لقد بدأت إذن مع رابعة سنوات الاستقلال دورة جديدة من النضال الوطني، بعد أن انتهت وخبت دورة النهضة الوطنية؛ وتلك بعض إرهاصاتها.
كانت انواكشوط يومها صغيرة جدا حيث حدودها الوزارات شرقا، والرئاسة شمالا، وورشة بناء المستشفى الوطني الحالي غربا، ومخبزة صنبا ومدينة ج جنوبا. لا مستشفى، ولا جامعة، ولا طوابق، ولا تلفزة، ولا طرق معبدة عدا شارع الكثيب (جمال عبد الناصر) ولا مصانع ولا موانئ ولا رأسمال وطني. وكل البضائع تستورد عن طريق ميناء داكار. والوصول إلى شرق البلاد وشمالها يستغرق ما بين أربعة أيام إلى خمسة. وجل مناطق البلاد لا يصله بث إذاعة الوطن. ولا أثر للغة العربية في دواوين الدولة أو في الحياة العامة. ومع ذلك فقد كانت لدى نواة النظام المركزية إرادة وطنية لا تقهر في العمل - حسب ما لديها من قوة وإمكانيات، وحسب طبيعتها الاجتماعية- على تدبير الشأن العام وتغيير الأوضاع المأساوية إلى الأفضل.
كانت خلية حركة القوميين العرب الناشئة في موريتانيا قد نظمت في 15 مايو 1964 (أي قبل لقاء شنقيط بعام) أول مظاهرة تجوب شوارع مدينة انواكشوط منددة باحتلال فلسطين وقيام دويلة إسرائيل المغتصبة. وقد انطلقت تلك المظاهرة من دار أهل عدود في الحي "أ" حيث أعدت لافتاتها وأحكم تنظيمها.
وفي السنة الدراسية 1964 - 1965 جرت في نفس السياق مناشدة التلميذ سيدي محمد ولد سميدع للرئيس المختار ولد داداهمن أجل ترسيم اللغة العربية عندما زار الثانوية الوطنية التي كانت يومئذ بمثابة جامعة. وفي حفل ختم دروس تلك السنة أيضا ألقى الأستاذ محمذن ولد باباه خطابه التاريخي الذي دعا فيه إلى ترسيم اللغة العربية، ووقف فيه إلى جانب تلاميذ الثانوية والحركة الوطنية الجديدة المناوئة للاستعمار الجديد والاستلاب، التي تقودها نواة القوميين العرب السرية ويشكل تلاميذ الثانويات والمعلمون العرب وقودها. وقد احتدم الصراع في تلك السنة بين معسكرين: معسكر شاب جديد يتألف من طلاب المرحلة الإعدادية والثانوية ومعلمي المدارس الابتدائية والأهالي من جهة، والسفارة الفرنسية والمتفرنسين من مساعدة أجنبية وغيرها، وقوده جل الأطر الناطقين بالفرنسية وبعض التلاميذ المنحدرين من الضفة،والذين وسوس لهم بأن مصيرهم مرتبط بلغة وثقافة المستعمر، وأن التعريب سوف يهمشهم ويبتلعهم.
وبدأت معالم هذه المرحلة تنجلي في أتون أحداث 1966 وما واكبها من تطورات توجتها وحددت طبيعتها ومسارها النهائي هزيمة حزيران سنة 1967 وانتفاضة عمال ازيرات في 29 مايو 1968.
يومئذ بدأت الحركة الوطنية الموريتانية تتجه إلى اليسار؛ الشيء الذي أدى إلى انقسامها إلى فئتين: فئة راديكالية تبنت الأفكار والأساليب الاشتراكية (الكادحون) وفئة ظلت محافظة تتبنى المواقف القومية العربية التقليدية (الناصريون والبعثيون).
واحتدم صراع لا هوادة فيه في تلك المرحلة بين الكادحين والنظام من نهاية الستينيات إلى منتصف السبعينيات، بلغ حد كسر العظم. ورغم ذلك فإن شلة شباب شنقيط التي ثبتت على المواقف القومية المحافظة والتحق بعض عناصرها الأساسيين بأجهزة الأمن الوطني مثل محمد الحنشي وانكراني، ظلت عموما وفية وبعيدة عما يؤذي أصدقاء الأمس، ولم يكن في ممارساتها شطط أو تجاوز. وكذلك خلايا ومناصرو القوميين العرب في أطار. وهذا أمر يذكر فيشكر.
ونجح الحوار الذي دعا إليه الكادحون، وقامت الوحدة الوطنية حول الإصلاحات الوطنية وتأميم ميفرما التي أعطت الاستقلال الوطني معنى ومضمونا في مختلف المجالات، فعادت المياه الوطنية إلى مجاريها وتصالحت موريتانياوانطلقت إلى العلياء.
وجاءت حرب الصحراء وانقلاب العاشر من يوليو فهدما ما بنته سياسة الوحدة الوطنية الموريتانية وعصفا بالبلاد. وفجأة سيطرت النواة الموالية للبوليزاريو وحلفائها في المنطقة على الحكم بعد أن تم التخلص من الرئيس أحمد ولد بوسيف في ظروف غامضة. لقد اختطفوا موريتانيا وسبوها، فتداعى أبناؤها البررة يفدونها بأرواحهم من كل حدب وصوب.
لم يكتب النجاح لحركة 16 مارس الباسلة التي لم يكن أبناء مدينة شنقيط غرباء عليها؛ بل كانوا في خضمها وأتونها. فعمت البلاد موجة لا نظير لها من القمع والمحاكمات العسكرية والإعدامات. هنالك لعب المفوض انكراني الذي كان يشرف على الأمن في انواكشوط دورا وطنيا بطوليا تمثل في إنقاذ بعض عناصر تلك الحركة من حبل المشنقة، وفي معاملته الطيبة لمئات المعتقلين، وفي التعليمات التي زود بها عناصر الشرطة الذين أشرفوا على إجلاء المعتقلين إلى معتقلات ومنافي الداخل.
هذا إضافة إلى ما طبع حياته المهنية من جد واجتهاد في إرساء الأمن والنظام ومحاربة الجريمة المنظمة والمجرمين؛ ومن دفاع عن شرف مهنة المفوض التي حاول بعض السياسيين في صراعاتهم على السلطة، تمريغها في الوحل من خلال تهمة ملفقة وجهت إلى جميع قادة الأمن في البلاد، فانبرى لهم المفوض انكراني في محاكمة مشهودة،ففند أكاذيبهم وأثبت براءته وبراءة قومه. وكنت طبعا إلى جانبه لما دعاني!
فتحية إلى روح المفوض انكراني الزكية الطاهرة وعرفان الوطن له بذلك الجميل! ورحم الله السلف وبارك في الخلف.
بقلم الاستاذ محمدّ ولد إشدو
تصنيف: