في تأبين المفوض انكراني ولد محمد محمود رحمه الله : وترجل فارس آخر من نوع آخر! (ح1)

كان من المستحيل أن لا ينبهر الفتى الإگيدي - الذي رأى أول جبل في حياته في مرسيليا- بجبال آدرار الشاهقة التي هيأته ليكون حصن المقاومة الوطنية ضد الاستعمار، وسورا طبيعيا يحمي الوطن من صولات وكيد الغزاة والطامعين!

وفي آدرار الذي حول إليه تحويلا تعسفيا منتصف سنة 1964 عاش أحداث ثلاث ملاحم لم  ينطف أوارها يومئذ بعد؛ بل لا يزال أريجها الفواح الساحر يموج في كل الأرجاء، وهي:

* ملحمة المقاومة الوطنية ضد الاستعمار التي كان آدرار قاعدتها، وتخال معاركها ما تزال مستمرة لطلاوة وحضور أيامها الخالدة، وشدة وطأة وأزيز قاعدة "لاكوك" الفرنسية التي لا تزال جاثمة على صدر مدينة أطار رغم مضي أربع سنوات من الاستقلال، ولوجود قادة ورموز من تلك المقاومة على قيد الحياة مثل السيد محمد ولد الصفره - رحمه الله- الذي شهد معركة قتل كابولاني في تجگجه، وقد قص عليه تفاصيل تلك المعركة وغيرها لَمَّا لقيه في مدينة أوجفت.

* ملحمة النهضة الوطنية التي ما تزال يومئذ قياداتها وأناشيدها ومناضلوها ومحكوموها بالمؤبد يعمرون مدينة أطار وسجنها رغم اندماج حزب النهضة في حزب الشعب. ومن أبرز رموز حزب النهضة يومها في أطار: أبناء وبنات همدي ولد محمود وماء العينين ولد اشبيه، وسيدي محمد ولد القاسم والجيش ولد سدوم رحمهما الله.

* ومدينة شنقيط التاريخية التي كان يهيم بها ويحسبها إحدى أساطير الأولين وأعجوبة من عجائب الدنيا التي يحلم بحجها. وها هو ذا يجد نفسه فجأة يتسلق قمم أمگجار العالية الوعرة في طريقه إليها.. ويدخلها "فاتحا" من أوسع أبوابها!

كانت شنقيط يومئذ مدينة تاريخية وواحة جميلة هادئة تنام في أحضان الجبال والكثبان والأودية، وخالية من جميع مظاهر الحياة العصرية (لا كهرباء Kلا ماء ولا فلل ولا سياح) ماعدا مركزا متواضعا للمقاطعة ترفرف عليه راية الدولة ويقطنه الحاكم العادل العالم الصالح محمد صالح ولد الشيخ أحمد الفالي "انن" في جيش من نصف دزينة من أفراد الحرس الوطني.

ومع ذلك، فقد كانت عامرة تعج بعلم وكرم وجود ونبل وعلو همم أهلها. فأتاحت له المقادير أن يرتع في مروجها بين خمائل جنتين عاليتين من جنانها هما:

* مجلس علم وحلم وفضل وجود لا يزال يتذكر من بين جهابذته فضيلة القاضي بَيَّ ولد السالك رئيس محكمة ولاية آدرار الإسلامية، وفضيلة القاضي منَّ ولد حامني قاضي - وسليل قضاة- مدينة شنقيط، وسعادة الحاكم محمد صالح ولد الشيخ أحمد الفالي، وفضيلة الشيخ الفقيه ابَّ ولد محمد محمود، أحد علماء ووجهاء المدينة (رحمهم الله جميعا) وفضيلة الأستاذ البناني بن أحمد محمود كاتب محكمة أطار. وفي هذا المجلس كان القراء ومالك وابن القاسم وخليل وشروحه المغربية والموريتانية وابن مالك ومختلف أصحاب كتب النوازل كالونشريسي والگصري حاضرين في عقول - وعلى شفاه- أولئك الشيوخ في منتداهم وسمرهم؛ ناهيك عن فحول الشعراء كالمتنبي وأبي تمام والبحتري وابن رازگه ومحمد ابن الطلبة وابن محمدي.. الخ.

* مجلس فتوة وشباب وثورة يتكون من شلة من أبناء المدينة ما إن رأته حتى اختطفته من بين الشيوخ إلى عرينها، وعمدته في أتون عنفوانها وثورتها. وفي ذلك العرين الشنقيطي الشاب عاش الفتى الإگيدي "ثورة في الثورة" المعتملة في نفسه منذ حين! لقد كان يوسف الشلة عائدا للتو بخفي حنين من معركة كبرى كمعركة حافظ إبراهيم، ولسان حاله ينشد قول حافظ:

سعيت إلى أن كدت أنتعل الدما ** وعدت وما أعقبت إلا التندما

وكان العائد المهزوم قد جلب معه - على طريقة الشناقطة العائدين من المهجر- مكتبة عصرية وتجربة غنية رتع هو فيهما بنهم شديد، فتعرف على مأساة شعب جنوب إفريقيا الشبيهة بمأساة فلسطين التي عانقها منذ أن قرأ في مونبلييه كتاب كارثة فلسطين لعبد الله التل. كما اطلع على كنزين ثمينين هما: مذكرات العائد المهزوم بخط يده؛ والتي يوثق فيها تفاصيل خطيرة عن محاولات العرش المغربي زعزعة النظام الموريتاني الوليد في بداية الستينيات، تلك المحاولات التي ما تزال تفاصيلها مجهولة إلى يومنا هذا، والتي كان صاحب المذكرات أحد أركانها الثلاثة: جلالة الملك الحسن الثاني، الزعيم أحمدو ولد حرمه، وصاحب المذكرات. وديوان شعره الرائع الرائد الجميل في الثورة والقومية العربية وحقوق الإنسان.

لقد كان هذا الديوان رائدا في الثورة على الاستعمار وفي القومية العربية وفي حقوق الإنسان ومحاربة الرق وفي دعم القضية الفلسطينية، ولصاحبه السبق في هذه المجالات والأغراض؛ حتى على الشيخ محمد سالم ولد عدود، وعلى الشاعر الكبير أحمدو ولد عبد القادر، وعلى كاتب هذه الأحرف.

ولإعطاء فكرة موجزة عن هذا الديوان المطمور، هذه مختارات من بعض قصائده التي أشعلت حماس الفتى الإگيدي وتخمرت في وجدانه المتحفز المرهف:

في القومية العربية واللغة العربية:

حار البليغ وهانت الأقـــــــلام ** لغة الهدى تنبو بها الأيــــــــــام

من بعدما كان الرسول دعا بها ** وتنزل القرآن والأحــــــــــكام

يقضي عليها الداخلون مكـــيدة ** لبلادنا ويـــــــسامح الحـــــكام

لغة الأجانب عندنا رســــــمية ** ولساننا بين الســـــــطور يضام

وشبابنا يتدارسون الأجـــــــنبــ **ـــــي وما لهم بتراثهم إلــــــمام

ومَوَاطِن الغرب التي حفظوا لنا ** لا مصر تعرف بينهم لا الشام

كلا ولا شـــــبه الجـزيرة كلها ** والمغرب العربي أين يـــــرام؟

يا قــــــــوم إنا أمـة عـــــربية ** ولنا مرام العُرْب وهو مــــرام

الوحدة الكبرى طــموح نفوسنا ** والمقصد المنشود والإلــــهام

لا تقــــــعدوا متقـيدين بوهمكم ** لا توثق المتحفز الأوهـــــــام.

في حقوق الإنسان ومحاربة العبودية:

أين مي آذانكم والعــــــقول؟ ** آدمــي تعبـــيده معــــقــول!

مشكل في بلادكم وخلــــــيق ** أن تسنى للمشكلات حلـــول

سيما مشكل يجر الـــــدواهي ** قد أباه الدستور والتـــــنزيل

وحقوق الإنسان ليس لترضى ** بنظام الرقيق وهو فضــول

لا تقولوا: شريعة لم تقــــيموا ** ما رآه الحديث والتـــــنزيل

فالرسول الكريم خط طريـــقا ** بينكم إذ نهاكمُ أن تصـــولوا

ودعاهم إخوانكم في حديـــث ** ونهى عن طريقه أن تمــيلوا

ودعاكم لعــتــقهم مستـــــحبا ** ووجوبا وفي الجمـــــيع دليل

أمر الشرع بالرقــيق جمــيلا ** جهل الشرع واستبيح الجميل

مشكل من ورائه مشــــكلات ** منتــــهاها لكم وخــــيم وبيل

ثورة فانطلاقة ثم فــــوضى ** فيـــكون التحــكيم والتـــدويل

ويهي جانب العروبة منــكم ** وتــــقوى جـــوانب وفـــــلول

فاطرحوا الرق جانبا وانبذوه ** واعدلوا عنه للتساوي وميلوا

تكسبوا المجد طارفا وتلــيدا ** حيث يرضى إلهكم والرســول. 

   يومئذ كانت وطأة الاستعمار الجديد قاسية في موريتانيا، لقد تحقق الاستقلال السياسي، ولكن لا أثر لغيره رغم تشبث الرئيس المختار - رحمه الله- بمظاهر السيادة وتطلعه للباقي. فالاقتصاد والبنى التحتية الأساسية للدولة واللغة العربية والثقافة والوعي والمساواة كلها كانت هباء.

ترى هل كان العائد المهزوم قد قرر عن وعي، وقد أنهى دورته الثورية، أن يضع الأمانة في يدي هذا الفتى الغريب الواعد، ولماذا؟ وإذا كان هذا مجرد احتمال، فلما ذا يفتح له كنوزه ويضمه إلى شلة الفتوة؟ مهما يكن من أمر، فلقد ابتلع الفتى الطعم وأخذ الألواح وحمل الرسالة! وما إن عاد من تلك الرحلة إلى كل من أوجفت وشنقيط حتى أصدر من أطار مجلة "موريتانيا الفتاة" التي كان من محرريها الشاعر أحمدو ولد عبد القادر والتحق بها في نهاية السنة الطالب سيدي محمد سميدع رحمه الله؛ والتي ركزت في خطها التحريري على محاربة الاستعمار والعبودية، والدعوة إلى القومية العربية وترسيم اللغة العربية وتحرير فلسطين.

وأطل على الشلة في شنقيط يوم 15 آيار سنة 1965 يوم ذكرى النكبة فاتفقوا على أن يحيوا تلك الذكرى الأليمة بمحاضرة وقصيدة وغرس شجرة بيعة على خدمة الوطن والقضية الفلسطينية. وتم لهم ما أرادوا فقدم هو محاضرة عن مأساة الشعب الفلسطيني، وألقى الشاعر العائد قصيدة من روائع شعره قالها بالمناسبة مطلعها:

ذكرى فلسطين الشهيده ** ذكرى التآمر والمكــيده

ذكرى الدماء مـــــراقة ** ذكرى الملايين الشريده

من يعرب من إخـــوة ** في الدين والدم والعقــيده.

ثم غرسوا شجرة البيعة.

ولا يزال حتى الآن - رغم غياب وسائل التصوير والتوثيق- يتذكر ملامح وجوه كوكبة من تلك الشلة الرائعة التي قضى بعضها نحبه وما يزال بعض ينتظر: الأستاذ عبد الرحيم ولد الحنشي (أطال الله بقاءه) وكان معلما. الزعيم محمد الحنشي ولد محمد صالح العائد من الثورة في المغرب (أطال الله بقاءه). دداه بن الشيخ ابَّ ولد محمد محمود (رحمه الله) سيدي محمد ولد التجاني (رحمه الله). وانكراني ولد محمد محمود هذا الذي اختطفه الموت اليوم؛ تغمده الله برحمته ورضوانه.

(يتبع)

بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو

دخول المستخدم