لإن كانت الحقيقة هي الصدق في تعارضه مع الكذب وهي الواقع في تعارضه مع الوهم، ولإن كان الإنصاف هو الموضوعية التي تقتضي من الإنسان إنصاف الإنسان؛ بل وحتى إنصاف نفسه من نفسه؛ فلا يضعها فوق ما تستحق ولا يذلها فيجعلها دون ما تستحق، ولا يلصقها بما هي منه براء والحال هذه مع غيره، ومن أنصف نفسه أنصف الآخر وكان موضوعيا؛ ثم إن الإنصاف توأم العدل-كما يقال- والإنصاف من شيم الأشراف.
وبعيدا عن الجدل الفلسفي الذي يربط الحقيقة بالكذب والحيرة والشك؛ الذي قد يقول البعض بضده أو يحتار بين الأقوال أو يكون في دوامة شك حول ما هو حقيقي بالأساس، فإن الإنسان عندما يؤكد وجود أو وقوع أمر ما فهو يعتبره حقيقيا وينفي بذلك ضده، هذا إذا كانت نقطة الإنطلاق منبعثة من ضمير في تمام الصحوة ويقظة الوجدان وما يتطلبه ذلك من امتلاك القدرة على التمييز بين الأعمال الخاطئة وتلك الصائبة، وبالتالي معرقة الحق حقيقة من الباطل واستحضار الشعور المناسب؛ ندما مع تعارض الأفعال والأقوال مع القيم الأخلاقية، أو فرحا واستقامة وانتشاء عند اتفاق التصرف أو التصريح مع القيم والثوابت الأخلاقية.
نعم؛ لقد شهدت بلادنا تحولات عميقة وكان من ضمنها تغير مشهد العاصمة من عاصمة ذات شوارع قليلة ومتهالكة؛ إلى مدينة ذات شبكة طرق شوراعها كبيرة وفسيحة؛ ولها إنارة مميزة وصديقة للبيئة، كما حدثت تغيرات أخرى مشهودة تتعلق بالبنية التحتية في مختلف المجالات الخدمية.
صحيح أننا لم نصل إلى الحد الذي يجعل العاصمة مبهرة أو ذات مميزات تفوق ما حظيت به عواصم دول الجوار؛ لكننا إذا نظرنا إلى الأمس وقابلناه باليوم؛ فسندرك التطور الحاصل والتقدم المشاهد، البادي للعيان في وضوح وتجل تام، وسنستشرف غدا أفضل؛ إن ظل المسار في هذا الإتجاه بغط النظر عن سرعة أو تباطؤ الخطوات.
إن إضافة رموز اعتبارية لتخليد المقاومة الوطنية؛ لا يسمى تشويها، وإضافة الحماس الوطني إلى أبيات التوحيد المجيدة الموجودة في النشيد؛ لايسمى فبركة ولا هو بحرب معلنة أو خفية على الدين، إذا خلا الأمر من المبالغة والتفخيخ والشحن والشيطنة واستعاضة الحقيقة بالمجاز والإنصاف بعدم الاعتراف وتحييد الضمير، والتغافل عن حال الأجيال اليوم؛ التي ابتعدت كثيرا عن روح الدين وتعاليمه ولم تدخل في حضن الوطنية ولم تطرق آذانها مآذن المناداة بذلك.
قد لا يكون العيب في أجيال اليوم بقدر ما هو في قصور الرسائل التي ينبغي أن تحمل في طياتها شحذ الهمم وإيقاظ الروح الوطنية وتنمية الوحدة الوطنية وزرع ثقافة الندية والمساواة بعيدا عن اللاوطنية والقبلية والجهوية والتبعية والاستعلاء.
مشاركة الجيش في حملة النظافة لا يعني بالأساس حصول الكارثة، إنما هو درس متكرر؛ دأبت المؤسسة العسكرية على تقديمه من أجل تغيير عقلية المواطن المتجذرة حول الجيش والتي مفادها أنه بعيد من المواطن وأن خدمته للوطن ترتبط بالخشونة والرباط على الثقور.. الحمد لله الثقور آمنة؛ وكون الجيش حامي الحمى يتولى نظافة الشوارع بين البيوت الناعمة؛ فهذا يعني أن الكل مسؤول عن المشاركة في النظافة كل من موقعه وحين ما تستوعب الرسالة ويفهم الدرس؛ سيقوم كل مواطن بدوره، وحينها لن توجد قمامة ولن يحمل المواطن القمامة من مسكنه ويضعها دون الحاوية الفارغة والمعدة أصلا لاحتواء القمامة، ولن تبعد جارة الأوساخ عن مسكنها إلى جنب مسكن جارتها ولن يترصد آخر نوم الجيران كي يضيق بها الأزقة الموجودة في الحي.. وهي المشاهد والعقليات البائدة التي تلعب الدور الأساسي في استفحال أمر القمامة وخروجها عن السيطرة!!.
محاربة الفساد وإنارة الرأي العام مسؤولية الجميع؛ وظهور إسهام الكل فيها شرف ونبل؛ إذا تم الابتعاد عن التخندقات السياسية، وما تصدر البلاد للمشهد العربي في حرية الإعلام؛ إلا دليلا واضحا ونتاجا لثمار نضجت في هذا المجال.
نجاح الحكومات أو فشلها إذا قابله إنصاف يعترف بالحاصل ويثمنه ويطلب المفقود؛ ذكرت المحاسن واشرأبت الأعناق إلى المؤمل.
الحديث عن المأموريات وغيرها مما يدور في فلكها بأسلوب الاستحضار؛ نوع من اللهو المعاد وجوابه الشافي في تجاهله..
نتفق على أن تحسين أوضاع المواطنين ونشر العدالة والمساواة، وجعل الفرص متكافئة أمام الجميع، وحل مشكل البطالة ومخلفات الاسترقاق، وجسر الهوة بين الطبقات سبيلا إلى خلق طبقة وسطى عريضة؛ عكس المشهد الماضي؛ الذي يزداد فيه الفقير فقرا ويزداد فيه الغني عنى، وتتسع الهوة بينهما أمر مرفوض ولا يمكن تجاوزه إلا بالعدالة الاجتماعية التامة؛ التي ننشدها ونتفاءل خيرا بحصولها؛ لما رأينا من بوادر ذلك، وإن كانت الخطوات بطيئة أحيانا؛ لمجموعة من الأسباب؛ منها ماهو ممكن التجاوز من طرف الحكومة ونرجو لها ذلك في الآفاق القريبة، ومنها ما هو خارج عن سيطرتها على الأقل في الحين؛ وإن كانت التفاعلات الإقليمية والعالمية قد تفضي إلى قلب المشهد إيجابا؛ وتتاح فرصة التغلب على النواقص ويتم تجاوز الخلل..
وفي انتظار كل الخطوات المفضية إلى تلك المآلات؛ إلى متى يمكن أن نقدم الحقيقة مجردة عن المجاز؟
ومتى نعتمد الإنصاف دستور بيننا؟
وهل بامكان مثقفينا الإنطلاق من إملاءات الضمير المشبع بالصحوة المتجرد من التبعية والارتهان والتخندق السياسي ؟.
عثمان جدو
تصنيف: