المقاومة.. مثالب التناول و مخالب ضعف التوثيق

تكثر في هذه الآونة الندوات التمجيدية و البرامج التلفزيونية حول المقاومة بمناسبة حلول عيد الاستقلال السابع و الستين و لكن أغلبها يبين بالعجز عن إخراج التناول من الزوايا الضيقة للتمجيد الغنائي في دائرة الشفهي "اتروبادوري" و الفلكلور "الأساطيري"، كما يشف عن القصور الطافح في إلباسه الحلة العلمية اللائقة و يرسل إلى المشاهد و المستمع نسمة عطرة من أنفاس الماضي الموثق من خلال المعالجات التاريخية العلمية الرصينة الجديدة حتى تُدغدغ أحاسيسه الوطنية المقيدة بأغلال الأساطير ذات الطابع التمييزي الشرائحي و الملبدة بـ:

·غيوم الشكوك في الفحوى،

·و ضعف لغة السرد،

·و اهتزاز متن التناول،

·و الميوعة بسبب عوامل الخلط بين غياب الموضوعية و شدة جرأة العبثيين الطامعين،

و إذ بذلك يحصل كل هذا الإسراف في غياب أي جهة تنظم إرث البلد من التاريخ فإن الأحاديثَ لا تعدو كونها أسطوانة مشروخة و أغلب المتحدثين هم أنفسهم من غير المؤرخين أو المختصين أو المعتمدين في الجامعات و المعاهد البحثية ذات الصبغة التاريخية، يسردون في تكرار ممل و تناول جريء و مريب وقائع و أحداث تفتقر في غالبيتها إلى الأسانيد المرجعية المدققة و المعتمدة المحفوظة و كذلك إلى الشواهد المادية التي تحظى بقدر من التزكية و حيز مقبول من الإجماع.

و لا بد في ظل هذه الوضعية التي فتحت الباب واسعا أمام إدعاء البعض المفرط بامتلاك ناصية "مادة المقاومة" من تنقية تاريخ "الجهاد" الذي هو سابق على المقاومة من شوائب الموروث الشفهي ذي اللغة السردية الضعيفة، المترهل البناء القصصي و الذي تختلف روايات أحداثه من راو لآخر و من جهة لأخرى و يستبدل فيها الأبطال بغيرهم في أنساقها القبلية المتعارضة و الطبقية المتباينة. هي الحاجة التي لا بد إذن من الاستجابة لندائها المستغيث الذي تصم عنه الآذان بفقاعات الادعائية و التحريف و التزييف الغرضي المعنوي و المادي و الرمي فيه قدحا و استنقاصا شخصيات تاريخية و علمية بارزة بالعمالة و الخيانة لمهادنتها الاستعمار ضرورة قصوى في حيزها الذي طغى عليه أهل الظلم فأفسدوا الود و نهبوا المال و استباحوا الأعراض، مهادنة مبررة على خلفية احترام الدين و شرعته و لغته؛ الاستجابة التي تهدف إلى تحقيق بناء النسق العلمي الذي له أن يُمكّن وحده من انتشال ما سلِم من تاريخ هذه الحقبة و قد أضاءت مرحلة غلب عليها ظلام القهر الدامس و فُتحت فيها الأبوابُ مشرعة للأفذاذ الذين كان الحسدُ و قلة الوسائل و ضيقُ الجمهور و غيابُ النوعية تقيد جملة نُبوغَهم و تلجم إبداعاتهم، فرحلوا لتتفتق تحت سماوات أرحم مواهبُهُم و ليبدعوا و ينتجوا "مهاجرين" بحجة "الجهاد" عن الأرض التي غزاها المستعمر الكافر إلى السودان و مصر و الحجاز و هي الأمصار التي لم يسلم أي منها يومها من سطوة الاستعمارين التركي و الانجليزي و لا كذلك من قوي الحضور الفرنسي في الشام و من قبلها على الطريق المغاربي تونس و الجزائر و المغرب.

و أما الذين قاوموا و سطروا ملاحم فقد اختلط بفعل التمييع الإرادي دمهم الطاهر الزكي بـ"دم كذب" خلقته أحبار الطمع الحمراء و خثرته المطالب الأسرية الإلحاحية كثيرا و القبلية غالبا لتدارك ما فاتهم من الغياب عن دوائر المجد و ليرفعوا شأنا منفردا أو آخر جماعيا للبقاء في حلبة الوجود. و لولا أن التوثيق الذي حرم منه أصحاب الجهاد الحق لم ينل منه المبتدعون حظا لقلة زاد الملفقين من وسائل كتابة الأحداث و ضيق متسع التوثيق المتاح.

كما تعمر شاشة التلفزيون في كل مرة يجري فيها الحديث عن المقاومة أذهانَ المشاهدين بالأفلام وثائقية متحركة من الأرشيف الاستعماري و ما بعد الاستقلال بقليل التي لا علاقة لها بالمقامة إذ هي استعراضات و مناورات و رحلات للجمالة التي أنشأها وأعدها ونظمها و دربها و سلحها المستعمر بخبرته و لخدمة أهدافه و قد شكلت فيما بعد النواة الأولى للجيش الموريتاني بعيد الاستقلال. و تلك نقيصة لا بد من التراجع عنها فالمجاهدون لم يمتلكوا قط  وسائل التصوير الذاتي و المستعمر لم يشأ يوما أن يخلدهم بتصوير انتصاراتهم التي آلمته و أبطأت انتشاره على عموم التراب في الزمن الذي قرر.

و لكن الأدهى و الأمر من كل ذلك هو أن نخبة البلد و بعد انقضاء ستة و ستين عاما على الاستقلال ما زالت عاجزة عن توحيد الرؤية حول حقبة "رفض الاستعمار" و جمع شتات شواهد حصول المقاومة و جهاد أهلها و ضبط وقائعها على نسق علمي و بتجرد يؤكد أن هذا التاريخ ملك الجميع و عنوان للأمة و الوطن و نبراس للأجيال الحاضرة تهتدي به في مسارها إلى المستقبل بثقة و ثبات، و أنه ليس بقرة حلوبا و لا مسرحا إغريقيا قديما تتصارع في حلبته الآلة الوهمية و أنصاف الأرباب المبتدعين، و إن استطاع الإغريق أن يتجاوزوا فيما بعد سطحية قراءة ذلك التاريخ الخرافي و الولوج إلى لبه بتأويل استخلاص العبر منه حتى باتت اليونان و ستظل إلى الأبد الأم التي أنجبت القارة الأوروبية و منها اشتقت اسمها و تأتت للعقول فلسفتها و عمق تأملها و أهدت العالم أنواع الألعاب الرياضية التي كانت تنظم في "أولمبياد" آلهتها الأسطورية بدوائرها و ألوانها الخمسة المتداخلة التي أصبحت شعار الألعاب الأوليمبية العالمية.

الولي سيدي هيبه

تصنيف: 

دخول المستخدم