كنا قد بدأنا في الحلقة الماضية بتعريف النخبة تعريفا علميا، لكون أزمتها هي مناط بحثنا، ولما لدورها من أهمية في المجتمع؛ وربطنا طبيعتها وعملها بماهية الثقافة التي تحملها، (ويحملها المجتمع من حولها) وقدمنا على ذلك نموذجا نخبة الاستقلال.
ونريد، في بداية هذه الحلقة، أن نعرّف الثقافة التي هي من حيث الأساس البناء الفوقي المعنوي للمجتمع المادي القائم. وإن كانت تؤثر فيه بدورها. خاصة عندما يعتنقها الناس وتصبح قوة مادية تصهر وتعيد صياغة المجتمعات.
والثقافة هي: "مجموعة العقائد والقيم والقواعد التي يتقبلها أفراد المجتمع". و: "وسيلة تجمع بين الأفراد عن طريق مجموعة من العوامل السياسية، والاجتماعية، والفكرية، والمعرفية، وغيرها من العوامل الأخرى". و:"المظاهر الحضارية التي تميز كل فرد أو مجموعة من البشر عن غيرهم، وتشمل تلك المظاهر اللغة، والعادات والتقاليد، والسلوكيات، والتعامل مع المنتج الحضاري التكنولوجي، والموقف من التاريخ والأصول".
وفي هذه المرحلة التي نعالج فيها اليوم تعاطي النخبة مع الشأن الوطني، مرحلة الانقلاب على نظام الرئيس المختار ولد داداه، لا بد لنا من أن ننبه على أن ذلك الانقلاب لم يطح بالسلطة المدنية الوطنية الشرعية فحسب؛ بل أطاح كذلك بالدولة، وبنخبة الاستقلال الوطنية التي أنشأت الدولة، وبالثقافة الوطنية الديمقراطية التي حملتها وحمتها تلك النخبة؛ وحمل إلى السلطة نخبة أخرى، من طبيعة أخرى، تحمل – وتخلق- ثقافة أخرى ومجتمعا آخر.
لقد حلت الجزمة الخشنة السوداء محل الياقة البيضاء، والقوة محل الحق، والجشع محل القناعة، والتأول محل الورع. واختفت مفاهيم المصلحة الوطنية، والدولة، والفصل بين السلطة والمال. لتترك مكانها كرها للمصلحة الفردية، وروح العترة، والجهة، والعنصر، والفئة الاجتماعية.
وقد انقسمت مرحلة الانقلاب إلى فترتين:
الأولى: فترة ما قبل "الديمقراطية". وفيها كانت النخبة الحاكمة ضيقة جدا؛ إذ هي اللجنة العسكرية والوزراء والشيوخ والوجهاء وملاك الشركات الخاصة ومديرو شركات الدولة والبنوك وقادة التطوع والهياكل؛ أي منفذو الانقلاب وأشياعهم. وقد استمرؤوا نهب المال العام والأرض، وحصدوا مختلف الامتيازات رغم ما عانوه من مضايقة العقبات الأخلاقية والقانونية الموروثة عن عهد الاستقلال، والتي ظلت سنين عصية على التصفية. ولم تتسع دائرة النخبة فتشمل جحافل غزاة تعاطي الشأن العام القابلين للفساد والإفساد إلا مع ظهور "المسلسل الديمقراطي" ووفاة السيدة الأولى - رحمها الله- التي كانت تثني زوجها عن ممارسة بعض التصرفات الهدامة.
والثانية: فترة "المسلسل الديمقراطي". وقد شكلت هذه الفترة علامة فارقة في حياة المجتمع الموريتاني، ومنعطفا حادا في مرحلة الانقلاب. إذ شبت النخبة الحاكمة فيها عن طوق القيادة العشائرية التقليدية للانقلاب، وتمردت علنا على العوائق الأخلاقية والقانونية الموروثة، وشقت طريقها بنفسها إلى هدفها المنشود: تحصيل المال وكنزه، والجمع بينه وبين السلطة؛ خلافا لما كان سائدا في عهد الاستقلال. وقد استعانت في ذلك بجيوش وزمر منبتة الأصل والفرع، رزقت موهبة التماهي والاندماج في الدور المدمر المرسوم لها سلفا. وذلك في محيط اتسم بتعطيل القانون وإطلاق اليد في تزوير الهويات والمؤهلات، والعبث المطلق بالشيء العام؛ بما في ذلك المؤسسات الوطنية والأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية والصحف، وتسخير كل شيء في خدمة السلطان. ولعبت "معاهد" و"جامعات" قبلية وأيديولوجية صورية تنشط في الداخل والخارج دورا مخزيا في تفريخ وتكاثر ذلك النشء الجديد.
وفي خضم الطفرة التي صاحبت هذا التوجه طغت الليبرالية المتوحشة، وتحكم أفراد وعائلات قليلة في الاقتصاد، واستحوذوا بمختلف الوسائل والسبل على القطاع العام، والمال العام، اللذين تمت مقايضة إطلاق اليد فيهما وفي الأرض والعرض وفي المتاجرة بكل شيء (المخدرات، والأسلحة، والسجائر، والبشر) بالولاء المطلق للسلطة. وأصبحت البلاد سائبة فعلا. لا ناهي فيها ولا منتهي. فازدهرت ثقافة الاستهلاك والفساد (التزوير، والتبتيب، والگزره، والترگاع، والرشوة، والاختلاس، والوساطة، واستغلال النفوذ) وبدأ التنافس والتطاول في البنيان واقتناء السيارات الرباعية الفارهة، وقضاء العطل في الخارج، والمغالاة في المهور، ورمي النقود على المطربين والمخنثين.. الخ.
وزادوا على كل ذلك فدمروا الحضارة الموريتانية والوحدة الوطنية لما دمروا المدرسة بفصل التعليم من جهة، وإطلاق العنان للتعليم الحر دون وازع أو رقيب. ودمروا الأسرة لما نهبوا الدولة وعطلوا القانون وكدسوا المال الحرام والسلطة في أيدي فئة قليلة ممن لا يرحمون ففتحوا باب الگزرة وفرقوا بين المرء وزوجه وبنيه. كما دمروا القدوة والأسوة الحسنة لما وأدوا رموز الدولة والمجتمع والدين والأخلاق المتفانين في حب وخدمة الوطن.. وسخّروا الإعلام في تلميع وعبادة الأوثان. فصار الناس ما بين واصل إلى تلك الرتبة والمكان الصعب.. فطوبى له، أو طامح للوصول مهما كلفه ذلك من ثمن، وقلبه يلهج: {يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم}...
وهذا ما عناه ودونه يومئذ شاعر حساني فقال:
يَا مُورِيتَانْ اعْلِيكْ نَوّْ |
|
سَوّْ امْرَگَّبْ وِاعْلِيكْ جَوّْ |
وكانت حصيلة سعي تلك النخبة ما ذُكِرَ غداة محاولة انقلاب يونيه 03 في نقاط أربع ضمن مقال نُشِر آنذاك:
- مصادرة الديمقراطية
ولا يختلف اثنان اليوم، بعد انقضاء مأموريتين رئاسيتين، على أن ديموقراطيتنا صودرت وعطلت وأفرغ مسلسلها من محتواه على يد بطانة امتهنت النفاق، وأهلكت الحرث والنسل:
* أضيفت مادة إلى الدستور (المادة 104) عطلت الحريات التي شرعها، وذلك بتبنيها العمل بالقوانين الاستثنائية!
* زورت الانتخابات باعتراف النظام نفسه!
* حلت الأحزاب المعتبرة.
* احتكر الإعلام الرسمي ودجن، وصودرت الصحف المعتبرة وأوقفت وحوصرت بالجرائد الصفراء.
* انتهكت الحريات واضطهد وحوكم أصحاب الرأي.
* أما الطاعون.. فتجسده صناعة النفاق التي تزرع التملق والكذب والفسق والفساد في المجتمع؛ خاصة بين الفئة المتعلمة، طريقا إلى قلب النظام والوصول إلى المال والجاه والترف! متخذة من القبيلة والجهة والفئة والعنصر أوكارا لها!
- خراب الاقتصاد
وفي المجال الاقتصادي، أدت الليبرالية الهمجية التي تم تبنيها إلى خراب الاقتصاد الوطني:
* بيعت مؤسسات القطاع العام بأوقية رمزية إلى حواريي النظام، أو "فككت وألقيت في البحر".
* دمرت المؤسسات الصناعية التي كانت قائمة ومزدهرة، فرفعت الحماية عنها، وفتح على مصراعيه باب منافستها وإغراقها بالبضائع الأجنبية من كل حدب وصوب!
* سرّعت وتيرة نهب الثروة السمكية بلا حدود أو رقابة، وأهمل الأسطول الوطني فتلاشى واندثر!
* نُهِبَ المالُ العام، وجُعِل دولة بين الأغنياء والمسؤولين دون مساءلة أو عقاب!
* أفلست "خطط التقويم" التي تشرف عليها مؤسسات النقد الدولية إفلاسا ذريعا، وآلت إلى كومة من الأرقام المزورة تحرسها مكاتب الاقتصاد والمالية! وطارت الأسعار! وهبطت الأوقية! وتردت الزراعة! ونفقت الماشية!
- انهيار المجتمع
وليس غريبا في وضع كهذا - يفتقر فيه الإنسان إلى أدنى حد من الحماية والتأهيل والتوجيه - أن تستفحل البطالة، وتعم المجاعة، وتنتشر الأمراض والأوبئة، وتنهار القيم والأخلاق إلى الدرك الأسفل! يضاف إلى ذلك ما تنفثه "مؤسسات" قبلية وعنصرية وجهوية ومحسوبية، من سموم في جسم المجتمع، وما تسببه مخلفات ورواسب عبودية، لا تزال تنخرنا، من انفصام، عرى، وإثارة أحقاد، واستعار فتن.
- تعطيل القانون
ورابعة أثافي، هذه اللوحة البائسة هي نكران العدالة وتعطيل القانون بفعل تبعية السلطة القضائية للسلطة التنفيذية، ووطأة الحاجة التي لا يوجد القضاة في مأمن منها، واختراق المخابرات للجهاز القضائي واكتتابها لبعض عناصره؛ الشيء الذي حرم المواطن من خدمات وحماية هذا المرفق الأساسي، وتركه يواجه الظلم أعزل، ومنح الدولة والمتسلطين منزلة فوق القانون.
(انتهى الاستشهاد).
وأدهى من ذلك كله وأمر وأخطر أنهم دمروا أيضا الجيش الذي هو درع الأمة وحامي حماها وضامن وحدتها وبقائها طالما لم نُعِد إرساء وتشييد دولة قانون ذات مؤسسات ديمقراطية وطيدة وشفافة.
(يتبع)
تصنيف: