نشرت المجلة المصرفية والمالية الإفريقية، آفريكان بانكر، في عددها الأخير، مقابلة مع محافظ البنك المركزي الموريتاني، السيد عبد العزيز ولد الداهي، تناولت مختلف المواضيع الاقتصادية والمالية بموريتانيا. وصرح السيد المحافظ خلال المقابلة بأنه تم "إنشاء مركز وطني للدفع، يضم مختلف الفاعلين في المجال، سيشكل لبنة هامة في عملية تحديث وعصرنة النظام المصرفي في موريتانيا". وقال السيد المحافظ : "إن الهدف النهائي هو الحد بشكل كبير من استخدام النقد عن طريق استبدال وسائل الدفع الحالية بأخرى بديلة تعتبر أكثر أمانا وكفاءة وأقل تكلفة".
وفيما يلي نص المقابلة كاملة
"مراجعة النظام الأساسي، سن قانون مصرفي جديد، إصلاح نقدي، تطوير وتحديث وسائل الدفع، إدخال حلول وابتكارات تكنولوجية... مواضيع سيتحدث عنها السيد المحافظ في إطار تقديمه للتغييرات التي تم اعتمادها من قبل البنك المركزي الموريتاني.
من بين أمور أخرى، يقاس التحول والتطور في أي بلد من البلدان بوضع نظامه المصرفي والمالي. وفي موريتانيا، تتحرك الخطوط بوتيرة متسارعة لرسم معالم نموذج اقتصادي جديد. وشيئا فشيئا يتم تدارك النقص الحاصل، سيما وأن البلاد غنية بسطحها وما تحت سطحها. كما يتدخل المانحون - البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، الوكالة الفرنسية للتنمية، وغيرها – لتعزيز قدرات البلد على اكتساب أفضل الممارسات وعلى إتقان المؤشرات الاقتصادية.
وقد جاء الزخم الأهم في الأشهر الأخيرة، من البنك المركزي الموريتاني الذي جعل من الإصلاح النقدي محورا استراتيجيا لعمله. وإذا كانت المديونية والتضخم والقواعد الاحترازية... تخضع لمتابعة دؤوبة من البنك، فإن إطلاق إصدار جديد من الأوقية لعب دورا هاما في زيادة نسبة الصيرفة في صفوف السكان الذين اتضحت لهم المصلحة في فتح حسابات مصرفية عندما قرروا التخلي عن الإصدار القديم من العملة؛ حيث قام 15.000 شخص بفتح حسابات مصرفية في وقت قصير.
آفريكان بانكر : ما هو وضع الاقتصاد الموريتاني من وجهة نظر البنك المركزي؟
السيد المحافظ : الاقتصاد الموريتاني على ما يرام؛ حيث إن آفاق النمو تتيح للبلد تعزيز المنجزات الأساسية، ولا سيما بفضل العائدات المتوقعة للغاز؛ فالتضخم تحت السيطرة في حدود 2,3%، والحكومة تتفاوض مع صندوق النقد الدولي سعيا للحصول على ميزانية تكميلية. ومن جانبنا فإننا نسعى لإطلاق سياسة نقدية أكثر ديناميكية في ضوء التدفق المتوقع للعملات الأجنبية، كما نسعى لتحسين إدارة تمويل القطاع المصرفي للقطاع الخاص الموريتاني لينشط أكثر في قطاع الاستثمار. وحين يتم تنفيذ الإصلاحات الهيكلية، فإننا سنحد من التضخم المستورد مع وارداتنا الكبيرة من المحروقات والمواد الغذائية.
أما بالنسبة لمستوى مديونيتنا، فإنها تظل معقولة بالنظر إلى الاستثمارات الكبيرة في مجال البنية التحتية التي كان علينا القيام بها؛ حيث تمثل هذه المديونية 72% من الناتج المحلي الإجمالي.
آفريكان بانكر : ابتداء من فاتح يناير 2018، وضعتم للتداول أوقية جديدة على أساس من 10 إلى 1 بالنسبة للأوقية القديمة. فما هي الحاجة التي دعت إلى هذا التسييل الآن؟
السيد المحافظ : يمكنني ذكر 3 أسباب رئيسية هامة لهذا الإصلاح النقدي : مكافحة التضخم المقنّع، وذلك من خلال نقص كتلة الأوراق النقدية المتداولة، ومن ثَم تسهيل التبادلات التجارية، وخفض تكاليف صيانة العملة الوطنية، والتي كانت عالية بسبب الانتشار والاستخدام المفرطيْن للنقد في موريتانيا على غرار معظم البلدان الأفريقية؛ وتحسين جودة الأوراق النقدية لمواجهة تزييف العملات.
آفريكان بانكر : وقد يرى فيه البعض خفضا مقَـنّعا لقيمة العملة؟
السيد المحافظ : على الإطلاق؛ بل إننا نعاني من تآكل نقدي قوي جدا منذ إنشاء الأوقية سنة 1973. إن هذه هي المرة الأولى في تاريخ العملة الوطنية، التي يكون فيها التغيير شاملا لكل إصدار الأوقية، بما في ذلك القطع النقدية التي كانت أهميتها النقدية ضعيفة... حتى أن هذه القطع خرجت عن التداول، وهو ما أدى إلى زيادات غير مبررة في الأسعار.
وسيسمح لنا رد الاعتبار التداولي للقطع النقدية واستبدال الأوراق النقدية القديمة من فئتي 100 و200 أوقية بقطع نقدية من فئتي 10 و20 أوقية جديدة، بخفض كبير لتكاليف تسيير وإدارة وصيانة العملة الوطنية. وبما أن تكاليف صيانة القطع النقدية تعد أقل بكثير من تكاليف صيانة الأوراق النقدية، فقد قررنا في الإصلاح النقدي الجديد جعل الوحدات النقدية الأكثر تداولا في السوق الموريتاني قطعا نقدية.
آفريكان بانكر : لقد اخترتم طباعة الأوراق النقدية على مادة البوليمر، وهو ابتكار جديد بالنسبة لإفريقيا. فلماذا هذا الاختيار؟
السيد المحافظ : بالفعل، لقد اعتمدت بلدان كبيرة مثل كندا وأستراليا ونيوزيلندا وبعض الدول الآسيوية هذه التكنولوجيا الثورية. وقد حرصنا على تبني هذا الخيار؛ لأن هذه المادة تزيد من ديمومة الأوراق النقدية، وتقلل –بالتالي-من تكلفة صيانة العملة وتحد من تزييفها وتزويرها؛ حيث إن هذه الأوراق غير قابلة للتزوير.
وتثبت الدراسات أن ورقة البوليمير تدوم حوالي تسع سنوات، ونحن نُقدِّر أنها ستدوم خمس سنوات على الأقل في بلادنا، نظرا لبيئتها الخاصة. ومن شأن هذا المعطى أن يجعلنا نسترجع خلال ثلاث سنوات جميع ما استثمرناه على إنتاج وطبع الأوراق النقدية في كندا وعلى إنتاج وسك القطع النقدية لدى موني دي باريس (Monnaie de Paris ),
آفريكان بانكر : بعد عدة أشهر من إطلاق هذه العملية، هل أنتم راضون عنها؟
السيد المحافظ : بالتأكيد، خاصة أنه لم يتم تسجيل أي حادث يذكر، رغم أنه كان يتحتم تزويد كافة أرجاء موريتانيا الشاسعة بالإصدار الجديد من الأوقية و، في ذات الوقت، سحب الإصدار القديم. واليوم، ومنذ فاتح يوليو 2018، لم يعد قيد التداول في موريتانيا سوى الإصدار الجديد من العملة الوطنية، وإن كان بإمكان المستخدمين أن يستبدلوا القليل المتبقي من الإصدار القديم لدى شبابيك البنك المركزي الموريتاني إلى غاية 31 دجمبر 2018. وبفضل حملة الاتصال واسعة النطاق التي قمنا بها واستهدفت جميع المستخدمين عبر جميع قنوات الاتصال الموجودة، فقد تجاوزت النتائج التي تم الحصول عليها بكثير كل تطلعاتنا : بعد خمسة أشهر من بدء العملية، كنا قد استرجعنا بالفعل أكثر من 95% من قيمة الكتلة التي كانت متداولة في السابق، وأملنا كبير في أن نتمكن من استرداد النسبة المتبقية، أي 5%، قبل نهاية السنة.
إلى ذلك لعبت شبكة الفروع المصرفية التي تغطي تقريبا كافة التراب الوطني، دورا رئيسيا في نجاح العملية؛ حيث وفرت للمستخدمين، بما في ذلك أولئك الذين لا يمتلكون حسابات مصرفية، خدمة استبدال الإصدار القديم بالجديد، بشكل سري ومجاني. وينطبق الشيء نفسه على الخزينة العامة والموريتانية للبريد (موريبوصت) اللتين عبأتا شبكتيهما الوطنيتين لإنجاح هذه العملية. واغتنمت البنوك التجارية هذه الفرصة لعرض خدمة فتح حسابات جديدة مجانا، كانت نتيجتها أن تم فتح حوالي 15.000 حساب مصرفي جديد، تنضاف إلى حوالي 300.000 حساب مصرفي كانت موجودة في السابق. وبذلك يرتفع معدل الصيرفة في موريتانيا إلى 30% إذا أخذنا بعين الاعتبار مؤسسات التمويل الصغرى، وما بين 14% و15% إذا لم نأخذها في الحسبان.
آفريكان بانكر : يعد تسريع مسار تطوير الدفع الإلكتروني واحدا من الأسباب الرئيسية التي دعت إلى هذا الإصلاح، فأين أنتم منه ؟
السيد المحافظ : بالفعل تعد عصرنة أنظمة ووسائل الدفع لدينا واحدا من المحاور الرئيسية لاستراتيجيتنا. وهدفها النهائي هو الحد بشكل كبير من استخدام النقد، من خلال ترقية وسائل أخرى للدفع أكثر أمانا وفعالية وأقل تكلفة. ويندرج الإصلاح الحالي في إطار عصرنة التسيير النقدي.
وفيما يتعلق بالدفع الإلكتروني، سيتم قريبا تزويد المؤسسات الكبيرة بأجهزة الدفع الإلكتروني (TPE) وإطلاق خدمة الدفع عبر الإنترنت، كما أن ثمة مساعي متقدمة جدا في إطار الاستعداد لإطلاق نظام الصيرفة عبر الهاتف.
وبالتوازي مع ذلك أطلقنا عدة ورشات أخرى بإطلاقنا، يوم 9 يوليو 2018، مشروع دعم عصرنة البنية التحتية المالية (PAMIF) بمبلغ ناهز 5,6 مليون دولار على مدى 36 شهرا. ويهدف هذا المشروع الذي حظي بدعم البنك الإفريقي للتنمية إلى تبسيط وتأمين وتوثيق وزيادة التدفقات المالية، ومن ثم تمكين ظهور خدمات مالية رقمية جديدة تلبي احتياجات السكان. وسيتم تمويل المشروع بقرض مدعوم من الصندوق الإفريقي للتنمية بقيمة 5 ملايين دولار أمريكي يتم تسديده على مدى 25 سنة، فيما تساهم الحكومة الموريتانية بمبلغ 600.000 دولار أمريكي. وسيكمل هذا المشروع تدخلات أخرى للبنك المركزي في إطار تحسين مناخ الأعمال وتوفير الموارد المالية من البنوك التجارية لدعم تنمية المؤسسات الخاصة في البلد. وصادقت الحكومة الموريتانية على المشروع في دجمبر 2018، واعتمده البرلمان يوم 31 مايو 2018.
آفريكان بانكر : هل ما زالت هناك عقبات إدارية أو قانونية يجب رفعها قبل أن تتمكن موريتانيا من دخول النظام النقدي الدولي المعاصر ؟
السيد المحافظ : بالتأكيد، ولكن سيتم الانتهاء من مراجعة الإطار القانوني في وقت قصير جدا، لتتضمن سن قانون جديد بشأن وسائل الدفع يتيح ظهور فاعلين جدد، لا سيما الوسطاء الماليين للدفع بالتجزئة. كما أننا نخطط لإطلاق نظام وطني للدفع سيضم مختلف الجهات المعنية، وسيكون بمثابة حجر الزاوية في عملية تحديث النظام المصرفي والمالي في موريتانيا.
آفريكان بانكر : أين أنتم من مراجعة نظامكم الأساسي ومن برنامجكم الطموح للتحول التنظيمي؟
السيد المحافظ : لقد أنشأنا مركز القيادة والتوجيه الاستراتيجي خصيصا لهذا الغرض، وأطلقنا بالتزامن معه برنامج التحول التنظيمي، الواسع النطاق؛ لكي نضمن مراعاة ضرورة سن تشريعات جديدة، وأخذ توقعات المواطنين والموظفين والفاعلين الاقتصاديين بعين الاعتبار، علاوة على تحسين العلاقات مع الشركاء والامتثال للمعايير والنظم الدولية المرعية.
كما اعتمدنا خارطة طريق لأكثر من 40 مشروعا طالت جميع مجالات أنشطتنا (العمليات البنكية، المهنة المصرفية، السياسة النقدية، تسيير النقد، الحكامة، الهيكلة، نظم المعلومات، رأس المال البشري... إلى غير ذلك). ويتمثل الهدف المنشود في تحول عميق لأنظمة إدارة البنك وعملياته وهيكله التنظيمي، من خلال إصلاحات جذرية، ولكنها تدرجية، تسمح، في النهاية، بتحسين أداء البنك.
آفريكان بانكر : فيما يتعلق بتسيير المصادر البشرية، فإن موريتانيا تسعى بشكل حثيث للـ "مرتنة"، فهل هذا هو الحال أيضا في البنك المركزي الموريتاني؟
السيد المحافظ : على مستوى البنك المركزي، نحن نعتمد منهجا لإدارة التغيير يقوم على الاتصال الداخلي. وقد مكّننا هذا النهج التشاركي والشامل من الحصول على التزام قوي وانخراط واسع من عمال البنك المركزي الموريتاني في جميع مشاريع التحول التي أطلقناها. ورغم ظهور أنواع مختلفة من مقاومة التغيير، وهو أمر طبيعي، فقد تمكنا من إقناع الجميع بها.
وفيما يتعلق بالاستثمار في رأس المال البشري، فهو، بالطبع، أمر ضروري وهام؛ حيث إن المصادر البشرية قابلة للتحسين، ونحن بحاجة مستمرة لكفاءات جديدة، نظرا للتطور الذي تعرفه موريتانيا. وقد قمنا في البنك المركزي الموريتاني بتطوير سوقنا المالية، ونسعى، في أفق سنة 2021، لإنشاء سوق للأسهم، بغية تنويع مصادر التمويل لدينا. ونحن على دراية تامة بالتوقعات التي ستنجر عن ذلك، وسنقوم بما يلزم لتلبيتها.
آفريكان بانكر : ما الذي تقومون به للحماية من الجريمة السيبرانية؟
السيد المحافظ : إنها مشكلة شاملة تتجاوز القارة الإفريقية؛ بل يمكن القول إن قارتنا ظلت، حتى الآن، بمأمن من هذه الآفة، نظرا لأنظمتنا المعلوماتية قليلة الانفتاح. ولكن الجريمة السبرانية في النهاية ستصل إلينا، مع التحديث والخدمات عبر الإنترنت. إنه أمر لا مفر منه، وبالتالي علينا أن نستعد له. وهذا ما جعلنا في البنك المركزي الموريتاني ننشئ خلية للتكنولوجيا المالية والجريمة السيبرانية.
فيما يخص محاربة غسيل الأموال، فإن موريتانيا عضو في مجموعة العمل المالي (GAFI). وفي هذا الصدد توجد خلية لتحليل البيانات المالية تسهر على مراقبة جميع التدفقات المالية، بما في ذلك تلك التي يمكن أن تأتي من أنشطة إرهابية وتمر عبر موريتانيا.
لقد أوقفت موريتانيا في الماضي إرهابيين ومهربين للمخدرات. ونظرا لحدودنا الشاسعة مع كل من المغرب ومالي والسنغال، فإن أفضل شيء نفعله هو اليقظة الدائمة والحذر المستمر. صحيح أننا لحد الساعة لم نلحظ تحركا ماليا مشبوها يمكن أن يقلقنا، لكن هذا لا يعني أنه غير موجود. ولهذا السبب تحديدا، نحن نحتاج للحذر الدائم ليتسنى لنا التعامل مع أي طارئ.
حاورته في انواكشوط موفدتنا كريستين هولزباور
تصنيف: