الشيخ محمد الحسن ولد الدّدو هو عالم وسياسي موريتاني له شعبية كبيرة في بلده وفي العالم العربي، وبالأخصّ في أوساط الخلاصة السلفية الإخوانية. وقد قدّم للتو مساهمته في الاستقطاب ما بين الأشاعرة-الماتردية-الصوفية ضدّ الإخوانية-السلفية، الذي أطلقَه- خطاً برأيي- مؤتمر الشيشان 2016. أخذ الدّدَوْ، الذي كان سابقاً أشعرياً نظرياً، موقِعه في الاصطفاف وقال في مقابلة مع صحيفة مستثمِرة في هذا الاستقطاب، أن الأشعرية (والماتردية) كانت مهمة في وقتٍ معيّنٍ للدفاع عن الإسلام ضدّ النحل الزائغة (الخوارج والاعتزال والمتكلمين الخ) وأنه لم يعُد لها من حاجة الآن! دعني أُترجِم: "أيها الأشاعرة اتركوا معتقداتِكم لأنّكم لم تعودوا تحتاجونَها"؟ ألاحظتَ تلك النبرة الاستعمارية؟
قبل أن أدليّ بدولي في هذه النازلة دعني أقدِّمُ تلخيصاً سريعاً عن حالة الأشعرية في الأوساط العالمية ثمّ الموريتانية.
الواقع أن موقع الأشعرية قد تغيّر في الخريطة الفكرية العالمية كثيراً. فقد بدأ رفاقُنا التحديثيون، ولاحقاً اليساريون والليبراليون، في القرن التاسع عشر ثم القرن العشرين وعلى رأسِهم الأفغاني ومحمد عبده، ولكن بالتأكيد لطفي جمعة وعبد الرحمن بدوي إلى محمود أمين العالم ونصر حامد أبو زيد وحتى على مبروك، موقفاً استِخفافياً بالأشعرية؛ فقد اعتُقِدَ أنها غير معينة على التحديث لأنها تسليمية ولا إنسانوية وجَبرِية. وقرّوا استِبدالَها بالاعتزال، الإنسانوي العقلاني. ولم يبدُ أن الأشعرية مساهِمة في عالم التفكير قبل عودة الأفق ما بعد الحداثي، حيثُ قُوّضت الوثوقية الإنسانوية واستُدخِلَ الحدس مرة أخرى في العقل وضُرِبت حرية الإرادة والثنائيات الفاصلة بين العقل واللاعقل.
أما في الغرب فقد شهِدت الدراسات الأشعرية نهضة حقيقية فقبل سنوات لم تكن في القائمة غير عشرات الدراسات؛ أما اليوم فقد وصلت الدراسات الاشعرية إلى مئات البحوث: (مادلونغ، جيماريه، أنتوني بلاك، أيمن شهادة، ألفرد كاتويل سميث الخ).
أما المثقّفون الموريتانيون فقد بدأوا ينتبِهون لعودة الأفق الأشعري. عبد الودود ولد الشيخ في بحثه "المرابطون والأشعرية" (2016) أعاد النظر في مسار الأشعرية في العهد المرابطي، من خلال الإمام الحضرمي المرادي، ودمّر الصورة النمطية التي نقلَها الموحدُّون أن المرابطين سلفيون مجسمِّون غير منتبِهين للاشعرية. وقد أبلغني أنه مهتمٌ بتوسيع بحثه في المجال. السيد ولد اباه في كتابه "الدين والسياسة والأخلاق" (2014) أثبتَ راهنية الأشعرية من خلال خمس مقولات للأشعري أثبتَ فيها موائمةالأاشعرية للحالة الفكرية الغالبة اليوم. هذا طبعاً دون أن ننسى رفع الأشعرية إلى تعريف وطني في إطار ازدهار الوطنية الفقهية الموريتانية، التي بلغت ذروتها مع التأكيدات الخطابية للراحل محمد سالم ولد عدّود ولحمداً ولد التاه. من الواضِح، على الأقّل بالنسبة للمثقّفين، أن الأشعرية ليست موضوعاً يُعادُ لرفِّ المكتبات. بل يبدو أن النهضة، أو على الأقّل الفضول إلى، الأشعرية بدأ للتو. ومن الواضح أن الدّدَوْ على غير عِلم بهذه الدراسات، وإلاّ لما خاطَر بالقول إن الأشعرية قامت فقط للدفع ضدّ الهجمات الكلامية ضدّ الإسلام (ذلك أن هذه "الهجمات" تقاسمت مع الأشاعرة مهمتهم نفسها"). ثانياً، يتبيّن أن الأشعرية هي خلاصة من هذه الجدالات الكلامية نفسها (انظر أبحاث مادلونغ في تأثير الإرجاء والاعتزال في الأشعرية. طبعاً الأشعري نفسه كان معتزلياً، وما يبدو انسلاخاً من الاعتزال كان موجوداً قبله في الأشعرية. والحنابلة لم يسعدوا به بالذات لهذا الأمر). أما الماتريدي فقد دافع عن ابن الراوندي، الذي يُقالُ بأنه كان ملحِداً (طبعاً نقول "يُقال" لأننا لا نقتنِع بتقديمات "الانتصار" للخياط له. وقد دمّرها فان إس في بحثٍ ذكي منذ عقود). لا يمكن تقديم القراءة الوظيفة للأفكار. الأشعرية، كأي روح فكرية، لا تنشأ لغاية وتختفي لاختفائها. هذه ميكانيكية. ففي الاثناء تُصبِحُ ثقافة وهوية. (مثلاً لاحظتُ أن معظَم المتحمسِّين للأشعرية في موريتانيا لا يعرِفون ما هي الأشعرية، ذلك أنها موقفٌ فلسفي معقّد، وليست متاحة للعامي). الأشعرية هي "هوية" وممارسة ثقافية وأنطلوجية وليست مجرد ترتيبات نصانية أو تلقينية. قل لي -بأبيك- ثم هل انتهت الجدالات الكلامية؟ ومن سيقوم بالدفاع الكلامي عن "الإسلام" بعد طردِ أهل الكلام؟ العرعور؟ العريفي؟ سفر الحوالي؟ أم الدّدو (الذي كان متعاطِفاً مع الأشعرية قبل الاستقطاب الجديد. وقد ردّ عليه في هذا الشأن رفاقه السلفيون)؟ وهل اكتملت دفاعات الإسلام الآن ضدّ العقائد الأخرى حتّى نصرف حماة الحمى؟ يُخيّلُ لي أن الجدل بدأ للتو. لن تختفيّ الأشعرية. على الأقّلْ لن تختفيّ دون جدال. وكما يُخبِرُنا الدّدو نفسه فإن الأشاعرة كانوا الأفضل في فترات الجدال.
عباس أبراهام
من صفحة الكاتب
تصنيف: