ختامـــه نعل.. بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو

ختامـــه نعل..

 

في الرابع عشر من دجمبر عام 2008 زار بوش الصغير عاصمة الرشيد محاولا تلميع صورته عشية مغادرته البيت الأبيض.. فعاد بخفي منتظر!!

"إنـها حرب الصليب"!

 

"إنـها حرب الصليب"!

أولم يعلنـها بوش الصغير صراحة على رؤوس الأشهاد غداة 11 سبتمبر 2001؟ بينما كان بوش الكبير قد خاض غمارها في خميس من المرتزقة والعلوج سنة1991 ضد الإسلام في دار السلام. ومن قبلهما أعلنـها وخاضها ضد الإسلام نابليون، واللنبي، وغورو وأحفادهم من الفرنسيين والانجليز.. ثم تُرِك أمرها، إلى حين، للأفاقين الصهاينة: بيريز ونتانياهو وباراك وشارون وأولمرت!

نفس الأهداف الاستعمارية والعدوانية، ونفس الأسباب الواهية، ونفس الوحشية والهمجية!

وهاهي ذي حصيلة جولتـها الجديدة في العراق:

غزو واحتلال دولة مستقلة عضو في الأمم المتحدة، وإبادة شعبـها ونـهب ثرواتـها وتدمير حضارتـها وعمرانـها وذاكرتـها وبيئتـها. ومن أمثلة ذلك:

ـ أكثر من مليون (1000000) شهيد.

ـ ما بين ثلاثة (3) إلى ثمانية (8) ملايين أرملة!

ـ ما بين خمسة ملايين (5000000) وسبعة ملايين (7000000) طفل يتيم.

ـ أربعة ملايين ونصف مليون (5 .4) لاجئ ومشرد.

ـ أزيد من مائة ألف أسير يعمرون سجون بو غريب وغوانتنامو والسجون الطائرة والسرية؛ ناهيك عن السجناء الأشباح. (المحامية سحر الياسري).

ـ نـهب نفط العراق، ومخزون هائل من اليورانيوم، ومثله من العملات الصعبة.

 ـ سرقة المتحف العراقي: 170000 قطعة أثرية عمر بعضها 6000 سنة قبل الميلاد (ويكيبيديا: الغزو الأمريكي للعراق).

وهذا ما تسميه آلة الدعاية الغربية الضالة المضلة "تحرير العراق" و"النموذج الديمقراطي العراقي" الذي يبشر بـه الغرب شعوب الشرق! وهو كذلك الوجه البشع لحضارة الغرب التي توحشت في مستـهل القرن الواحد والعشرين على أيدي اليمين المسيحي الصهيوني المتطرف!

 

"كان هذا في ضواحي روفنو"

 

لعل أخطر "معضلات" الشرق، التي يستعصي فهمها في الغرب، كون شعوب الشرق لا تخضع، ولا تلين، ولا تنسى، ولا تستسلم؛ مهما كانت الهزيمة ساحقة ومدمرة، ومهما كان وقعها مدويا وصاعقا. ومهما كان اختلال ميزان القوة فادحا لصالح العدو الغازي! ومن أبرز أمثلة ذلك ملاحم جلجامش ونبوخذ نصر، وسيف بن ذي يزن، والمهلهل، والشنفرى، وصلاح الدين، وغاندي، وستالين، وجمال عبد الناصر، وصدام حسين، والخميني، والأسد، وياسر عرفات، وحسن نصر الله.. الخ.

وقد حدثني في هذا السياق نقيب فلسطين ذ/ جمال السوراني سنة 1999 عن حوار دار بينـه سنة 1972 وبين دبلوماسي أمريكي خدم طويلا في البلاد العربية جاء فيه:

"قلـت له: إنك تستـهجن كلامي وتستغربـه لأنك لا تعرف العرب. فالأمة العربية هي أحد خمسة شعوب عاشت عبر التاريخ دون أن تندثر. وأنت - بالرغم من أنك عملت حوالي 12  سنة في الوطن العربي- فإنك لا تعرف حقيقة العرب. وأعطيك مثالا على ذلك:

يقولون إن العرب أصلهم من الصحراء، هذه تعرفها.

قال: نعم.

قلت: ويقولون إن الجمل موطنه الصحراء، وهذه أيضا تعرفها. 

قال: نعم.

قلـت: ويقولون إن الجمل هو أكثر الحيوانات صبرا على الجوع والعطش والعمل، وهذه أيضا تعرفها.

قال: نعم.

قلت: والآن سأقول لك ما لا تعرفه: الجمل بطبيعتـه لا يقبل الضيم. فإذا ضربـه صاحبـه أو آذاه، فلا بد أن ينتقم لنفسه منـه، مهما طال الزمن.

قال: هذه لا أعرفها.

قلت: ومثله العربي. "فكل قرين بالمقارن يقتدي". فالحروب الصليبية امتدت مائتي عام، وكانت آخرتـها أن أخرجوا وبقيت الأرض تتكلم عربي. والعثمانيون خرجوا بعد حكم دام أربعة قرون. وبقيت الأرض تتكلم عربي. واعتبر الفرنسيون الجزائر فرنسية، لكنـهم دحروا منـها بعد 131 سنة؛ وبقيت تتكلم عربي. وكذلك إسرائيل. إنـها ليست سوى غارة من هذه الغارات، أو غزوة من هذه الغزوات، سوف تنتـهي كما انتـهى غيرها، أو تذوب في هذا البحر العربي، وتصبح جزءا منـه، بدل أن تظل حركة عنصرية دينية عدوانية، أداة في يد قوة استعمارية عظمي.

سكت.

ولم يمض عام حتى قامت حرب أكتوبر، وهزمت إسرائيل".

 

وهذا مثل آخر من الحرب العالمية الثانية.

لقد استسلمت جل دول أوروبا أمام المد النازي، الواحدة تلو الأخرى.. ولكن شعوب الاتحاد السوفييتي - الضعيف نسبيا- لم تستسلم عندما اجتاحت جيوش هتلر الوطن في هجوم صاعق، وأصبحت - بين عشية وضحاها- ترابط على مشارف موسكو ولينين غراد!

ففي أوكرانيا السوفييتية، التي اجتيحت في بداية الغزو النازي وأصبحت وراء خطوط الجبـهة – مثلا- انـهارت السلطة السوفييتية واستسلم بعض قادة الحزب والدولة بمن فيهم "رفيق" شديد ما إن وقف أمام النازي الغازي حتى ارتعدت فرائصه وأصبح ريشة في مهب الريح، وطفق يقبل أقدام المحتل! ولكن الشعب السوفييتي تشبث بحقه في الحياة الحرة الكريمة، واختار طريق المقاومة، وسار خلف قيادتـه الوطنية حتى طرد آخر جندي نازي من كافة الأرض السوفييتية، وزحف جيشه حتى دخل عاصمة العدو (برلين).

وإذا كان لا شك في أن البطولات التي سطرها الجيش والحزب في الاتحاد السوفييتي في تلك الحرب غنية عن التعريف والذكر، ولها دورها الحاسم في إنجاز النصر، فإن من المؤكد – كذلك- أن مقاومة الشعب العادي كانت بمثابة الخام. فهي التي خلقت شروط النصر، وشحذت همم القادة والجيوش وشدت أزرهم، وألحقت الهزيمة المعنوية بالعدو. ومن أمثلة مقاومة أفراد الشعب في تلك الحرب في أوكرانيا ما يلي:

·  تلميذ من "كييف" ظل على مدار زمن الاحتلال يتسلل كل غسق ليلصق في إحدى نواحي المدينة رسالة خطية من سطر واحد تقول: "أيها المواطنون واصلوا صمودكم ومقاومتكم. إن النازيين سيندحرون. وسننتصر". ولم تلبث هذه الرسالة الخطية البسيطة أن أصبحت صوت المقاومة في أوكرانيا الذي يرتاده الناس كل صباح، ويتناقلون ظهوره في أحد الأماكن، فيهرع إليه المحتلون الذين أصبح يشكل - في نظرهم- "بعبعا" مخيفا يزيلونـه بكل وحشية في مظهر احتفائي يشتبكون فيه كل يوم مع الشعب الذي يتجمع حول الملصق يقرؤه ويحميه!

·  صاحب مزرعة لتربية النحل، يكتب تقريرا عن المقاومة يختمه بتصميم الشعب على النضال وحتمية النصر، ويجعله في زجاجة يختمها عليه، وينتظر حتى يصبح التيار مواتيا فيقذفها في اليم، وقد تقطعت السبل بين المقاومة والمركز، ليلتقطها الجيش الأحمر في النـهاية!

·  مقاوم كان يقوم - مع غيره- بمهمة تفجير السكة الحديدية، لقطع طريق إمدادات الجيش الألماني. ولما لم تكن أسلاك الربط بين القنبلة التي كان يزرعها والمفجر الذي يشرف عليه مقاوم آخر في مكان آخر كافية، وكان القطار على وشك الوصول جعل من نفسه موصلا فأطبق فكيه على طرفي الأسلاك، فوقع التماس، ودوى الانفجار ملتـهما كل ما كان حوله.  

.. وهكذا تنتصر الشعوب.

"يا تراب الحسين"

 

        "يا تراب الحسين.

          نحن عودنا كل تاريخنا

          أن يكون بأعناقنا الموت دين.

          ولأولادنا فوق مروءتنا،

          ونبوءتنا،

          أن آخر شمس ستشرق،        

          من شمس بابل.

          وبعدها يرفع الملكوت.

          فإذا استشهدوا..

          فكما يعلوا النسر قمتـه ليموت..

          لا كما تـهوي العنكبوت".

(الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد)                          

          ذلك هو شعب العراق الذي وشحه المفكر المغربي المهدي المنجرة بقوله: "...لقد تعلم العراق كيف يتغلب على الخوف، ولا يمكن لأي جيش - كيفما كان- أن ينحني له شعب العراق"!(1)

وعلى إيقاع إلياذة شاعر العراق العظيم عبد الرزاق عبد الواحد، وتصديقا لنبوءة المهدي المنجرة، عزف أبناء صدام حسين الثلاثة نشيد الموت الأحمر، وهم يواجهون العدو نـهارا جهارا وأسلحتـهم في أيديهم، وظلوا يقارعونـه حتى صعدت أرواحهم الطاهرة إلى بارئها. وكذلك، ورد أبو عُدي حياض الحمام ثابت الخطى شامخ الرأس معلنا للعالم أجمع أن لا إله إلا الله الواحد الأحد الصمد الأكبر من كل طاغوت وعدوان. وعلى نـهجهم الوضاء، درجت المقاومة العراقية، وشعب العراق نحو النصر.

          لقد فشل الغزو الأمريكي في تحقيق أي من أهدافه في العراق، ودمرت المقاومة العراقية والعربية والإسلامية سياسة واقتصاد وهيبة أمريكا، وعفرت وجهها في الرغام. وألحقت بـها خسائر فادحة من بينـها:

ـ قتل 25000 جندي أمريكي خلال السنوات الثلاث الأولى من الحرب فقط، وسقوط عشرات آلاف الجرحى؛ إضافة إلى ألوف الجنود المنتحرين والهاربين من الخدمة.

ـ تكاليف حرب متصاعدة تجاوزت ثلاثة آلاف مليار دولار (جوزف ستيجليتز، جائزة نوبل للاقتصاد، وليندا بيلمس - الأستاذة في جامعة هارفارد ـ "حرب الثلاثة آلاف مليار دولار").

ـ خسارة اقتصادية تجاوزت 320 ألف مليار دولار أودت بالاقتصاد الأمريكي.

ـ تراجع شعبية جورج بوش والحزب الجمهوري والمحافظين الجدد المتصهينين إلى أدنى درجة في تاريخ أمريكا الحديث.

ـ انـهيار سمعة ومصداقية أمريكا التي أصبح رمزها في العالم بو غريب وغوانتنامو والسجون الطائرة؛ والتي أحصت معاهد العالم ألف (1000) كذبة كذبـها رئيسها جورج بوش على شعبـه وعلى العالم ليبرر حربـه الإجرامية.

 

ختامه نعل

         

وفي وحل هزيمة أمريكا المدوية، هاهو رئيسها جورج بوش يحل ضيفا على "عامله" في العراق مودعا ومحاولا - عن طريق القوة الغربية الناعمة- تحويل هزيمة وعار بلاده إلى نصر مؤزر! فنصبت له السرادقات البـهية في "المنطقة الخضراء" المحصنة، وقرعت له أجراس النصر، وعزفت الألحان، وتبودلت الأنخاب، وصدحت الأبواق بالكلمات الحماسية!

كانت لحظة حرجة جدا، وحاسمة جدا في تاريخ الشرق: فإما أن ينجح جورج بوش والمالكي في عرض وتمرير مسرحيتـهما العبثية التي جُندت ترسانة الدعاية الغربية لنقلها عبر شاشات العالم المسخّرة. وإما أن تحدث معجزة ليست في الحسبان تقطع العرض وتختطف الأضواء. كان لا بد إذن من عمل بطولي مقاوم، يرقى إلى مستوى التحدي: فعل إبداعي يكرس واقع الرفض ويجلوه ويزيل الغشاوة عن أعين من ما يزالون في ريب منـه، ويعطي العالم صورة ساطعة، عن رفض العراق، وعزة العراق، ومقاومة العراق، التي ظلت جذواتـها  مشتعلة في قلوب شعبـه لا تني ولا تـهون رغم الكوارث والمحن.

وفجأة تحققت المعجزة..

... خرج المهدي "منتظر" من مغارة الحفل، وسلاحه العبقري الفتاك في قدميه. وما إن أخذ بوش والمالكي يتبجحان بنعم أمريكا على العراق، ويشيدان بنصرها المؤزر الوهمي، وينوهان برسالتـها التبشيرية إلى مهد الحضارة والرسالات، حتى انبرى لهما ذلك الفارس الشجاع: خلع نعلا صفع بـها بوش فركع ذليلا خائفا يتوارى وراء المنصة، وخلع أخرى أتبعها الأولى، وتمنى لو كانت له أرجل إضافية فيرجم بقذائفها طاغوت الاحتلال الهمجي! طار النبأ والصورة عبر شاشات العالم في كل الدنيا يعطي الفعل الأمريكي في العراق ختامه الأوفـى بما يمثله النعل والرجم من إهانة وازدراء في قاموس الثقافة العربية!

ومن ذلك اليوم جرت عادة الرجم بالنعل في العالم لحد اتخاذ المتظاهرين أمام البيت الأبيض ضد الحرب في العراق مجسما بـهلوانيا لبوش يرجمونـه بنعالهم صباح مساء!

وإذا كانت المقاومة المسلحة العراقية قد مرغت أنف أمريكا في التراب، ودكت في بواكيرها مقر أمم متحدة آلة فوق رأس ممثل جاء يبارك الاحتلال، وأذلت الأمين العام لتلك المنظمة يوم انـهالت عليه الصواعق وهو يخطب في المنطقة الخضراء المحصنة فركع خائرا على مرأى من شاشات العالم التي كانت ترصد الحدث، فإن "المهدي" منتظر الزيدي - برجمه بنعله لبوش أمام العالم كله- قد لعن أمريكا لعنة أبدية ستظل تطاردها ما رفرف لها علم!

ومن سخرية الأقدار، وإذلال المذل، أن تظل لعنة النعل تطارد آل بوش صاغرا عن كابر على أيدي الثائرين العراقيين: فنعل منتظر الزيدي أنزل بوش الصغير من صياصيه وهو يودع العراق والبيت الأبيض مزهوا كالديك المنفوش، فكان ختامه نعلا! بينما ظلت صورة بوش الكبير، لأزيد من عقد من الزمن، تدوسها بباب فندق الرشيد أحذية حجاج عاصمة الرشيد.

_________________________

1. المهدي المنجرة: الإهانة، ص 147

تصنيف: 

دخول المستخدم