قراءنا الأعزاء، إننا ننشر هذا الكتاب باللغة العربية كتاب جبل الحديد شركة معدنية بالصحراء الموريتانية في عصر العولمة لزميلنا بيير بونت Pierre Bonte الذي توفي مع الأسف في الرابع من نوفمبر سنة 2013، وهو بمثابة تذكار له، وبالنسبة لي فهو يعد رابع عمل أنجز ترجمته من أعماله بعد العمل الثاني بعيد وفاته الذي حمل عنوان: بيير بونت انتروبولوجي الغرب الإفريقي وهو عبارة عن نصوص كتبها باحثون بارزون يعرفونه أكثر من غيرهم من أمثال عبد الودود ولد الشيخ الذي رافقه خلال عمله الميداني على الأرض الموريتانية خلال فترة طويلة مليئة بالعطاء المتبادل، ولكن أيضا يزيد بن هنت والذي أشرف بونت على رسالته للدكتوراه وهو من أكثر تلامذته وفاء له، وأنا نفسي بعد ترجمتي لكتاب إمارة آدرار وكانت تلك الترجمة قد تمت في حياته.
توفي بييربونت يوم 4 نفمبر سنة 2013 قبل أن يرى كتابه روايات أصول المجتمعات البيظانية (أزيد من 800 صفحة) قد نشر وترجم، وكان يتمنى أن يراه وقد صدر، وكذلك ترجمة الكتاب الحالي جبل الحديد الذي نقوم الآن بتقديمه ويعود الفضل في نشر هذين الكتابين بعد وفاته إلى صديقته آن ماري بزبار Anne-Marie Brisebarre وصديقه الدكتور عبد الودود بن الشيخ الذي ساهم معه في إنجاز كتاب جبل الحديد يوم كان بيير حيا وجاهد لكي ينشر كتاب روايات أصول المجتمعات البيظانية وكان محرر مقدمته.
في شهر دجمبر سنة 2013 سلمتني آن ماري برزبار مخطوط كتاب روايات أصول المجتمعات البيظانية وكان النص يكاد يكون مكتملا قبل وفاته بقليل، فلقد أشعرني قبلها بأنه سوف يبعث به إلي وقد وعدته أن أترجمه إلي اللغة العربية، وكنت أرجو أن أنجز الترجمة بالتشاور معه كما فعلنا في ترجمة إمارة آدرار.
إن هذه الترجمة هي تحية وزلفى له ولجهوده وقد نشرت وصدرت لدى دار النشر جسور سنة 2015 بتقديم الدكتور عبد الودود ولد الشيخ – وقد أعدنا نشره هاهنا- كما صدرت النسخة الفرنسية خلال السنة الموالية يونيو 2016 لدى كرتلا.
إن هذا العمل الضخم يقوم على أطروحاته التي أعلن عنها في رسالته لنيل دكتوراه الدولة ويندرج في إطار مشروع بحث عنوانه: دخول الإسلام والتعريب، إلى غرب الصحراء والذي بدأناه أنا وبيير بونت في نهاية سنة 2008. يومها طلب مني في نهاية سنة 2007 التعاون معه في هذا العمل البحثي خاصة في جانبه المتعلق بالمصادر العربية كما تبين ذلك إحدى مراسلاته إلي حيث يقول:
عزيزي بو عليبة: "لقد قررت أن أشتغل على تطوير جزء آخر من هذه الأطروحة وخاصة الجزء المتعلق منها بما أسميه الأساطير الصحراوية حول الأسلمة"، ويعني ذلك بالنسبة لي جمع المعلومات التي توجد في الرواية الشفهية والمكتوبة المتعلقة بصحراء البيظان وتلك المتعلقة بعالم الطواق ودول السودان من خلال قراءة روايات الأصول التي تنتظم حول الأسلمة وتؤيدها هذه النصوص المتعلقة بالأصول، خاصة تلك التي تحيل إلى المرابطين. إن النصوص المتعلقة بهؤلاء مختلفة من حيث انغراسها في السياق المغاربي أو من حيث تجسيدها لنموذج ابن خلدون الذي اقتبست منه كثيرا (تاريخ القبائل والمماليك) وبلاد الصحراء باتجاه الجنوب. كانت نقطة البداية هي إثارة المواضيع المتعلقة بالبافور والإمام الحضرمي ... إلخ غير أن بعض الخطوط تسمح بتتبع بُني هذه الروايات وأنظمتها المشتركة والتي توصلنا إلى روايات أصول الطوارق وتأسيس المماليك السودانية والأصول اليمنية وإلى الشريف ببزول إلخ.. إنها إذن أمور كثيرة سوف تشغلني مع أن لدي إضافة إلى ذلك بعض المشاريع قيد النشر. إذا كان ذلك يهمك سوف أحيطك علما، وهناك إمكانية للتعاون خاصة فيما يتعلق بقراءة للنصوص العربية من هذا المنظور".
وبالفعل فقد بدأت بعد ذلك بقليل بجمع النصوص في أصولها العربية وبتحقيقها لتهيئتها لترجمة محتملة لروايات الأصول. كانت النصوص تختلف من حيث التطور الذي يحصل على المجموعات المكونة للمجتمع البيظاني ومن حيث أسلمتها وتعريبها منذ الفتح الإسلامي حتى أيامنا هذه. إن هذا التنوع لتعبر عنه الدراسات والنصوص التي كتبت حول هذا الموضوع. في كتاب روايات أصول المجتمعات البيظانية يعالج بيير بونت كمية هائلة من المعطيات التي أثيرت في أطروحته للدكترا، ولكنه يعالج أيضا كثير من المعلومات تحصل عليها في إطار هذا المشروع وحتى خلال فترة قليلة قبل وفاته وخاصة حول مناطق جنوب غرب موريتانيا، مثل منطقة تكماطين (بكاف معقودة) وقد كان ينوي تخصيص فصل حولها من الكتاب وقد عنونه (منظومة الروايات المتعلقة بتكماطين)، ولكن مع الأسف عاجلته الموت قبل أن ينهي العمل فيه.
وموازاة مع ذلك وفي إطار رحلات بحثية إلى المغرب ، كتب كتابا حول مكونة من مكونات عالم البيظان عنونه: الساقية الحمراء مهد الثقافة في غرب الصحراء وقد نشر في المغرب سنة 2012. وقبيل وفاته، كان قد أنجز كتابا آخر حول تاريخ وتطور الثقافة في غرب الصحراء وكان صدر لدى دار كرتلا 2017.
أما فيما يتعلق بإسهامي في إطار هذا المشروع، فقد كان علي إنجاز بعض الأعمال منها تلك الترجمات المتعلقة بأعمال جامعية ونصوص لمستكشفين والتي طبعت مرحلة في تطور البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية في موريتانيا، وذلك بغية السماح للقراء الأكاديميين والجامعيين باللغة العربية خاصة الولوج إلى تلك الأعمال. وهكذا فقد ترجت نصوصا للمستكشفين والجامعيين، فمن المستكشفين: ماج دولز وفنسان في مجلد ومنكو بارك (بكاف معقودة) في مجلد آخر. وفي مرحلة أخرى وفي اتفاق مع بيير بونت ترجمت كتابه إمارة آدرار وهو مستخرج من أطروحته وصدر 2008 لدى دار كرتالا وكتاب فرانسيس دي شاسيه موريتانيا 1900-1975 الصادر عن دار لارماتان سنة 1978، وكتاب فليب مرشزنه القبائل والإثنيات والسلطة في موريتانيا الصادر عن دار كرتالا سنة 1992. وهذه الكتب كلها تساهم في التعريف بتاريخ موريتانيا وبأنتروبولوجيتها. وقد أنجزت هذه الأعمال كلها بالاستناد على دار النشر جسور التي أنشأتُها يومها وقد نالت عربونا أخلاقيا من طرف بييربونت.
إن ترجمة أعمال الجامعيين مثل بيير بونت وكتابه إمارة آدرار وكتابه روايات أصول المجتمعات البيظانية وكتابه جبل الحديد إلخ. تستجيب لانتظارات جمهور القراء العرب. وقد لاحظنا أنا وبيير من جهة أن كثيرا من الدراسات في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية المتعلقة بموريتانيا قد نشرت باللغة الفرنسية وبنسبة لا تقل أهمية باللغة الإنجليزية من طرف باحثين أجانب، وهؤلاء ومنذ الاستقلال قد سخروا بحوثا مطولة حول هذا البلد وقد ساهمت هذه الأعمال مع ذلك بشكل كبير في وضع النماذج النظرية في جميع المجالات. ومن جهة أخرى فقد جعل التعليم الذي يقدم بالدرجة الأولى في هذا البلد بشكل متزايد باللغة العربية حتى في الجامعات، جعل من الصعب على الباحثين الوطنيين الولوج إلى أعمال ساهمت، بشكل كبير في وضع النماذج النظرية التي يعتمدون عليها في بحوثهم الخاصة. وبصفة عامة فإن المنشورات باللغة العربية لا تزال ناقصة وسيكون نشرها باللغة العربية فيه تسهيل على الباحثين من أجل استيعاب المفاهيم والمناهج المتداولة في تخصصات العلوم الاجتماعية والإنسانية. إن هذه الملاحظة هي التي كانت وراء فكرة مشروع ترجمة الكتب المكتوبة باللغة الفرنسية عن موريتانيا علها تساهم في كسر حاجز اللغة وفي تطوير البحوث الوطنية في هذه المجالات. إن ترجمة هذه الحقول المعرفية يمكن أن تسهل استخدام هذه المفاهيم والمناهج على الباحثين العرب المهتمين.
جبل الحديد
في سنة 1999 من شهر نوفمبر طلب المدير العام لشركة اسنيم محمد السالك بن هيين من بيير بونت وكذلك من عبد الودود بن الشيخ أستاذ الأنتروبولوجيا وعلم الاجتماع بجامعة نواكشوط، تحيين نتائج البحوث حول ميفرما التي أعدها بيير بونت والتي تعود إلى ثلاثة عقود مضت لكي يكتب كتابا حول تاريخ الشركة.
كانت شركة ميفرما قد عرفت خلال نهاية الستينات قلاقل وخاصة خلال شهر مايو سنة 1968 جراء مظاهرات العمال، وقد رغب المدير العام يومها بإعداد استقصاء سوسيولوجي حول التعايش بين المؤطرين الأوربيين والعمال الموريتانيين. وقد أسندت هذه الدراسة لبيير بونت وكان يومها شابا متخصصا في علم الأعراق ومهتما لسببين: أولا كان منحدرا من مناطق الشمال الفرنسي وهي مناطق منجمية، ومن جهة أخرى فلقد قام بمهمات علمية إلى النيجر في إطار أطروحته للدكترا التي كان موضوعها اتحاد القبائل الرعوية الطوارقية، فكان مهما له دراسة شركة منجمية تُستنبت في مجتمع رعوي مشابه.
من شهر أكتوبر 1969 حتى نوفمبر سنة 1971 قام بيير بونت بإقامات كثيرة في الزويرات وانوذيبو الميناء الذي كان ينقل منه الحديد وفيه مقر الشركة، وكذلك منطقة آدرار-تلك المنطقة التي راح يرصد زيارات عمال الشركة إليها وخاصة في زمن الكيطنة (بكاف معقودة) كما كثف المقابلات مع الأطر الأجانب وكذلك العمال الموريتانيين، وقد سمح له ذلك بإحصاء شامل لهذا المجتمع العمالي السائر في اتجاه وضع اليد العاملة الموريتانية في وضعية البرولتاريا. وقد أعد تقاريرا ثلاثة بلغت مئات من الصفحات للطاقم الذي يقود شركة ميفرما والتقارير هي:
1-:التصنيع والمجتمعات البدوية بشمال موريتانيا (الزويرات).
2-:التصنيع والمجتمعات البدوية بشمال موريتانيا انوذيبو.
3-:التصنيع والمجتمعات البدوية بشمال موريتانيا (آدرار (المجتمع البيظاني والهجرة)).
في هذه الدراسة الجديدة جبل الحديد التي أعدها بيير من سنة 2000 إلى سنة 2001 اتضح من خلال مقارنة الوضعيتين؛ وضعية ميفرما ووضعية اسنيم أن هذه الأخيرة جمعت بين التقليد والحداثة، التقليد المتمثل في المرتنة الاجتماعية والثقافية للشركة المؤممة، والحداثة المتمثلة في التمكين المتدرج من الموريتانيين من بلوغ الهدف الصناعي المرسوم داخل النظام الاقتصادي العالمي، لقد ارتسم تاريخ الشركتين في الذاكرة الجماعية وشاركتا بذلك في تطور المجتمع الموريتاني المعاصر.
إن ترجمة هذا الكتاب جبل الحديد الذي هو عصارة من الدراستين أعلاه وغيره من كتب الرجل لهي بمثابة واجب أخلاقي إزاء عالم كبير وصديق لي بل وصديق لكل ساكنة هذه الصحراء الواسعة. وهي كذلك بمثابة استمرار لتقديم أعمال هذا العالم الغزيرة إلى القراء العرب الموريتانيين وقد شغلتني خلال عشرين سنة وبدون انقطاع يذكر، وقد حظيت مني بعناية خاصة لأن ترجمة هذه الكتب عهد في رقبتي أخذته على نفسي، كما تفرضها علي العلاقات التي كانت تربطني به والبحوث التي اشتركنا في إعدادها.
إن مما كان يذهلني في هذا الرجل منذ أن بدأنا هذا المشروع أنه كان يشتغل بدون كلل على أبحاث طويلة وشاقة ومضنية، وكل هذه النشاطات البحثية التي حددنا أهدافها أنا وبيير بونت قد أنجزت وتشهد على ذلك كل الأعمال التي نشرت حتى الساعة وتلك التي ستنشر في قابل الأيام.
وما كان لهذه الأعمال أن نتحقق دون العون المستمر لبيير واستعداده الدائم. فليجد في هذه الذكرى كل تقديري واحترامي العميق.
وبهذه المناسبة لا يسعني إلا أن أشكر المندوب المدير العام لشركة اسنيم محمد فال بن التليميدي والمدير العام لخيرية اسنيم محمد محمود بن سيدينا لما بذلاه لكي يصدر هذا العمل باللغة العربية ويستفيد منه عالم اسنيم فلهم مني الشكر والعرفان والله ولي التوفيق.
د. محمد بن بوعليبة بن الغراب
تصنيف: