباب اليوم بينهما فرق كبير. لا في موريتانيا فقط؛ بل وفي العالم كله. كان الشباب آنذاك يُدفع دفعا ليتحمل المسؤوليات الإدارية والسياسية فيكون مديرين وسفراء ووزراء.. إلى غير ذلك من أصحاب الياقات البيضاء، وهو رافض، لأنه يفضل الوقوف في خندق الشعب والعمل من أجل الشعب؛ بينما شباب اليوم لهم اهتمامات أخرى ومآرب أخرى.

إذن هذا النضال كان وطنيا جماهيريا ومن أجل الشعب. والذين قاموا به لا يعتمدون على أية دولة أجنبية ولا يأخذون خمس أواق من طرف خارجي، وما يعمله أهله من منشورات وجرائد ومظاهرات وغيرها كان على نفقتهم.

ولقد أصدرنا نهاية 1972 "صيحة المظلوم" وكانت توزع في عموم البلاد، وهذا بجهودنا الخاصة.

أما الانفتاح على الشباب في هذه الآونة فأراه طبيعيا. والخير كله في الشباب. هناك المقولة الأخرى (والشر كله في الشباب) لكن من غير الممكن صنع شيء مهم في هذه البلاد دون الشباب؛ خاصة وأنه أغلبية.

وقد انتبه الرئيس المختار ولد داداه إلى أمرين، وأظن أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز قد انتبه إليهما أيضا واعتمدهما. الرئيس المختار ولد داداه يقول في كتابه "موريتانيا على درب التحديات" إن مسألة الوحدة الوطنية قاعدة أساسية في سياسة موريتانيا، وأي مسؤول لم يعتن بها ويعتمد عليها ويعالجها فإنه لم يفهم شيئا من أوضاع موريتانيا وسيَضيع ويُضيع موريتانيا. كذلك انتبه المختار ولد داداه لدور الشباب.

وأرى أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز قد انتبه – هو أيضا- لمكانة وأهمية الوحدة الوطنية، فبدأ بعلاج الصدع الخطير الذي أصابها. ولأهمية دور الشباب؛ فاعتمد على الشباب، وانفتح على الشباب، وأنشأ مجلسا أعلى للشباب، وبوأ مجموعة من الشباب الواعي المثقف مكانة قيادية في الدولة.

المختار باب: ما الذي يميز المدرسة العمومية آنذاك، وأنتم شباب، وكان نشاطكم ونضالكم في بدايات التمدرس. ما هو تأثير المدرسة آنذاك؟

ذ. إشدو: المدرسة آنذاك كانت جمهورية بالرغم من عيوبها الموروثة عن الاستعمار؛ كانت اللغة العربية غائبة تقريبا في بعض مراحلها، لكنها كانت مدرسة جمهورية للجميع، وهي سلم الرقي. أولا لم يكن التعليم الخاص قد وجد بعد. والتعليم الخاص، وإن كان أدى دورا مهما ودرس الكثير من التلاميذ والطلاب، فإنه فتح أيضا ثغرات خطيرة جدا تجب معالَجتها!

لم يكن التعليم الخاص موجودا إذن، وليبرالية التعليم لم تكن موجودة، وكانت المدرسة العمومية لكل الناس، وكان يُبذَل الكثير من الجهود بغية تحسينها. وأعطيك مثالا.. أنا سنة 1973 كنت المطلوب رقم 1 للسلطة، وكنت فيما يسمى السرية وقتها، وفي نفس الوقت كان أطفالي يدرسون في المدرسة رقم 8 (مدرسة البرلمان) جنبا إلى جنب مع أطفال الرئيس المختار ولد داداه، وكانوا زملاءهم وأصدقاءهم!

كانت المدرسة آنذاك تدرّس علوما مهمة جدا، كالفلسفة؛ وخاصة الفلسفة الألمانية، وكالثورة الفرنسية وسائر التاريخ. هذه الأمور ربما اختفت - أو كادت تختفي- من المدرسة العمومية اليوم؛ لذا فقدت روحها. وهي أمور تلقي الضوء على عصر النهضة والتنوير.. إلخ، ولها أهمية كبرى في التكوين وحفز الطموح.

وهذا ما أشرت إليه في كتاب "حتى لا نركع مرة أخرى" ضمن نقد نواقص مناهج التربية في أزمنة الانحطاط التي خرجنا منها بالكاد، وما زلنا نعاني رواسبها، حيث ورد: وما ظنكم بنابتة ما "كرّرت" نصوص "الألفية" و"خليل" على وبيص النيران، ولا تحفظ "الستي" و"الوسيط" و"أمهات لبتيت" ولا إلمام لها بـ"أزوان" إطلاقا، ولم تقتبس شيئا من فكر النهضة أو تعاليم الأفغاني ومحمد عبده؛ ناهيك عن الثورة الفرنسية أو الفلسفة الألمانية أو أعمال شكسبير وموليير وهيغو وفولتير وروسو، الذين لم تسمع بهم قط! وتلعن نزار قباني وأدونيس ودرويش لكفرهم!

تصنيف: 

دخول المستخدم