لقد كانت موريتانيا قبل الثالث من أغسطس المجيد تعاني من استشراء الفساد والقمع والاضطهاد، فوضعت حركة الثالث من أغسطس حدا لمعاناتها. وهنا يكمن طابعها الوطني التقدمي الإصلاحي. وخلال الفترة الانتقالية فتح ملف شركة "وود سايد" وملحقات اتفاقيتها التي صادق عليها البرلمان دون أن تتعتب بابه. فلجأت الحكومة الانتقالية إلى اللفيف السابق ذكره لحماية حقوقها. ويتشكل اللفيف من ثمانية محامين هم: النقيب يعقوب جالو، والأساتذة إبراهيم بن أبتي، يربه ولد أحمد صالح، المختار ولد اعلي، الحسن ولد المختار، عبد القادر ولد محمد سعيد، درامي محمد، وكاتب هذه السطور. وقد استدعانا الرئيس مرتين إلى القصر الذي لم يدخله جلنا قط، وكان آخر عهد لي به منتصف سنة 1963. في المرة الأولى حدثنا الرئيس عن خطورة المهمة الموكلة إلينا، وعن آفاق المرحلة الانتقالية، وعن الأخطار التي تهدد الوطن فقال: "لا تخيفني الضغوط الدولية؛ إنها ستنفرج. ولا أخشى الحالة الاقتصادية؛إننا سنتغلب عليها لا محالة. ولا الوضع الأمني؛ فهو تحت السيطرة.. إن أخشى ما أخشاه هو المستوى الذي وصل إليه الفساد في البلاد! إننا إذا استطعنا خلال الفترة الانتقالية أن نسترجع ولو أربعين في المائة من أخلاقنا وقيمنا، سنكون حققنا نجاحا منقطع النظير. فالمهم عندنا في قضية وود سايد هو أن يدرك شركاؤنا أن الزمن الذي كانت فيه ملايين الدولارات تصم وتبكم وتعمي المسؤول الموريتاني فيتركهم سدى يسرحون ويمرحون ويفعلون ما يريدون قد ولى إلى غير رجعة". وفعلا كانت قضية "وود سايد" أول مسمار يدق في نعش الفساد العتيد العنيد.
وفي لقائنا الثاني معه شكرَنا الرئيس على نجاحنا في مهمتنا، وحدثنا عن اكتشافات النفط الهائلة في البلاد! ولما كانت حركة الثالث من أغسطس المباركة قد حددت معالم الفترة الانتقالية فحررت أغلبية سجناء الرأي وأطلقت الحريات العامة، وكرست ضمانات التناوب في الدستور، ونأت بنفسها عن الاحتفاظ بالسلطة أو ترشح أي من قادتها للاستحقاقات الوطنية، وحرصت على تطبيق ذلك بحزم نال إجماع وإعجاب الطيف السياسي، فقد كانت هناك ثغرات انتهزتُ فرصة اللقاء لعرضها على الرئيس؛ وهي: إطلاق سراح من تم استثناؤهم من السجناء الإسلاميين بسبب اتهامهم بالارتباط بالقاعدة، السماح للتيار الإسلامي بالتعبير عن نفسه (وكنت دعوت إلى ذلك في مقال نشر بتاريخ الأربعاء 7 يونيو 06 - حتى لا نركع مرة أخرى ص 113) وقطع العلاقات مع إسرائيل. بيد أنه كرجل دولة متبصر ورجل أمن حازم كان صريحا وصارما في رفض مهادنة الإرهاب، والترخيص لحزب إسلامي، وكان يخشى على بلاده من مغبة قطع العلاقات مع إسرائيل؛ مثله مثل جل قادة أحزاب قوى التغيير يومئذ. ومع ذلك فقد تم إطلاق جميع السجناء في عهده المبارك.
وانتهى اللقاء فخرج معنا مشيعا، فعبرت له عن رغبتي في مقابلته على انفراد فيما بعد لتعميق هذا النقاش. ورغم عدم استجابته لطلبي - ربما بسبب كثرة مشاغله- فإنه أصر على دعوتي إلى جل النشاطات المرتبطة بالرئاسة؛ سواء أكانت داخل القصر أم خارجه.
وانقضت المرحلة الانتقالية بالصورة التي ما نزال نتذكرها جميعا؛ والتي هي حصيلة ميزان قوة مختل لصالح المفسدين "المستقلين" وأنصار النظام. ميزان قوة بيضة قبانه المال الحرام الذي لا تملك بعض الأوساط في قوى التغيير مناعة ضده.
ورضي الجميع على مضض بـ"حكم صناديق الاقتراع" وعاد الجيش إلى ثكناته. ولكن الوضع الجديد لم يستتب؛ إذ سرعان ما عجز الرئيس "المنتخب" عن مواجهة تغلغل المفسدين في محيطه وصد محاولات سيطرتهم عليه. وجاءت الحكومة الثانية في عهده لتكرس الرجوع إلى المربع الأول والجنوح عن سبيل التغيير، فاندلعت ثورة الجياع، وتمرد النواب وبعض القوى السياسية، وانقلب الجيش على انقلاب المفسدين بالرئيس!
لم أكن راضيا عن انحرافات وإخفاقات ذلك العهد، وقد تفاءلت خيرا بحركة تصحيح 6 أغسطس 08، وتمنيت من أعماق قلبي أن يعزها الله بالعمرين معا: أحمد ولد داداه، واعلي ولد محمد فال؛ وذلك ليشارك الأول في عهدها الإصلاحي ويدعم مسيرتها، وليرعاها ويحميها الثاني!
وقد تشكلت على الفور جبهة معارضة جديدة باسم "الدفاع عن الديمقراطية" ضمت مختلف الأطياف الموالية للعهد المطاح به والمتضررة من الإصلاح، وأعلنت كهدف رئيسي رجوع الرئيس المطاح به إلى السلطة.
... وتقابلنا من جديد في عزاء، فضرب لي موعدا ضحى اليوم الموالي بمنزله العامر، واستقبلني ببشاشته وأريحيته المعهودتين.
تطرقنا قليلا للماضي وتوقفنا عند بعض أخطائه، كنت أعلم أن اقتراح ترشيح الرئيس "المؤتمن" كانمن عنده، وإن قيل إنه قد تخلى عنه في مرحلة لاحقة أثناءالحملة لصالح منافسه الرئيسي دون أن يحظى موقفه الجديد بتأييد أغلبية رفاقه في المجلس العسكري؛ وعرجنا على تحالفات الشوط الثاني التي رجحت كفة الرئيس سيدي على حساب الرئيس أحمد، فأكد لي أن أهمها كان من صنع رجلي أعمال مشهورين يتمتعان بنفوذ مطلق على رئيس حزب التحالف الشعبي. ولم نتفق حول الموقف من حركة تصحيح السادس من أغسطس 08، وكان من الطبيعي أن نختلف. فقد رأى فيها الرئيس أعلي أنها تمرد على الشرعية واغتيال للديمقراطية التي جاء الجيش من أجل تكريسها، وأيد عودة الرئيس "المنتخب" إلى مزاولة مهمات منصبه. أما أنا فرحبت بتلك الحركة لأني كنت أعتبر مجيء الرئيس المنتخب إلى السلطة انحرافا لمسار المرحلة الانتقالية وتزويرا لإرادة الشعب، أيا كان المسؤول عنه. وقد أعلنت في مقابلة مع جريدة الحرية عندما توجه الرئيس محمد ولد عبد العزيز إلى الحي الساكن ما يلي: "... وهناك ظاهرة الجنرال محمد ولد عبد العزيز وصحبه. لقد أطلق هذا القائد العسكري وعودا، وأدلى بتصريحات، وقام بمعاينات، واتخذ إجراءات تلامس شغاف قلوب المواطنين المهدورين سدى منذ عشرات السنين، وتعبر عن مصالحهم لم يسبقه إليها إنس ولا جان منذ العاشر من يوليو 1978! فهل الرجل يعي ما يقول، ويدرك ما يترتب عليه من نتائج، وما يفتح أو يسد من آفاق؟ ظاهرة محمد ولد عبد العزيز لا يمكن تجاهلها والتعامي عنها؛ بل تجب على كل السياسيين والمحللين مراقبتها عن كثب" (أزمة الحكم في موريتانيا، ص 97). ولم يفعلوا! لكن اختلاف وجهات نظرنا لم يؤثر على صداقتنا وعلى الود القائم بيننا والإعجاب والاحترام المتبادل. لقد كنت - ككثيرين غيري- نرى فيه الجبل الذي يمنع الوطن من أن يميد، واحتياطي ورصيد الجمهورية، والكبير الذي لن يسمح للصغار بتجاوز حدودهم. ولكنني لم أتصور لجهلي أنه سيفارقنا بهذه السرعة.
... وتعطلت لغة الحوار حين لاح سراب "ربيع عربي" كاذب شامَتْ بروقَهُ وشدَّت رحالها إليه صيفا معارضة اختلط فيها الحابل بالنابل كما اختلطا في الموالاة؛ بينما كان ينبغي - ويجب ويمكن- أن تظل عملية ووطنية وشريفة وخالصة ونقية من أدران المفسدينوالعنصريين والعملاء والظلاميين الإرهابيين.
رحم الله الرئيس اعلي ولد محمد فال فقيد الأمة الموريتانية، وأسكنه فسيح جناته، وألهمنا وذويه الصبر والسلوان، وبارك في خلفه الأخيار. إنه سميع مجيب.
الأستاذ محمدٌ ولد إشدو
تصنيف: