مساء أمس التقيت في قاعة المحاضرات والعروض بالمركز الثقافي الفرنسي (IFM*) احمد.. وهو موظف سابق في وزارة الخارجية الموريتانية؛ جلسنا معا في الصف الأخير ننتظر ريثما يبدأ عرض ونقاش فيلم " الروح الصامتة" للسينمائية الفرنسية فرانسواز ديمكسييه.
وهذا الفيلم عبارة عن تجربة فنية فريدة من نوعها عاشتها المؤلفة هي والفنان التشكيلي الموريتاني الشاب عمر بال معا في قرية بابابي وضواحيها. و سبق لي أن كتبت عنه نصا منذ أقل من سنتين تم نشره في شكل مقال برمجت السيدة فرانسواز ديمكسييه هي وإدارة ال (IFM) قراءته من طرف الشابة الموريتانية سالمته باه بعد العرض مباشرة كمدخل لنقاش الفيلم.
وكانت وما زالت تربطني باحمد علاقات صداقة قديمة تتغذى على كثير من المشاعر والآراء كنا نتقاسمها كلما سنحت الفرصة.. كما حدث مساء أمس.
حينها وبينما كنا نتبادل أنا وإياه أطراف الحديث، قال لي هذا الدبلوماسي المتقاعد:
"كثيرا ما تابعت مداخلاتك في وسائل الإعلام حول الرؤية الإستراتيجية الموريتانية في مجال محاربة الإرهاب وسياستها الأمنية بشكل عام. وأنا أشاطرك الرأي: إنها مقاربة جيدة. والدليل على ذلك بيِّن للعيان : الحالة الأمنية التي ينعم بها البلد منذ سبع سنوات على الأقل رغم المحيط الجيوسياسي المطرب.. المتمثل في الهجمات الإرهابية المتكررة والأزمات السياسية والحروب الأهلية التي لم تخمد نارها في بعض البلدان المجاورة وفي منطقة الساحل : مالي، النيجر، ليبيا، الصحراء الغربية، بوركينا فاسو، تشاد... ناهيك عما يجري بشكل عام في العالم العربي والقارة الإفريقيةǃ
غير أنني أرى أنه كان جديرا بك في هذا المقام وبالدولة أيضا أن تبرزوا الدور النشط والبناء لدبلوماسيتنا.. خاصة في الفترة الراهنة. ففعلا يلاحظ اليوم أن سفينة سياستنا الخارجية تسير تبعا لاتجاه واضح أعطاها حيوية تُحسد عليها هي و الربان الذي يقود سفينتها.
فبدلا من روح الارتجال والتذبذب بين سياسة "الكرسي الفارغ" من جهة، والحضور الشكلي في بعض المحافل الدولية والإقليمية المحدودة من جهة أخرى، التي خيمت عليها كثيرا في الماضي، فإن وزير الخارجية الحالي يقودها بمنهجية راقية رغم العواصف والأمواج."
قاطعته، قائلا:
"فعلا الدكتور إسلك ولد احمد إزيد بيه رجل ... consciencieux.. يعني متفان في عمله. وحتى من لا يحبونه أعتقد أنهم يعترفون له بذلك."
أجابني احمد:
"ما يروجه حساده من مزاعم وتشويش، هو جزأ مما تتشكل منه الأمواج والعواصف التي أشرتُ إليها آنفا.. والتي يحاول البعض زرعها على طريق المسيرة الجيدة الراهنة لدبلوماسيتنا.
وبقدر ما تعرف أن الأداة العسكرية والأمنية تتطلب تماسك مكوناتها البشرية وولاء المرؤوس لرئيسه، فإن الأداة الدبلوماسية مثلها : لا محل فيها للعصيانǃ
سألته :
" يعني أن ..."
استرجع الكلام بسرعة قبل أن أفصح عن سؤالي الذي تبين من رده أنه كان سيجيب عليه حتى وإن لم اطرحه.. حيث قال:
"لكل أحد مشاغله وهمومه الشخصية. الموظفون والمسؤولون لا يشذون عن هذا الواقع. وفي بلادنا مع الأسف فإن بعضهم - لئلا أقول جلهم - يحرص على إعلاء أموره الشخصية، السياسية والمادية، حتى ولو كان ذلك على حساب مهمة الخدمة العمومية (mission de service public) التي أوكلت إليه.. وأي تصرف يتعرض له من الغير لا يدعمه في هذا المنحى يعتبره - ليس خسارة وقت بالنسبة له فحسب- بل أمرا مضرا به يجب عليه رفضه ومحاربته بكل ما أوتي من وسائل.
فعندما يكون موضوعَ إجراء إداري لا يرضيه.. كتحويل من وظيفة إلى أخرى مثلا أو من مكان إلى مكان.. يعتبر الإجراء "جريمة سياسية لا تغتفر اقترفها الوزير فلان أو المدير فلان في حقه بسبب المشكلة الشخصية الفلانية معه أو مع أحد من ذويه"، حسب ما يروجه المعني عن نفسه وعن رئيسه. وكأن الوظيفة العمومية وكل ما يرتبط بها تقتصر على علاقات شخصية، أو أسرية، أو عشائرية، مع الوزير أو المدير الذي سيكون "ظالما شريرا" إن هو تصرف تجاه مرؤوسه من منظور مخالف لهذه الزاوية الأنانية الضيقةǃ
ولا شك أن هذا النوع من السلوك المفتقر إلى المدنية .. الذي يتصف أهله بعدم المهنية.. متفش لدرجة لا يستهان بها في أوساط قطاع الخارجية وفي القطاعات المدنية الأخرى في بلادنا.. بينما هو غريب عليكم تماما- انتم العسكريين".
ضحكت بصوت عال قبل أن أرد عليه:
"عسى ربي أن يجعلها حقا ǃ"؛
أجابني مبتسما بدوره.. وبهدوئه وصرامته المعهودين:
"اعرف أن الكمال لله وحده..عز وجل. لكنني اعرف أيضا- وأنت توافقني على ذلك- أن الضمير المهني أفضل بكثير في القوات المسلحة مما هو سائد في أوساط الدولة الأخرى وحتى مما هو موجود في القطاع الخاص. أليس هذا صحيحا؟ǃ"
أجبته.. بنبرة خجولة:
" نعم... لحد ما"
استغرب حذري، قائلا:
" لماذا تقول: " لحد ما" ؟ǃ.. كلنا نعرف أن البحث عن روح الانضباط والمهنية هو ما يدفع بالمؤسسات الخاصة إلى أن تعطي الأسبقية في سياساتها في مجال المصادر البشرية لاكتتاب العسكريين السابقين..."
قاطعته، مازحا :
" لماذا لم تنبئني بهؤلاء المكتتِبين من قبلُ؟ اخبرْهم فورا- إن كانت لديك صداقات أو معرفة فاعلة في القطاع الخاص - أنني ضابط متقاعد ومنضبط.. وأنني ابحث عن عمل أبرهن لهم من خلاله على مهنيتي..."
في تلك اللحظة انقطع الضوء في القاعة.. وظهر عنوان كبير على الشاشة : " الروح الصامتة".. وانقطع معه الحديث بيننا.
البخاري محمد مؤمل
(يتواصل)
--------------------
institut Français de Mauritanie*
تصنيف: