تعديلات دستورية جديدة، وتعديلات التعديلات: ولِمَ لا؟

بوصفي مواطنا "مستهلكا" للنصوص القانونية والدستورية، ومتابعا لحد ما لما يجري ويصدر عن الجمعية الوطنية في الفترة الراهنة، ومتلقيا لما ييتناوله الشارع واصداؤه، نشأت في ذهني تساؤلات متنوعة تتمحور أساسا حول "الباب الثامن حول محكمة العدل السامية"؛ وبعضها يتعلق بجدل دستوري سابق.

أولا: تنص المادة 92 والمادة 93 من الدستور الموريتاني على أن المساءلة القضائية للوزراء وأعضاء الحكومة تتم أمام محكمة العدل السامية التي يتألف أعضاؤها من منتخبين أعضاء في الجمعية الوطنية، أي من رجال سياسيين. والوزير يشغل وظيفة سياسية، تماما مثل النواب الذين سيحاكمونه. بمعنى آخر: نحن أمام احتمال الوقوع في تنافر المصالح (conflit d’intérêt). فمن الصعب فعلا في هذه الظروف أن تخلو المحاكمة من شوائب "التسْيِيس". فالخوف وارد تماما من أن يكون النائب-عضو المحكمة-حليفا أو معارضا للوزير الذي سيَمْثُل أمامه كمتهم، مع ما قد ينتج عن ذلك من أثر سلبي على سلامة العملية القضائية.

ثانيا: مستشارو الوزير ومعاونوه تتم محاكمتهم من طرف المحاكم العادية، وكأن محاكمنا تسير بوتيرتين مختلفتين! فلماذا هذا التمييز؟ ألا ينبغي أن يكون أعضاء الحكومة قابلين للتقاضي مثل غيرهم من المواطنين، من طرف خبراء قانونيين محترفين وليس من طرف السياسيين؟

ثالثا: تأويل المادة 93 يثير اليوم جدلا كبيرا بين أنصار الرئيس السابق السيد محمد ولد عبد العزيز، من جهة وخصومه من جهة أخرى. ولا يقتصر الخلاف على السياسيين، بل يشمل القانونيين من كِلا الطرفين. ألا ينبغي تعديل هذه المادة؟ هذا مع العلم أن فرنسا، التي نُقل النص حرفيا عن دستورها القديم، في صيغته التي تعود إلى عهد الجنرال ديغول- قد غيرت هذه المادة منذ 2007 خلال رئاسة نيكولا ساركوزي، بصورة لم يبق معها أي مجال للجدل حول امكانية استفادة رئيس الجهمورية من الصيانة القانونية المطلقة أو عدمها.

رابعا: يصنف كثير من فقهاء القانون والدستوريين محكمة العدل السامية على أنها نوع من المحاكم الاستثنائية. وهذه الأخيرة غير محبذة كثيرا، حسب منطق المتشبثين بدولة القانون. والعمل بها في تراجع مستمر عبر العالم.

فلماذا بلادنا لا تفكر في صيغة قضائية تسمح بالاستغناء عن هذا النوع من المحاكم الخاصة المثير للجدل، مثلما تخلت عن "محكمة أمن الدولة".

خامسا وأخيرا: على هامش تساؤلاتي حول محكمة العدل السامية، دفع بي تيار التأملات الشاردة إلى التعديلات الدستورية الأخيرة وما أثارته هي الأخرى من جدل وتنافر قوي في الرؤى اتخذ الوانا متعددة ومتباينة، بعضها شديد، وبعضها طريف وخفيف الظل يطال الزي أحيانا. ويلاحظ اليوم أن النقاش لم يعد حامي الوطيس كما كان في السابق خلال الحملات الانتخابية الماضية، بل تراجعت وتيرته وحِدَّته كثيرا، غير أنه لم يختف نهائيا.

فما زال يطفو أحيانا على الواجهة، عبر أصوات تدعو من حين لآخر إلى مراجعة الدستور بشكل يعيد بنا إلى تبني النشيد الوطني والعلم القديمين. وكنت مساندا، وما زلت، للتعديلات السابقة حول هذين الموضوعين. إلا أنني لا أرى مانعا في الاستماع من جديد للرأي الآخر واثراء النقاش حول هذه المواضيع وغيرها. واعتقد أن الدعوة إلى التفكير حول إعادة النظر في " محكمة العدل السامية" توفر فرصة في هذا السبيل.

البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي) 

تصنيف: 

دخول المستخدم