الفضاء الشعري الموريتاني المغربي المشترك: محمد بن الطلبه نموذجا/ بقلم: د. محمد الأميى صهيب*

1/في رحاب الموضوع:

 يشكل المحيط البدوي الصحراوي فضاء حيويا له خصوصياته ومميزاته، الماثلة في مختلف العناصر والمكونات المتعايشة في كنفه، وفي جماع العادات والسلوكات وأنماط الثقافات السائدة هناك عبر السيرورة التاريخية، وما واكبها من تطور حضاري مستمر.

لكن الجوانب التي بها نعتني هنا من هذا الفضاء - على وجه الخصوص - إنما هي منظومة القيم الثقافية والاجتماعية المشتركة في حيز مكاني محدد وفي حقبة زمنية معينة، كما سجلها الشعر الصحراوي بجلاء ووضوح، باعتبار الشعر ديوان العرب وخاصة خارج المداشر والحضر؛ ولقد كان لأستاذنا الدكتور عباس الجراري فضلُ السبق إلى الإشادة بثقافة الصحراء وإبراز خصوصيتها في المحاضرة القيمة التي ألقاها بنواقشوط 1975 بعنوان " ثقافة الصحراء"  ونشرها في كتاب مستقل تحت هذا العنوان.[1]

ويمكن إجمال خصوصيات هذا المشترك الثقافي من خلال جملة من السمات التراثية والحمولات الفكرية والدينية والثقافية السائدة: منها تبني المذهب المالكي دون غيره، واعتناقُ العقيدة الأشعرية وانتهاجُ التصوف السني التعبدي، أما في مجالات اللغة والأدب فالعمدة فيها على الشعر الجاهلي وخاصة شروح المعلقات وأشعار الشعراء الستة الجاهليين، ودواوينَ من عيون الشعر الأموي والعباسي، وقد شاع بين الطبقة العالمة اقتناء القاموس المحيط للفيروزآبادي على نطاق واسع، فكان هذا المشترك الفكري والثقافي عامل تواصل وتلاق، جعل المنطقة بمنأى عن مختلف مظاهر الصراعات والفتن ذات البعد المذهبي.

لكن المجال الأكثر حيوية والتصاقا بالحياة اليومية فهو التراث الشعبي والفلكلوري؛ فقد ازدهر في المجتمع الصحراوي الشعر العامي أو اللهجي والموسيقى الشعبية والغناء والرقص والألعاب الترفيهية، ناهيك عن مختلف فنون الصناعات التقليدية الباهرة.

ومن السمات البارزة في ثقافة الصحراء التواصل والانفتاح، بيد أن البنية التنظيمية للمجتمع الصحراوي ذات طبيعة قبلية تراتبية، لكنها تمتاز عن غيرها من المجتمعات البدوية بجمعها بين ظاهرتي: الظعن الدائب والتحصيل العلمي المعمق، فقد اتخذت من الحياة الحضرية سمة التعلم بل والريادة في مجاله بما كان لمحاضرها وزواياها من إشعاع معرفي منقطع النظير آن ذاك.

 

2/الفضاء الاجتماعي في بعده الزمني:

 

إن الإطار الاجتماعي التاريخي الذي نحن بصدد الحديث عنه هنا ينتظمه عصر امحمد بن الطلبة اليعقوبي أي النصف الثاني من القرن الثامن عشر، والنصف الأول من القرن التاسع عشر، فقد عاش الرجل بين سنتي 1774- 1856 للميلاد، وقد عكس شعره الجوانب الأساسية من حياة ذلك المجتمع الصحراوي الذي كان مصدر إلهامه الشعري الأولَ، وكان المستقبِلَ الأساسي لإنتاجه الإبداعي وخاصة على مستوى الدائرة الاجتماعية الضيقة، المتمثلة في قومه من اليعقوبيين أو العامريين كما كان يحلو له أن يدعوهم في شعره أحيانا.

وليس غريبا أن يشتد تعلق ابن الطلبة ببيئته وبمحيطه الاجتماعي لأن النفوس البشرية ميالة - بطبعها - إلى التعلق بالبيئة التي احتضنتها في سيرورة حياتها، على نحو يتماهى فيه الحدث مع إطاره المكاني، بحيث لا يكاد ينفك أحدهما عن الآخر؛ وتشتد اللحمة بينهما قوة وامتزاجا كلما تعلق الأمر بمراحل مَفصِلية في حياة الإنسان، وخاصة ما اتسم منها بالسعادة والتمتع بالمسرات وبمباهج الحياة، وفي هذا السياق تتنزل جدلية البيئة المكانية في شعر محمد بن الطلبة، وكأنه يجسد عن طريق التكثيف قوة العلاقة الحميمة المتجذرة بينه وبين المحيط الطبيعي والاجتماعي الذي احتضنه في مختلف مراحل حياته.

 

3/ الفضاء المكاني  

إن الإكثار من ذكر الأماكن والحنينَ إليها والتعلقَ بساكنيها ظواهر متواترة في مدونات الشعر العربي القديم، وركنٌ مكين في معمارية العمود الشعري وسَمْته، إلا أنها لم تصل في دواوين الشعراء القدماء الفردية الحد الذي بلغته في ديوان ابن الطلبه، نظرا لامتزاجها  لديه بجميع أغراض شعره، إلى درجة أن متتبع نصوصه قد يساوره اعتقاد قوي أن الشاعر يقصِد إلى تقييد أسماء هذه الأماكن التيرسية قصدا، وكأن غايته القصوى إنما هي حشد أكبر عدد من أعلامها في شعره.

وفي هذا المنحى يذهب أستاذنا سيد أحمد ولد الدي، في تعليقه على ظاهرة الكثافة المكانية والمعجمية في شعر الرجل إلى القول: لولا ما طفح به ديوان محمد ابن الطلبة من صدق العاطفة وصفاء الشاعرية لقلنا إن شعره إنما هو متن من متون اللغة و" أطلس " جغرافي،[2] وخصوصا لمنطقة تيرس التي لا يكاد يوجد بها موضع إلا وله ذكر في شعره؛ ثم إن لهذه المنطقة - أعني منطقة تيرس - مكانةً خاصةً بالغة الأهمية، بالنسبة لقوم الشاعر، فتيرس كانت موطنهم المفضل، إذ تُمرع في فصلي الشتاء والربيع فيظَّعنون إليها، حيث يلقون بها عصي الترحال، ويستبشرون خيرا كلما جادها الغيث فأخصبت سهولها وتزينت مروجها الأخاذة من كل نبت بهيج، فهذا المأمون بن محمد الصوفي شيخُ ابن الطلبة وابنُ عمه، وقد بلغه نبأ تهاطل أمطار غزيرة بتيرس، وهو إذ ذاك بعيد عنها، تعيقه موانع عن الفر إليها، يبعث إلى قومه بأبيات منها:

خليلي جاد الغيث أعجاز تيرس        وفاضت ثنايا الكــرب بالغدق الغمر

وراقت رباها كلَّ راء  ورائد          وجُر عليها الريط من سندس خضر

وراح بطانا بالعشيات فرشها          وكاد حمول  أو يقــال  إلى عــشـر

فمن لي بفتيان يسدون ثغرها          ويحيون عهد المكـرمات بهـا الغر؟

فعلاقة الشاعر وقومِه بمنطقة تيرس كما يتضح من هذا النص الشعري علاقة متأصلة؛ فهم الذين يضطلعون بإحياء عهود المكارم صيانةً للأخلاق الحميدة والأمجاد التليدة بها.

وفي نفس السياق يُبرز اليعقوبي الآخر محمد المصطفى بن تكرور عمق ارتباطه بتيرس وما تُهيِّج في نفسه ديارها من ذكريات الصبا السعيدة:

فَلما بدتْ للعين داراتُ تيرسٍ          تذكّرتُ بالأجوادِ أيامـنَا نصـبـو

فَما دمْنةُ الأجوادِ إلّا كجــنّـةٍ           فَما مسّنا فيها لُغوبٌ ولا نصب  

والأجواد هضاب معروفة بتيرس ناحية آوسرد.

ولمحمد المجيدري اليعقوبي 1204هـ المتقدم على ابن الطلبة موشحةٌ شجية رائعة  يتشوق فيها إلى أحياء قومه بتيرس وهو يومئذ بمصرة يقول في أولها:

يا من يرى ولا يــرى    عني الكروب نفـس

 لقد نفى عني الكرى     شوقي لأهل تيرس ...

ويمكن أن نمثل على كثافة حضور المواضع التيرسية في شعر ابن الطلبة من خلال نموذجين أولهما من الجيمية الطولى حيث يقول

وذُكــــرةِ  أظــعــانٍ تـربَّـعـنَ  بـالـلـوى         لوى الموجِ فـالخَبتَينِ مـن نعـفِ دوكـجِ

إلـــى الـبِـئـرِ فـالـحـواءِ فالـفُجّ فـالصوى               صـوى تـشـلَ فـلأجوادِ فـالسَفحِ مـن إج

تَـــحُـــلُّ بــأكــنــافِ الـــزفــالِ فـتـيـرسٍ               إلـى زيـــزَ فــالأرويـتـيـنِ فـــالاعــوجِ

إلــيَ أبـلـقـي ونــكـارَ فـالـكَـربِ تـرتعي               بــه حـيـثُ شاءَت مـن حزيـزٍ وحُـنـدُجِ

أما الثاني فمقطع من الميمية الطولى يتحدث فيه عن مسار الظعائن:

سَـلَـكـنَ جـــواءَ الــفُـجِّ ثُـــمَّ تـطَلَّعــتْ    من الـصـخرَةِ الـبـيضاءِ نجـداً مهضَّما

جـعَـلنَ قـنـانَ الـوُطسِ نُـصبَ عـيونِها          وكــان لــهُـنَّ الـوُطـسُ قـدمـاً مُـيَـمَّــما

ويــامــنَّ عــن نـجدِ الـقُوَيرِ ويـاسَـرَت          عـنِ الأيــقِ نُـكـباً سـيــرُها لـن يُـثَمثَما

وحَـلَّـت بـبَـطنِ الأتــو مُـسـياً ومــا بـهِ          عـلاقٌ فــبـاتَ الـظـهـرُ حـدبـاً مـزمَـمّا

وأبــكَـرنَ يـخـبِـطنَ الـجـفـاجفَ غُــدوَةً    كـأصرامِ عــيــدانٍ أنــى أن تُـصَـرّما

فألقَت على الكِنوَينِ من نسجِ ســـدوِها     هجـيراً بــرأيٍ مـحـكَمِ الـنـسـجِ  أقـتَما

يُـحـاوِلـنَ بـالـسَـبعِ الأُضــيّـاتِ مـشـرَباً   مــن الــغُـدرِ أو عَـيـناً بـجَـلواءَ عَـيـلَما

وَرَوضـاً بــأكنـافِ الأمــاكـرِ زاهِــــراً    قَـدَ ارزمَ فـيـه الـرعـدُ سَـبـتاً وزَمـزَما  

4/ المشترك القيمي

تتجذر في المجتمع الصحراوي منظومة من القيم الحميدة والفضائل الجليلة من كرم ونجدة وصبر وصدق ووفاء وصرامة والتزام ديني واجتماعي؛ فكان شعر ابن الطلبة مرآة عاكسة لتلك القيم السائدة أيامه في ذلك الفضاء الصحراوي، وسنورد مقاطع من شعره تبرز أمثلة من ذلك المشترك القيمي، وقد عرف عن ابن الطلبة الكرم والسخاء والمسارعة إلى المروءات وفعل الخيرات، فلا غرابة إذًا أن يطفح ديوانه بتمجيد هذه القيم الحميدة والإشادة بها، في كثير من أغراض شعره كالفخر والمدح والرثاء والحكمة؛ ونظرا لتداخلها وتواردها ملتحمة في النص الواحد غير متمايزة، فسنوردها مدمجة كذلك في مقاطع شعرية تنتمي إلى الأغراض المذكورة آنفا:

النموذج الأول وهو مقطع  يفتخر فيه بشمائل مجتمعه داعيا إياهم إلى التحلي بحميد القيم والفضائل:

آل يعـقوب  شــمروا  للــمعالـي       واستعــدوا  لمـا تجــيء الليالي

وأعــدوا  لـكــل  خـطـب   مــلـم      عــده مــن  عــزازة   ونــوال

وتواصوا بالحق والصبر وابغـوا      في العفاف الغنى على كل حال

وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنـ    ـكر واسموا للمكرمات العوالي

والهوينى دعوا وللمجد  فاســعوا      وصعاب العلى بصعب الفَـعال

والزموا  الحــلم  والأناة  وخلـوا      نزعات الشيطان شر الخـــلال

  أما النموذج الثاني فمن المقطع الأخير من ميميته المعارضة، وقد جمع فيه جملة واسعة من المشترك القيمي المشاع في مجتمعه الصحراوي، صاغه في شكل حكم ونصائح داعيا إلى التمسك بما هو إيجابي، ونبذ ما هو سلبي قادح في ذلك المجتمع موظفا الأسلوب الحصري توظيفا أكسب النص بثنائياته بعدا جماليا رائعا

وما مات  مــن  أبقى ثــناء مخــلدا        وما عاش من قد عاش عيشا مذمما

وما المجد إلا الصبر في كل موطن       وأن  تجـشـم الهول العظـيم تكــرمـا

وما اللؤم إلا أن يرى المرء غابطا        لئــيما لـمال  في يـديــه  إن أعــدما

وليـس الغــنى إلا اعـتـزازَ  قناعــة       تـجـل  أخاهـا  أن  يــذل  ويشـــمــا

تجنب صحاب السوء ما عشت إنهم       لكالجُرب  يُعديــن الصحيح المسلما

وراع  حقوق الضيف والجار إنــه        لعمرك  أوصـى أن يـبـر ويكــرمـا

وما البر إلا اليمن والعدل  والتـقى        ومـا الشــؤم  إلا أن تخون  وتأثــما

     وعلى الرغم من أن الوسط الاجتماعي الذي نشأ ابن الطلبه في كنفه تغلب عليه المحافظة والتدين فقد عكس شعره جوانب وصورا مما كان يتعاطاه الشباب في ذلك المجتمع من صريح الغزل وسماع الغناء ومعاقرة الدخان، من ذلك قوله معتدا بصحابه الذين كان مدار سمرهم على اللهو المقتصد والغناء وسماع الأشعار باعتبارها سلوكا اجتماعيا مشاعا بين الجنسين، دونما اعتراض أو تشنيع من المجتمع، يقول في إحدى قصائده:

ولا كمغاني ذي  المحــارة  أربُـع

فمن  يأتنا  فيهـن يــرء ويســمع

يرى البيض كالآرام من كل خدلة

ضنون بمعسول الحديث المقطع

ويسمع كما شاء المسامع من فـتى

خبــير بتحبــير الغناء  المرجــع

إذا رجع التغريد ريعـت  لصـوته

معي من بني اللهو الكرام عصابة

روائع صينت في الحجال الممع

ألا يا لقومي للصبا  المترعــرع

 

وقد تستعين العصابة بالغناء على السهر بغية تذليل عويصات العلوم، كما في قوله:

وصحاب مثل المصابيح في الدجــ

ـية  نازعتهم  ســهاد  الليالي

بــنشيــد   ومـزهــر  وعــويــص

من علوم الهدى عزيز المنال

 

ومن ذلك قوله ذاكرا بعض أطاييب ملذاته وتعلات نفسه ومن ضمنها الدخان:

لولا أميمة والماء النمير وما    من طابة طاب إذ يجلو الندى الوهن

لما  تبعت حـدوجــا بالمطي ولا      باليت مـا جر  مــن أحــداثــه  الــزمــن

 

5- خاتمة

لقد عكس شعر ابن الطلبه بأمانة منظومة القيم الثقافية والاجتماعية المشتركة المتداولة في مجتمعه آن ذاك، كما اتخذ من محيطه الطبيعي موضوعا وقالبا فنيا لسكب تجربته الإبداعية: فأفاض في الحديث عن ساكنيه ومرتاديه وتتبع في شعره مرابعهم وآثارهم واستنطق دمنهم وأطلالهم، ووصف مختلف مكونات المحيط الطبيعي وأبرزَ ظواهره، وما فيه من حيوانات ونباتات وجبال ووهاد وسحب وأمطار، وأهمَّ أنماط الحياة والعادات السائدة هناك.

ومما يسوغ التركيز في هذا البحث على المشترك في المجتمع المغربي الموريتاني أن شعر محمد بن الطلبة يشكل في حد ذاته مشتركا موريتانيا مغربيا، بالنظر إلى جملة من الثوابت والمعطيات: فالحيز المكاني الذي شكل لُحمة شِعر الرجل وسُداهُ تحتضنه منطقة "تِيرِسْ" الممتدة من شمال موريتانيا باتجاه الأقاليم المغربية الجنوبية، فهي لذلك جزء من هذا الفضاء المشترك، كما أن منظومة القيم الثقافية والاجتماعية المبثوثة في فضاء شعر ابن الطلبة تمثل النسق القيمي السائد في ذلك المجتمع الصحراوي (الموريتاني المغربي)، ثم إن الشاعر وُلِد بتيرس وعاش يقطنها ويرتادها باستمرار، وفيها كان مثواه الأخير، وبذلك يعتبر هو نفسه عنصرا أساسيا من مكونات هذا الفضاء المشترك بشريا ومكانيا وقيما وثقافة.

------------------------------

أستاذ جامعي من المغرب * 

 

 

 

[1] - عباس الجراري: ثقافة الصحراء، دار الثقافة 1978 المغرب.

[2] . ينطر :سيد أحمد ولد الدي: كتاب دراسات في الشعر الموريتاني، بحث بعنوان " انطباعات حول الغزل في ديوان محمد بن الطلبة " دار الرضوان ط1 ، 2013 ص 121.

تصنيف: 

دخول المستخدم