في يوم الجمعة الخامس من شهر مايو الجاري انتقل الرئيس اعلي ولد محمد فال إلى حوار ربه ونعم المولى ونعم المجير، فخلف رزؤه المفاجئ حزنا كبيرا وفراغا عميقا في نفوس وعقول الموريتانيين الذين عرفوه قائدا عسكريا ورجل أمن صارما ورئيسا في مرحلة انتقالية صعبة ومعارضا أيضا للنظام الوطني القائم.
لقد قيل في حق الرئيس الراحل الكثير من الحق والباطل، ولم يتورع كثير من "المؤبنين" عن استغلال هذه المناسبة الأليمة في نفث سمومهم بغية تحقيق مآرب دنيوية تافهة، بدل أخذ العبرة من هذا الحدث الأليم ومن ردود الفعل الإيجابية عليه من طرف الدولة والمجتمع وتوظيف ذلك كله فيما من شأنه أن يرضي الله ورسوله ويرأب الصدع ويجمع الشمل ويقوي لحمة النسيج الاجتماعي والسلم الأهلي ويرفع هامة الوطن.
لذلك رأيت أن أجمل تأبيني لهذا الفقيد الكبير في سرد ذكريات صادقة كنت فيها شاهد عيان، ولن أفتري على الله كذبا في حقه أو حق غيره.
لقد عرفت الرجل في فترة لعلها منتصف سنة 1982 عندما دعيت لمقابلته أنا وزميلي في الأسر والإقامة الجبرية، الأستاذ التجاني ولد كريم، في منزل حاكم مقاطعة المذرذرة التي كان في زيارة لها وكان قائد منطقة الترارزة العسكرية. كان ضابطا شابا فارعا صبيح الوجه كث الشارب يمتاز عمن عرفتهم من أمثاله بالثقافة والانفتاح، ويختلف عنهم في الاهتمامات. وقد ناقش معنا وضعيتنا المزرية ووعدنا بعرضها على اللجنة العسكرية بغية العثور لها على حل. وبعد ذلك بفترة وجيزة رفعت عنا الإقامة الجبرية التي استمرت أكثر من ثلاث سنوات، فعدنا إلى أهلنا وعملنا في مدينة انواكشوط. وبعد سنة من ذلك التاريخ أو تزيد، طوى ذلك الضابط وزملاؤه ظهر يوم الأربعاء 12/12 نظام الحكم الذي قتل وسجن وأذل الموريتانيين سنوات، وأصبح أحد أبرز قادة الدولة.
وفي سنة 1996 كان الرجل الذي أصبح مديرا مرهوبا للأمن، ضحية لمحاولة زعزعة من طرف بعض أجنحة النظام وبعض الأوساط القومية، حيث اختلق أعداؤه كذبة ورطوا فيها جميع قادة الشرطة في العاصمة، وكان المستهدف الأول من خلال استهداف أعوانه، فكلفني قريبه وصديقه محمد ولد بعماتو بالدفاع عن بعض المستهدفين. وقد نجحت مع زملائي من لفيف الدفاع الرائع الذي تشكل في تلك الحقبة وظل خلال سنوات الجمر ملجأ للمظلومين، في إفشال تلك المؤامرة وتبرئة ساحة المستهدفين. ومما ساعدنا في إنجاز ذلك النصر ذكاء وحزم مدير أمن الدولة الحالي السيد سيدي ولد سيدي محمد الذي زودنا بأدلة دامغة تجرح شهود الاتهام الذين كانوا من الصف الثاني في الشرطة. فكان ذلك بداية صداقة متحفظة وغير مباشرة نشأت بيني وبينه عن طريق صديقنا المشترك السيد محمد ولد بعماتو الذي التقينا في بعض الأماسي في منزله. وكانت علاقتنا علاقة مدير أمن النظام الوفي الحازم مع معارض لا يتزحزح عن موقفه الثابت.
وفي منتصف سنة 2002 ضاق النظام المتهالك ذرعا بلفيف الدفاع الرائع المذكور، فقرر التآمر عليه وتجريده من قيادة الهيئة الوطنية للمحامين ووأد تلك الهيئة، وانتدب لذلك "لفيفا" من المخبرين والمزورين والوصوليين ومنتحلي الصفة تكالبوا على تزوير الانتخابات وانتزاع الهيئة من رجالها ثم تخريبها. وقد رفضت أغلبية المحامين يومئذ القيادة التي نصبها النظام وتشبثوا بقيادتهم الحقيقية وبلفيف الدفاع الرائع الذي ظل متماسكا وفاعلا في أحلك الظروف؛ وخاصة في محاكمتي الرئيس محمد خونه ولد هيداله وصحبه (خطة گراب) ومحاكمة انقلابيي يونيو 03 في وادي الناقة. لم يرق لمدير أمن النظام السطو على هيئة المحامين، فظل يهادن قيادتها الحقيقية ويرعاها؛ إما وفاء منه للموقف الآنف، أو انتصارا للحق، أو شعورا بأهمية وحيوية الدور الذي تلعبه هيئة المحامين ولفيف الدفاع في الدولة وإدراكا لتفاهة البديل.
وفي الثالث من أغسطس سنة 2005 أفاق الموريتانيون على طيف جميل طالما راود أحلامهم رغم ما عانوه من ذل ويأس وإحباط، فانجلى الليل الطويل وانكسر القيد الثقيل، وكر الجيش الوطني المثخن يرفع لواء العزة، ويعيد البسمة والأمل إلى شعب نبيل عانى هوانا لا ينا سب كبرياءه ومجده: "أيها الأمل الموريتاني الوليد.. جئت متأخرا جدا.. ولكنك أتيت. لكن، أمن العدل أو العقل أن لا نبالي بمقدمك الميمون وأن نعرض عنك بردا وسلاما عصف بالطاغوت وشرع بابا أوصد عقودا عجزت كل القوى والوسائل والأساليب السلمية وغير السلمية عن فتحه؟". (حتى لا نركع مرة أخرى ص 33).
وأيا كانت علاقة الرئيس اعلي بذلك الحدث الذي شكل أهم نصر عرفته موريتانيا بعد نيل الاستقلال وقيام الجمهورية الإسلامية الموريتانية، فقد اعتبر الوجه "المدني" لتلك الحركة وبابها المشرع على الداخل والخارج ودعامتها المطمئنة بالتغيير في ظل الاستقرار والأمن.
يومها لم يأل لفيف الدفاع جهدا في مناصرة وتمكين السلطة الجديدة، فجاب الهيئات والمنتديات، وأنعش النقاشات، وساهم بفعالية في إنجاح الأيام التفكيرية، وإدخال التعديلات الضرورية على الدستور، كما زار البعثات الدبلوماسية وأقنعها بالاعتراف بالسلطة الجديدة والوقوف إلى جانبها بصفتها تمثل إرادة الشعب، وظل يواكب المرحلة الانتقالية عن كثب إلى آخر يوم منها.
يتبع
الأستاذ محمدٌ ولد إشدو
تصنيف: