إن التباس المفاهيم، واضطراب ضبطها، وعدم تحريرها، والاكتفاء في تقمصها و رفعها شعارا بالفهم الظاهري السطحي المتعجل القاصر، الذي لم يستند على علم حقيقي، أو دراسة تمحيصية ضافية، تشخص المفهوم الشرعي في كل أبعاده، وشروطه، و ضوابطه، هو الذي شكل الأرضية الخصبة لفكر التكفير، و التفجير، و أثمر فكرا سطحيا مأزوما، لا يقيم للمقاصد، والمآلات، والمصالح أي وزن، و لا يتحرى الاستئناس بفهم السلف، و تطبيقاته في المفاهيم التي ينطلق منها، و الشعارات التي يستظل بها في ضربه لوحدة الأمة الفكرية و الشعورية، و عبثه بمقدراتها، و إهداره لطاقاتها، و تشويهه لصورتها، و تجذيره للقطيعة بين مكوناتها، و تقويضه لأمنها و استقرارها و سكينتها.
فتحرير المفاهيم وضبطها على ضوء فهم السلف، والجمع بين النصوص الواردة بخصوص كل مفهوم.. أمر واجب على العلماء الراسخين، والمفكرين المستنيرين "... لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ... "[1]
إن ما أصاب الأمة في صدر الإسلام على يد من رفعوا شعارا قيل في حقه إنه: "كلمة حق أريد بها باطل"، وهم من وصفهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالبغي في قوله: "إخواننا بغوا علينا"، وما يصيبها اليوم على يد من وصفهم أحد المفكرين المعاصرين: "بجند الله في المعركة الخطأْ"، عامله الرئيسي الانحراف الفكري المتأتي من التباس المفاهيم، والحكم على الشيء، والانطلاق منه، دون تصوره تصورا صحيحا مسبقا.
وإذا كان من المسلمات المنهجية "أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره"، فإن من بين شبابنا من دفعه الحماس غير المؤطر "علميا" لأن يقفز على كل المسلمات، وأن يدوس على كل المقررات "... بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ"[2] منتهكين مبدأ قرآنيا تربويا عاما: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاَ "[3].
ومن المفاهيم التي انحرف بها فكر التكفير، والتفجير، عن سياقاتها، وفرغها من مقاصدها،وجردها من شروطها، وضوابطها، ومَوَّهَ بها على العامةِ والمغررِبهم:
مفهوم الجهاد في سبيل الله،وقد حصل في هذا المفهوم لبس شديد، وخلط كبير بين الجهاد بمفهومه الشرعي، وبين مفاهيم القتال، والإرهاب؛ فالجهاد في الأصل مفهوم إسلامي عام يشمل جهاد النفس من أجل تزكيتها، والارتقاء بها إلى أفق الاستقامة، والسوية الإنسانية، والتوازن النفسي،" قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا "[4]، "إن لنفسك عليك حقا ، ولربك عليك حقا ، ولضيفك عليك حقا ، وإن لأهلك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه... "[5].
وهكذا الجهاد التنموي الذي يُكْسِبُ الأمةَ قوةَ الاكتفاءِ عن الآخرين، ويؤهلها لاستقلالية قراراتها، والجهاد العمراني، فما من ميدان من ميادين الحياة يستغني عن الجهاد البنائي المنوطِ بالمسلم بمقتضى الإستخلاف في الأرضِ،" وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ ... "[6]، "... هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا... "[7].
أما الجهاد القتالي الذي هو مجرد شعبة من شعب الجهاد، فقد وقع لبس شديد في مفهومه..وخلط كبير بينه وبين ألوان أخرى من العنف المسلح لا تمت له بصلة، فضلا عن تضخيمه ومحاولة اختزال كلِ شُعَبِ الجهادِ فيه؛ فالجهاد بالتبليغ، والحوار، والجدال بالتي هي أحسن، لم تُترَكْ لها مساحةٌ كافية في المفهوم الجهادي "الملتبس".
كما أن الجهاد القتالي الشرعي في الأصل تدبير، وتخطيط، وإعداد حكومي، هدفه الدفاع عن بيضة الإسلام، وحوزته الترابية، وتوفير الحرية، وبسط قيمها، وإزالة كل العقبات والإكراهات التي تحول بين المرء وممارسة، واعتناق ما يقتنع به من تدين، بناء على أن العقيدة الحقة هي ما كان أساسه القناعة، أما الإيمان المبني على الإكراه كالكفر المبني عليه.. لا اعتبار لهما ولا أثر، وإنما العقيدة -إيمانا، أو كفرا- مبناها الاختيار الحر، والقناعة الشخصية.."لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ... "[8]"... إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ... "[9]فلا أثر و لا اعتبار لإيمان أو كفر يتم تحت سياط الإكراه، و من ثمة كان من المهم و جود قوة ردع في الجزيرة العربية مَهْبَطَ الوحي، تشيع جوا من السلم، و الاستقرار، و توفر الضمانات الكافية لحرية الممارسة الدينية، و المعتقد الديني، وقد ذهب الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير و التنوير إلى أن آية (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ناسخة لكل ما يفهم ظاهره خلاف المعنى الذي قررته، نظرا لقوته و اضطراده في مواضع شتى من القرآن.
هذا مع ملاحظة أن كل الدول–في كل زمان و مكان- من أجل أن تقيم نظاما، أو تصون حقوقا، أو تحقق بناء وتنمية، فلابد لها من قوة دفاعية رادعة، وربما قوة لتحقيق توازن الرعب، وللقيام بحرب استباقية قد يتطلبها الموقف الذي تقدره الحكومات دفاعا عن قيم معينة، أو رفعا لظلم، أو وقوفا في وجه انتهاكات إنسانية صارخة، وهذا أمر يعم جميع الدول.
إن الجهاد في سبيل الله في المفهوم "الملتبس" تحول من تدبير حكومي، إلى مبادرات فصائلية لا تملك أرضا، ولا سلطة، ولا قدرة على الإعداد المطلوب في قوله تعالى: "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ... "[10]. وتحولت وجهته من جهاد يحمي الحريات، ويدافع عن الأمة.. إلى جهاد يكره الناس، و يوجه قوته ضد إخوة الدين، تحت تأويلات فاسدة؛ و يقضي على طاقات الأمة..وكأنه ليس له من هدف إلا النكاية بمخالفيه في الرأي من المؤمنين. وقد انجر عن ذلك شيوع وانتشار ثقافة التكفير.. لتبرر بها أعمال الهمجية التي تمارس ضد دول إسلامية، وشخصيات إسلامية، من قبل ضحايا المفاهيم "الملتبسة"، فصار قتل المسلم للمسلم حتى في المساجد أمرا عاديا عند هؤلاء "... وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا"[11]،فاستسهلوا تكفير المسلمين، و استرخصوا دماءهم، جاهلين أو متجاهلين قواعد عديدة مقررة لدى أهل السنة و الجماعة، منها عدم التكفير بالذنب مهما عظم "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَادُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ ... "[12]"إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ..."[13].
وقال عبد الله ولد الحاج حمى الله في نظمه لرسالة بن أبي زيد القيرواني:
و لا يُكَفَّرْ أَحدٌ بذنبِ من أهلِ الإيمان بذاكَ أُنْبِي
- قاعدة التوسط بين مذهب المعتزلة والخوارج الذين يكفرون مرتكب الكبائر بناء على آيات الوعيد.. ،والمرجئة الذين ينفون الكفر عن جميع أهل القبلة بناء على آيات الوعد.. ،فأهل السنة والجماعة لايكفرون بالذنب، ولاينفون الكفر مطلقا عن أهل القبلة؛ وإنما يقررون أن "من ماتَ لا يشرِكُ باللَّهِ شيئًا دخل الجنَّةَ... "[14]، و يحملون الظواهر المخالفة لذلك على أنها للوعيد و التحذير و التنفير. و أما من توفرت فيه شروط الردة، و انتفت بحقه الموانع، فهو مرتد.. و لكن لابد من التحري في ذلك مراعاة للنصوص التي تحذر من تكفير المسلم قال صلى الله عليه و سلم : "إذا قال الرجلُ لأخيه أنتَ كافرٌ أو يا كافرُ فقد باء بها أحدُهما"[15]، و لهذا كف أهل السنة عن تكفير الذين يكفرونهم، و تركوهم يبؤون وحدهم بالإثم،و قرروا قاعدة النهي عن تكفير المعين بناء على وقوعه في دائرة وعيد معين من مثل: لعن الله آكل الربا، و موكله، و شاهده، واللعن الوارد في شارب الخمر، و في الواصلة و المستوصلة، و الراشي و المرتشي، فتقرير مضمون هذه الأدلة في عمومه لا خلاف فيه.. و لكن، تنزيله على كل من وقع في دائرته، أمر متوقف عنه.. لإمكانية حصول التوبة، أو الحسنات الماحية، أو المصائب المكفرة، و ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى "أن إلحاق الوعيد بكل فرد معين، أقبح من مذهب الخوارج و المعتزلة في التكفير بالذنب"[16].
وينبغي في هذا المقام استحضار قدرة الإسلام الفائقة على استيعاب المخالفين استيعابا حضاريا، سجل التاريخ أروع صور ه وأكثرها عمقا، وأبلغها دلالة عندما غض الطرف عن المنافقين الذين يعلم منهم النفاق، والكيد الخفي ضد المشروع الإسلامي الناشئ، لمجرد أنهم أذعنوا ظاهريا لسلطانه، وتدثروا بدثاره، وأعلنوا تبني شعاره، مع أنهم من حيث الموقع منافقون، ومن حيث المصيرُ في الدرك الأسفل من النار "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا "[17]،ولكن ما داموا أعلنوا الدخول في حظيرة الإسلام، فلا داعي للتفتيش عن بواطنهم الخفية،مع أنهم"... قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ... "[18]، وقد كانت سياسة الحرص على سمعة الإسلام، وسلمية منهجه، واضحة من خلال قوله صلى الله عليه وسلم: "... لا يتحدَّثُ الناسُ أن محمدًا يقتُل أصحابَه"[19]، والله يعلم وهو يعلم أنهم ليسوا أصحابه إلا في الظاهر ومع ذلك لم يتبن سياسة تطهير الصف الداخلي، لا حتى إعلان أسمائهم للعامة، مخافة أن يصيبهم أحد بأذى، فينعكس ذلك سلبا على أمن المسلمين فيزعزع أوضاعهم الداخلية، وهم المقبلون على تحديات خارجية عديدة، أو يشوه سمعة الإسلام. فأين هذا الدرس السياسي البليغ الذي علمنا إياه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مما يرتكبه اليوم باسم الإسلام ضحايا المفاهيم"الملتبسة" ضد الإسلام والمسلمين، في كل مكان من الخارطة الإسلامية،وخارجها؟
والدرس السياسي الثاني الذي ينبغي استحضاره واستثماره في هذا الصدد، هو استيعاب الدولة الإسلامية عبر التاريخ، وفي غياب أي رقابة عالمية، أو نظام دولي لأقليات مخالفة في العقيدة أو المذهب دون مضايقات أو تمييز، أو بالأحرى تصفيات وحملات إبادة!
إن هذه الصور الناصعة، يجب أن تذكرنا بأن كل من تحصن بسور الإسلام، وسالم أهله وعاهدهم، ولم يثر عليهم أعداءهم، ينبغي استيعابه، وحفظ وصون حريته، وقد يحمله ذلك على الدخول في الإسلام بصدق..علمابأن مسؤوليتنا الشرعية تقف عند الإعلان عن الظاهر،أما الخفي فهو موضوع الحساب"يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ"[20]، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة رادا عليه عدم قبوله شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ممن تحف قرائن عدم الصدق بقوله، ومنكرا عليه ذلك "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ . قال فقال سعد : وأنا والله لا أقتل مسلما حتى يقتله ذو البطين يعني أسامة . قال : قالرجل : ألم يقل الله : { وقاتلوهم حتى لاتكو فتنة ويكونا لدين كله لله؟ فقال سعد : قد قاتلنا حتى لاتكون فتنة . وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة . } [الأنفال / آية 19 ]"[21].
أبو بكر ولد أحمد
انواكشوط، موريتانيا 18/03/2016 (يتواصل)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]الأنفال – الآية 42
[2]الحج – الآية 8
[3]الاسراء – الآية 36
[4]الشمس [الآيات 9-10]
[5]صحيح الترمذي 2413
[6]البقرة – الآية 30
[7]هود - الآية 61
[8]البقرة – الآية 256
[9]النحل – الآية 106
[10]الأنفال – الآية 60
[11]الكهف – الآية 104
[12]النساء – الآية 48
[13]الزمر – الآية 58
[14]صحيح مسلم ص93
[15]مسند أحمد 109/7
[16]الفتاوى (387،388/20)
[17]النساء – الآية 145
[18]آل عمران – الآية 118
[19]صحيح البخاري ص4905
[20]الطارق – الآية 9
[21]صحيح مسلم ص96
يرتكبه
تصنيف:
