من أسباب الانقلاب الأساسية أيضا إصرار الرئيس المختار ولد داداه على محاربة الفساد واختلاس المال العام، وإعلانه يوم 8 يونيو (أي قبل الانقلاب بشهر) اعتزامه محاسبة مختلسي المال العام. ولو سمحت لقرأت لك من كتابه فقرة من هذا الخطاب، يقول إن للعقوبات التي سيتخذها سببين:
- "أولهما العمل على أن يتحمل الجميع مختلف التضحيات المطلوبة من شعبنا بطريقة عادلة ومنصفة. وعليه فإن السلم الاجتماعي المبني على العدالة الاجتماعية لن يجد ضمانة أفضل من هذه العقوبات. (معاقبة مختلسي الأموال العامة).
- ثانيهما المحافظة على ما تتحلى به بلادنا من كرامة ومصداقية في الخارج. وبالفعل فإن الثقة الكبيرة التي تتمتع بها بلادنا لا يمكن أن تدنسها عيوب لا تغتفر؛ فتقنين علاقات المواطنين بالدولة، ولا سيما من يمتلك منهم قسطا من السلطة، ليس وليد اليوم بالنسبة لنا نحن المسلمين، فقد وردت آيات عديدة في القرآن الكريم بشأن الالتزامات الأساسية للمواطن اتجاه مؤسسات الدولة. والدولة الموريتانية المبنية على مبادئ الإسلام سنت دستورا وقوانين تترجم بصدق المبادئ الأخلاقية التي يتضمنها ديننا الحنيف.
وبالنظر إلى هذه الأهداف، وعلى ضوء تلك المبادئ فماذا نلاحظ؟
1. أن بعض المسؤولين تختلط عليهم ممتلكات الدولة (أي ممتلكات المجموعة الوطنية) مع ممتلكاتهم الخاصة. وبوسع المرء في هذا الصدد أن يختلس الممتلكات العمومية بطرق متعددة؛ سواء بتملك الأموال العمومية أو باستخدام ممتلكات الدولة لأغراض شخصية.
2. أن العديد من المسؤولين لا يعتبرون واجب تسديد الضرائب واجبا أساسيا. وهكذا لوحظ أن بعضهم لديه متأخرات غير مسددة منذ 1974".
أي منذ قيام الحرب تقريبا أو تأميم ميفرما. وانتبه معي..
"3. أن العديد من المسؤولين يقبلون وظائف وأجور الدولة ويكرسون جزءا من وقتهم لتسيير أعمالهم الخاصة - لا سيما إذا كانوا مساهمين في شركات خصوصية- رافضين الامتثال للقانون الذي يلزمهم بالاختيار بين القطاع العام والقطاع الخاص.
4. هناك أخيرا أولئك الذين لا يترددون – رغم تخلف شعبنا وما نجتاز من ظروف صعبة- (يعني الحرب) في تحقيق الثراء بلا حياء؛ فيشيدون القصور الفخمة ويكدسون الثروات بما لا يتناسب إطلاقا مع ما تمنحهم الدولة من رواتب.
تلكم بعض المسلكيات التي قررت عدم التسامح مع أصحابها؛ فبها تناط العدالة في الداخل والمصداقية في الخارج".
وفي آخر هذا الخطاب يقول إنه سيعاقب هؤلاء ولن يتسامح معهم. هذا يوم 8 يونيو 1978.
لحسن: إذن ستتم العقوبات بتسمية الأشخاص وبتصفية الحساب معهم في هذه الناحية، وهذا كما قلنا يتعلق بمحبي الجمع بين السلطة والمال؛ وهي معضلة كانت تعاني منها الدولة الموريتانية كما أسلفتم، وما تزال تعاني من هذه المعضلة؛ وهي أن الذين يحظون بالسلطة يبحثون دائما عن الثراء من خلال وجودهم في مناصب الدولة، لكن هل كان الوقت مناسبا لتصفية الحسابات الداخلية ونحن في حالة حرب حينها؟
ذ. إشدو: الرئيس رد في خطابه على سؤالكم..
لحسن: لكن من منظوركم أنتم هل وجدتم الوقت مناسبا لقرار رئاسي بتصفية الحسابات مع من هم داخل السلطة، أو تصفية الحساب مع من يتهمهم باختلاس الأموال العمومية ونحن نعيش حالة حرب؟
ذ. إشدو: أن نعيش حالة حرب لا يعني أن نترك الحبل على الغارب. لقد ذكرت لك مجمل الأسباب وهذا أحدها وليس الرئيسي منها؛ فمن الأسباب الرئيسية وطأة الحرب، ومنها انهزامية بعض ضباط الجيش، ومنها استغلال الفترة من قبل فئة سياسية معينة هي عبارة عن جزء من النظام منذ فترة هو خارج إطاره؛ فقد ذكرت لكم من قبل أنه خرج من حزب الشعب وأسس حزبا سياسيا خاصا به. هذه الفئة رأت الفترة ملائمة للقفز على السلطة وقلب الوضع الذي لا يلائمها والعودة بالبلاد إلى الوراء.
في هذه الظروف هل يا ترى كان صوابا – كما سألت- أن تضاف محاسبة مختلسي أموال الدولة إلى كل هذه المشكلات؟ أم كان ينبغي أن يعاملوا بمرونة؟ الرئيس المختار ولد داداه في كتابه يتناول هذا في فصل سماه بالفرنسية لا يمكن أن تعبد إلهين في نفس الوقت (يعني جمع المال والسلطة) وبالعربية عنونه بالآية {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} وفيه يتحدث عن قاعدة أساسية في النظام الذي أقامه هي عدم الجمع بين المال والسلطة. هل يا ترى يستحق لديه البقاء في السلطة – أو بقاء النظام المدني، أو تجنب انقلاب- التخلي عن القاعدة الأخلاقية التي بنى عليها سياسته ونظامه أم لا؟ أنا لو كنت مكانه لما تنازلت عن القاعدة الأخلاقية التي قام عليها النظام، لأن ذلك يعني الانهيار..
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ** فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
لحسن: أنتم إذن مقتنعون بالقرار الذي اتخذه حينها.
ذ. إشدو: أعتقد أنه كان صائبا.
من هنا نصل إلى الانقلاب؛ ففي كتابي "أزمة الحكم في موريتانيا" تخيلت صورة الغلاف وأمليتها على رسام فنفذها على هذا النحو، لأن هذه الصورة هي التي تجسد – في نظري- طبيعة انقلاب العاشر من يوليو.
لحسن: كيف تفسر الصورة؟
ذ. إشدو: هؤلاء العسكريون يؤدون التحية لمن؟ لمدنيين أحدهم يحمل حقيبة، ويمثل رأس المال الناشئ بعد مراجعة الاتفاقيات وتأميم ميفرما. أحدهم ملثم يمثل السلطة التقليدية في الريف. ومن ورائهم "خواجة" (أجنبي) أي أنه يدعمهم. وبأيدي الشعب لافتات كتب عليها "لا.. لا".
المهم أن الذين نفذوا ليسوا سادة التنفيذ! هم هؤلاء.
لحسن: الصورة واضحة.. إذن فسادة التنفيذ هم المدنيون اليمينيون المدعومون بالزعامة التقليدية.
ذ. إشدو: جماعة المال الناشئ.
لحسن: مدعومة بالزعامة التقليدية وبالدعم الأجنبي أيضا.
ذ. إشدو: هذه هي وجهة نظري.
تصنيف: