الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله وبعد
فإن نشأة علم أصول الفقه ارتبطت دائما بحال الأمة والإشكالات المعرفية التي يطرحها التعامل مع الوحي في ضوء واقع الناس المتجدد عبر الزمان ..
وهكذا فإنه يمكن القول أن أزمة المنهجية كانت دائما سببا في تشعب الفهومات ومن ثم انفراط عقد الأمة وظهور الحالات المرضية في الفكر والسلوك ..
لقد كانت أزمة الفهم هي الخلفية الأساس لرسالة المحدث
عبد الرحمن بن مهدي التي أرسلها للإمام الشافعي وكانت تلك هي الجذوة الأولي لما انقدح في ذهن الشافعي وكان ابتكارا لعلم هو أخص ما تختص به هذه الشريعة لجمعه بين العقل والنقل. ..
ولقد كان لعلماء الأصول أثر بالغ في تنوير الفكر وتجميع الأمة لان علم الأصول يهتم بتجميع القضايا المتناثرة في حكم كلي تندرج تحته كل المسائل المتشابهة .. ولأن جمع الأفكار تنتج عنه عقلانية في المسلكيات والتصرفات ..
والفقيه العادم لهذه الملكة يضرب أخماسا في أسداس فتتناقض فتاويه .. فينقض آخرها أولها ..وتري له في النازلة الواحدة آراء متشعبة لا يجمع بينها جامع.. يحرم اليوم ما يبيحه غدا ويشنع اليوم ما كان يراه
أمرا لا باس به...
يتخبط مريدوه بين مكفر للقوم ومبدع للناس ، ثم لا يلبثون إلا قليلا.. فيصبحون أكثر ألفة وإيناسا من الحمام في أرض الحرم ..
تنشطر الأمة بسبب هذا النوع من المفتين فكما تناقضت الأفكار عنده يتناقض الناس من حوله فتشتعل الحروب وتكثر الهرج...
ولقد بيَّن العلامة شهاب الدين القرافي أهمية معرفة القواعد والأصول بالنسبة للفقيه فقال :
" وَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ مُهِمَّةٌ فِي الْفِقْهِ عَظِيمَةُ النَّفْعِ وَبِقَدْرِ الْإِحَاطَةِ بِهَا يَعْظُمُ قَدْرُ الْفَقِيهِ، وَيَشْرُفُ وَيَظْهَرُ رَوْنَقُ الْفِقْهِ وَيُعْرَفُ وَتَتَّضِحُ مَنَاهِجُ الْفَتَاوَى وَتُكْشَفُ، فِيهَا تَنَافَسَ الْعُلَمَاءُ وَتَفَاضَلَ الْفُضَلَاءُ، وَبَرَزَ الْقَارِحُ عَلَى الْجَذَعِ وَحَازَ قَصَبَ السَّبْقِ مَنْ فِيهَا بَرَعَ، وَمَنْ جَعَلَ يُخْرِجُ الْفُرُوعَ بِالْمُنَاسَبَاتِ الْجُزْئِيَّةِ دُونَ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ تَنَاقَضَتْ عَلَيْهِ الْفُرُوعُ وَاخْتَلَفَتْ وَتَزَلْزَلَتْ خَوَاطِرُهُ فِيهَا وَاضْطَرَبَتْ، وَضَاقَتْ نَفْسُهُ لِذَلِكَ وَقَنَطَتْ، وَاحْتَاجَ إلَى حِفْظِ الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى وَانْتَهَى الْعُمْرُ وَلَمْ تَقْضِ نَفْسُهُ مِنْ طَلَبِ مُنَاهَا وَمَنْ ضَبَطَ الْفِقْهَ بِقَوَاعِدِهِ اسْتَغْنَى عَنْ حِفْظِ أَكْثَرِ الْجُزْئِيَّاتِ لِانْدِرَاجِهَا فِي الْكُلِّيَّاتِ، وَاتَّحَدَ عِنْدَهُ مَا تَنَاقَضَ عِنْدَ غَيْرِهِ وَتَنَاسَبَ.
وَأَجَابَ الشَّاسِعَ الْبَعِيدَ وَتَقَارَبَ وَحَصَّلَ طِلْبَتَهُ فِي أَقْرَبِ الْأَزْمَانِ وَانْشَرَحَ صَدْرُهُ لِمَا أَشْرَقَ فِيهِ مِنْ الْبَيَانِ فَبَيْنَ الْمَقَامَيْنِ شَأْوٌ بَعِيدٌ وَبَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ تَفَاوُتٌ شَدِيدٌ".
ونظرا لأهمية هذا العلم فقد قيض الله له أعلاما.
خلق الله للحروب رجالا ورجالا لقصعة وثريد
و من بين أشهر أولائك بلا شك العلامة شهاب الدين القرافي الصنهاجي.
عاش الإمام أحمد بن أبي العلاء إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله الصنهاجي القرافي في مصر، في الفترة الواقعة بين عامي (626-684هـ) أي: في القرن السابع الهجري.
قال ابن فرحون: « ذكر لي بعض تلامذته: أن سبب شهرته بالقرافي أنه لَمّا أراد الكاتب أن يُثبت اسمه في بيت الدرس كان حينئذ غائباً فلم يعرف اسمه، وكان إذا جاء للدرس يُقبل من جهة القرافة ، فكُتِب (القرافي) فجرت عليه هذه التسمية».
درس القرافي على يد كثير من علماء عصره الأفذاذ، من بينهم ابن الحاجب والعز بن عبد السلام .
وتتلمذ عليه أفذاذ منهم قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز،. والبقوري، وشهاب الدين المرداوي، وتاج الدين الفاكهاني وابن راشد القفصي .
و قد حظي كتابه هذا "أنوار البروق في أنواء الفروق" المعروف ب"فروق القرافي" باهتمام الفقهاء حتى اشتهرت فيه قولتهم: «عليك بفروق القرافي ولا تقبل منها إلا ما سلمه ابن الشّاط ...». .
وقد استثمر القرافي جهود من سبقوه ، وشحن كتابه بالنقول عنها، ، فمن أمهات المذهب التي نقل عنها: "الموطأ" لمالك بن أنس (تـ179هـ)، والمدونة لابن حبيب (تـ240هـ)، والمعونة للقاضي عبد الوهاب(تـ422هـ)، والاستذكار لابن عبد البر(تـ463هـ)، والقبس لابن العربي(تـ468هـ)، والتبصرة للخمي (تـ478هـ)، والمقدمات الممهدات لابن رشد(تـ520هـ)، والتنبيهات للقاضي عياض(تـ544هـ)، والجواهر الثمينة لابن شاس(تـ616هـ)، وغيرها، .
كما تعددت نقوله عن المذاهب الأخرى كالشافعية، والحنفية، والحنابلة وغير ذلك، وتفاوتت درجة الاقتباس والنقل عنها حسب ما يقتضيه المقام.
و قد اهتم العلماء بهذا الكتاب ترتيباً، وتعقيباً، وتهذيباً واختصاراً ومن ذلك : "ترتيب فروق القرافي واختصارها» للشيخ محمد بن إبراهيم البقوري (ت707هـ)، و«إدرار الشروق على أنوار الفروق» للإمام الفقيه أبي القاسم ابن الشاط (ت723هـ)، و«تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية» لمحمد علي بن الشيخ حسين المكي المالكي (ت1327هـ).
ومن تجلِّيات هذا الاهتمام حرص العلماء على النقل عنه واعتماده في تآليفهم، ومن هؤلاء : ابن جزي (ت741هـ) في القوانين الفقهية، وابن فَرْحون (ت799هـ) في تبصرة الحكام، وشمس الدين محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي (ت977هـ) في الخصال المكفرة للذنوب، والوَنْشَريسي (914هـ) في المعيار، والحطاب الرُّعَيْني (ت954هـ) في مواهب الجليل، ومحمد بن علي الشوكاني (ت1250هـ) في البحث المسفر عن تحريم كل مسكر ومفتر، وأبو الحسن علي بن عبد السلام بن علي التُّسُولي (ت1258هـ) في البهجة في شرح التحفة... وغيرهم.
ولقد اشتهر أعلام من بلاد شنقيط بتضلعهم بهذا العلم، فألفوا وقعدوا وشر حوا المتون واختصروا المطولات ومن بين هؤلاء علي الخصوص :
- العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي المتوفي 1230 ه صاحب كتاب مراقي السعود وشرحه المعروف بنشر البنود
- العلامة محنض بابا ولد اعبيد الديماني المتوفي 1287 ه صاحب نظم سلم الوصول علي علم الاصول
- العلامة المختار بن بونه الجكني المتوفي 1220 ه صاحب نظم جمع الجوامع
- العلامة الشيخ سيد محمد الكنتي المتوفي 1244ه صاحب منهج الفعال علي ورقات غمام الحرمين
- العلامة الشيخ محمد المامي اليعقوبي المتوفي 1282 صاحب قصيدة قصائد الدولاب والارمديات في أصول الفقه
- العلامة الشيخ ماء العينين المتوفي 1327
أول من اعتني بكتاب الموافقات للشاطبي وشرحه في كتابه المرافق علي الموافق وله مؤلفات أخري في هذا العلم
- العلامة محمد يحيي الولاتي المتوفي 1330 ه صاحب نيل السول علي مرتقي الأصول
- العلامة النابغة الغلاوي صاحب كتاب بوطليحية في نقد مؤلفات الأصول
ولقد اتبعت هؤلاء وسلكت ما سلكوه وشجعني علي ذلك شيخي العلامة حمدا ولد التاه حفظه الله فلقد كان باختصاره للموافقات الشاطبي سابقا في إبراز أهمية الدرس الأصولي وأهمية استحضاره في الفتوى والقضاء ..
أما أنا فقد فقد انشغلت خلال هذا المؤلف بتقريب كتاب الفروق وجعله "كتاب العامة" وكان من قبل كتاب الخاصة بل خاصة الخاصة كما يقول العلامة حمدا ولد التاه في تقديمه للكتاب .
و كما قلت في مقدمة الجزء الثاني ( فقد كنت سميته اختصار فروق القرافي ولك أن تسميه بالمنتخب من فروق القرافي لأنني لم ألتزم فيه بذكر جميع الفروق التي جاء بها شهاب الدين القرافي .بل اختصرت العدد واتبعت فيه قاعدة سيدي خليل ( وَقَابَلَ بين اثنين فأخذ أحد المثلين وأَكْثَرَ الْمُتَدَاخِلَيْنِ وَحَاصِلُ ضَرْبِ أَحَدِهِمَا فِي وَفْقِ الْآخَرِ إنْ تَوَافَقَا: وَإِلَّا فَفِي كُلِّهِ إنْ تَبَايَنَا )
فلقد جمعت ما تداخل واكتفيت بما تماثل و اعتمدت ما كان أصلا تاركا
الفرع خوف التطويل ورغبة في التبسيط .
.و لقد قدمت بعض الفروق وأخرت البعض لدواع منهجية ومشاغل علمية .
ثم إنني تحاشيت فيه ومنه بعض المصطلحات الفقهية التي كانت متداولة
في أدبيات الفكر الإسلامي والتي قد يفهم منها "المساس بحقوق الإنسان" وذلك
رغبة في إظهار الفقه الإسلامي في رونقه وصورته الحقيقية يكرس حقوق
الإنسان ويكرمه ويبوؤه المكانة السامقة .)
إن الفارق الذي اعتني القرافي بإثباته هو المعنى المناسب المؤثر في الحكم الشرعي الذي أدى وجوده في موطن وغيابه في الموطن الآخر إلى اختلاف الحكم الشرعي.
ومن أمثلة ذلك الفرق بين فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَفَرْضِ الْعَيْنِ فمَا تَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ بِتَكَرُّرِهِ هو فرض العين ومَا لَا تَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ بِتَكَرُّرِهِ هو فرض الكفاية فَالْأَوَّلُ كالصلاة المفروضة والثاني كَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ فَالنَّازِلُ بَعْدَ انتشاله فِي الْبَحْرِ لَا يُحَصِّلُ شَيْئًا مِنْ الْمَصْلَحَةِ فَجَعَلَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَلَى الْكِفَايَةِ نَفْيًا لِلْعَبَثِ فِي الْأَفْعَالِ .
ومن ذلك أيضا الفرق بين قَاعِدَةِ تَمْلِيكِ الِانْتِفَاعِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ .
فَتَمْلِيكُ الِانْتِفَاعِ يمكن من مباشرة الشخص بعينه كالمكان في المسجد فله أن يُبَاشِرَ هُوَ بِنَفْسِهِ فَقَطْ وَتَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ هُوَ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ فَيُبَاشِرُ بِنَفْسِهِ وَيُمَكِّنُ غَيْرَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِعِوَضٍ كَالْإِجَارَةِ ونحوها .
ومن تلك االمسائل أيضا الفرق بَيْنَ قَاعِدَةِ الشَّكِّ فِي السَّبَبِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ السَّبَبِ فِي الشَّكِّ.
فقد شَرَعَ الشارع الْأَحْكَامَ وَشَرَعَ لَهَا أَسْبَابًا وَجَعَلَ مِنْ جُمْلَةِ مَا شَرَعَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الشَّكَّ فَشَرَعَهُ فِي عِدَّةٍ مِنْ الصُّوَرِ منها :
- إذَا شَكَّ فِي عَيْنِ الصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ خَمْسُ صَلَوَاتٍ وَسَبَبُ وُجُوبِ الْخَمْسِ هُوَ الشَّكُّ
- وَمِنْهَا مَا إذَا شَكَّ هَلْ تَطهَرُ أَمْ لَا ؟ وَجَبَ الْوُضُوءُ.وَسَبَبُ وُجُوبِهِ الشَّكُّ.
- وَمِنْهَا مَا إذَا شَكَّ هَلْ صَامَ أَمْ لَا؟ وَجَبَ الصَّوْمُ وَسَبَبُ وُجُوبِهِ الشَّكُّ
- وَمِنْهَا مَا إذَا شَكَّ هَلْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ أَمْ لَا وَجَبَ إخْرَاجُهَا
وَقَدْ يُلْغِي صَاحِبُ الشَّرْعِ الشَّكَّ فَلَا يَجْعَلُ فِيهِ شَيْئًا كَمَنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَالشَّكُّ لَغْوٌ وَمَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ هَلْ سَهَا أَمْ لَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَالشَّكُّ لَغْوٌ فَهَذِهِ صُوَرٌ مِنْ الشَّكِّ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ.
وَقِسْمٌ ثَالِثٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نَصْبِهِ سَبَبًا كَمَنْ شَكَّ هَلْ أَحْدَثَ أَمْ لَا فَاعْتَبَرَهُ مَالِكٌ دُونَ الشَّافِعِيِّ.
وَمَنْ شَكَّ هَلْ طَلَّقَ ثَلَاثًا أَمْ اثْنَتَيْنِ أَلْزَمَهُ مَالِكٌ الطَّلْقَةَ الْمَشْكُوكَ فِيهَا دُونَ الشَّافِعِيِّ.
وَمَنْ حَلَفَ يَمِينًا وَشَكَّ مَا هِيَ أَلْزَمَهُ مَالِكٌ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ .
فَقَدْ انْقَسَمَ الشَّكُّ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ مُجْمَعٌ عَلَى اعْتِبَارِهِ وَمُجْمَعٌ عَلَى إلْغَائِهِ وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ.
ومن تلك القواعد أيضا الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ النَّقْلِ وَقَاعِدَةِ الْإِسْقَاطِ فالنقل يحتاج قبول الطرف الثاني المنقول اليه كالهبات والعارية والاسقاط لا يحتاج الي نية ..
ووقع الخلاف في الْإِبْرَاء مِنْ الدَّيْنِ والوقف
وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ هَلْ هما من باب الاسقاط او النقل
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ فِي شأن الْمَسَاجِدِ أَنَّهَا مِنْ بَابِ الْإِسْقَاطِ.
فاللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ مِنْ التَّوَدُّدِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1]
ثم أباح برهم في آية أخري فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} [الممتحنة: 8]
فما الفرق بين بر أهل الذمة والتودد لهم ؟
والْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ النُّصُوصِ يقتضي إباحة برهم بِكُلِّ أَمْرٍ لَا يُؤَدِّي إلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ :أحدُهُمَا مَا يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى مَوَدَّاتِ الْقُلُوبِ وَثَانِيهِمَا مَا يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى تَعْظِيمِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ
ومن تلك الفروق أيضا الفرق بَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِزَالَةِ فِي النَّجَاسَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِحَالَةِ فِيهَا)
فإزَالَةَ النَّجَاسَةِ فِي الشَّرِيعَةِ تَقَعُ عَلَى ثَلَاثِ أَقْسَامٍ إزَالَةٍ وَإِحَالَةٍ وَهُمَا مَعًا وَلِكُلِّ قَاعِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ خَاصِّيَّةٌ تَمْتَازُ بِهَا أَمَّا الْإِزَالَةُ فَبِالْمَاءِ فِي الثَّوْبِ وَالْجَسَدِ وَالْمَكَانِ.
وَأَمَّا الْإِحَالَةُ فَفِي الْخَمْرِ تَصِيرُ خَلًّا وَأَمَّا هُمَا مَعًا فَفِي الدِّبَاغِ
ومن تلك الفروق أيضا الفرق بين بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمَجْهُولِ وَقَاعِدَةِ الْغَرَرِ فمَا عُلِمَ حُصُولُهُ وَجُهِلَتْ صِفَتُهُ فَهُوَ الْمَجْهُولُ كَبَيْعِهِ مَا فِي كُمِّهِ فَهُوَ يَحْصُلُ قَطْعًا لَكِنْ لَا يُدْرَى أَيُّ شَيْءٍ هُوَ .
وأما َالْغَرَرُ فهو ما لا يعرف حصوله كالحوت في البحر والطير في الهواء .
فكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعَمُّ مِنْ الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ وَأَخَصُّ مِنْ وَجْهٍ فَيُوجَدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ الْآخَرِ وَبِدُونِهِ.
ومن تلك الفروق أيضا الفرق بَيْنَ قَاعِدَةِ الْفَسْخِ وَقَاعِدَةِ الِانْفِسَاخِ فَالْفَسْخُ قَلْبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ لِصَاحِبِهِ وَالِانْفِسَاخُ انْقِلَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ لِصَاحِبِهِ. فَالْأَوَّلُ فِعْلُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ الْحَاكِمِ إذَا ظَفِرُوا بِالْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ وَالثَّانِي صِفَةُ الْعِوَضَيْنِ.
فَالْأَوَّلُ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ وَالثَّانِي حُكْمٌ شَرْعِيٌّ .
ومن تلك الفروق أيضا مَا يُمْنَعُ فِيهِ الْجَهَالَةُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْجَهَالَةُ بِحَيْثُ لَوْ فُقِدَتْ فِيهِ الْجَهَالَةُ لفَسَدَ وهي قاعدة جمع الفرق .
وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى ُ يُنَاسِبُ الْإِثْبَاتَ وَالنَّفْيَ أَوْ يُنَاسِبُ الضِّدَّيْنِ، وَيَتَرَتَّبَانِ عَلَيْهِ فِي الشَّرِيعَةِ،
واختم هذه النماذج بالفرق بين التَّوَكُّلِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَرْكِ الْأَسْبَابِ قال القرافي :
الْتَبَسَت هَاتَانِ الْقَاعِدَتَانِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ فِي عِلْمِ الرَّقَائِقِ فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ إلَّا مَعَ تَرْكِ الْأَسْبَابِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ وَغَيْرِهِ
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ التَّوَكُّلِ وَتَرْكِ الْأَسْبَابِ، وَلَا هُوَ هُوَ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ التَّوَكُّلَ هُوَ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فِيمَا يَجْلِبُهُ مِنْ خَيْرٍ، أَوْ يَدْفَعُهُ مِنْ ضُرٍّ، قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: وَالْأَحْسَنُ مُلَابَسَةُ الْأَسْبَابِ مَعَ التَّوَكُّلِ لِلْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ،
وَقَدْ انْقَسَمَتْ الْخَلَائِقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ اللَّهَ - تَعَالَى - بِاعْتِمَادِ قُلُوبِهِمْ عَلَى قُدْرَتِهِ - تَعَالَى - مَعَ إهْمَالِ الْأَسْبَابِ وَالْعَوَائِدِ فَلَجَّوا فِي الْبِحَارِ فِي زَمَنِ الْهَوْلِ وَسَلَكُوا الْقِفَارَ الْعَظِيمَةَ الْمُهْلِكَةَ بِغَيْرِ زَادٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، فَهَؤُلَاءِ حَصَلَ لَهُمْ التَّوَكُّلُ وَفَاتَهُمْ الْأَدَبُ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعِبَادِ أَحْوَالُهُمْ مَسْطُورَةٌ فِي الْكُتُبِ فِي الرَّقَائِقِ، وَقِسْمٌ لَاحَظُوا الْأَسْبَابَ، وَأَعْرَضُوا عَنْ التَّوَكُّلِ، وَهُمْ عَامَّةُ الْخَلْقِ وَشَرُّ الْأَقْسَامِ، وَرُبَّمَا وَصَلُوا بِمُلَاحَظَةِ الْأَسْبَابِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمُسَبِّبِ إلَى الْكُفْرِ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ اعْتَمَدَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - طَلَبُوا فَضْلَهُ فِي عَوَائِدِهِ مُلَاحِظِينَ فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ مُسَبِّبَهَا وَمُيَسِّرَهَا فَجَمَعُوا بَيْنَ التَّوَكُّلِ وَالْأَدَبِ وَهَؤُلَاءِ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ، وَخَاصَّةُ عِبَادِ اللَّهِ - تَعَالَى.
وَالْعَارِفُونَ بِمُعَامَلَتِهِ جَعَلَنَا اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ فَهَؤُلَاءِ هُمْ خَيْرُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ.
هذا ما أردت قوله وبالله التوفيق
والسلام عليكم ورحمة الله
صالون العلامة الولي محمذن ولد محمودن
انواكشوط 1أغشت 2016
الدكتور الشيخ ولد الزين ولد الامام
تصنيف: