الطريق السريع، أم الحماية من هيجان البحر، أم الماء،؟ أم ما ذا؟

من البديهي أن البنى التحتية-وعلى رأسها الطرق-تشكل ركيزة أساسية لنمو البلاد، ولا محل طبعا لمعارضتها مع أي مجال تنموي آخر؛ إلا أن تسيير المصادر والمقدرات يستدعي تصور وانشاء خطط واستراتيجيات تقوم على بناء سلم من الأولويات. وفي بلد صحراوي مثل موريتانيا، يمتاز بشح المصادر المائية وتناقصها المستمر، فمن الطبيعي أن تنال سياسات الماء المرتبة الأولى في استراتيجيات الدولة. وقد صدرت مؤخرا عن السلطات، على لسان السيد عثمان ممادو كان،  وزير الشؤون الاقتصادية وترقية القطاعات الإنتاجية، حزمة طموحة من المشاريع الاستراتيجية بعضها لا مثيل له في البلد، مثل بناء طريق سريع يربط بين نواكشوط وبوتلميت تقدر كلفته المالية ب 379 مليون دولار.

طالني التيار...

ولكون المشروع غالي الثمن نسبيا، وغير مسبوق، فقد نال النصيب الأوفر من ردود الفعل عبر وسائل التواصل الاجتماعي والصحافة وعبر الشارع. وطبعا جل المتدخلين عبروا عما يمكن اعتباره "انطباعات ومشاعر شخصية" لا تستند بالضرورة إلى معرفة دقيقة بالموضوع ولا خبرة مهنية". وكمثلهم، لم يمنعني ضعف المعرفة ولا انعدام التخصص من أن انجرف مع تيار المعلقين والمدونين.

فبعد سماعي لكلمة الوزير ولردود متفرقة حولها، تبادر إلى ذهني أننا فعلا بحاجة ماسة إلى تحسين واثراء البنى التحتية في مجال الاتصالات البرية، وحتى الجوية والبحرية. ولا شك أن بناء طرق سريعة تشكل نقلة نوعية في هذا الشأن. وشعرتُ بضيق داخلي وأنا استحضر ذكرياتي ومعلوماتي عن الدول المجاورة، وكم نحن متأخرون مقارنة بها في هذا المجال.

ثم قادتني الذكريات والمقارنات إلى شح مصادرنا في موضوع آخر، إلى إشكالية الماء المستعصية، متسائلا:

كيف ينبغي أن نتصرف لرفع التحدي المتمثل في أننا أشد حاجة من جيراننا لمادة يشكل وجودها الشرط الثاني للحياة بعد الأوكسيجين، وهي لا تتوفر بصورة كافية لدينا جميعا، لا لديهم ولا لدينا، رغم حيويتها القصوى؟

وقد سبق لي أن كتبتُ منذ أسبوع تأملات وخواطر باللغة الفرنسية حول الموضوع وعلاقته بالتغير المناخي[i]. وقد ركزتُ على ضرورة الإسراع في العمل في ورشتين ملحتين تتعلقان بأضرار توسع نطاق مياه البحر وبأضرار تقلص وتناقص المياه العذبة.

صعود مياه البحر.. وحزام الأمان البيئي.

نعني ب"حزام الأمان البيئي" افتتاحَ ورشة تكمن وظيفتها في حماية نواكشوط ضد صعود مياه المحيط التي تهدد العاصمة في ظل تراجع شريط الكثبان الرملية الواقية للمدينة من أمواج البحر. وفي هذا الصدد، تنذرنا الوزيرة السابقة للبيئة والتنمية المستدامة، السيدة مريم بكاي، في مقابلة أجرتها خلال شهر يونيو 2020، بأن الدراسات تشير إلى وجود أكثر من 22 ثغرة على طول الساحل يُخْشى  أن تخترقها موجات البحر وتعبر من خلالها إلى نواكشوط. وبينتْ الوزيرة أن هذا الخطر في تزايد بسبب الاستغلال العشوائي لشريط الكثبان الرملية الحائلة بين المدينة والمحيط، هذا فضلا عن تمدد البحر على حساب اليابسة بسبب الاحتباس الحراري.

وفي ظل هذه المخاطر العظيمة البيئية، فمن الوارد أن نتساءل: ألا ينبغي أن تنال هذه التحديات الوجودية قسطا وافرا من المشاريع الاستراتيجية التي تعدها الدولة، بما فيها الحزمة الهامة التي أعلن عنها وزير الاقتصاد؟

موارد المياه الوطنية.

كغيرها من دول العالم، تواجه موريتانيا تحديا متزايدا فيما يتعلق بالموارد المائية. بل إن الإشكالية عندنا أعظم وأشد بكثير: بلدنا قاحل ويعد من أشد مناطق الساحل تصحرا، حيث يمتاز بقلة الأمطار وبموجات الجفاف التي تتكرر بشكل خطير وتطول مدتها سنة بعد أخرى بصورة كارثية بالنسبة للسكان ومصادرهم الزراعية والحيوانية، وبالنسبة للنظام البيئي بصورة عامة. لكون موارد المياه الطبيعية محدودة جدا وفي تراجع مستمر. لذلك ينبغي طبعا ترشيد ما هو موجود بالإضافة إلى توظيف مصادر جديدة لا تنضب.

نهر السنغال والمياه الجوفية المحصورة

 لحد الآن تقتصر مواردنا الرئيسية على نهر السنغال وعلى المياه الجوفية بينما تمتاز المياه السطحية الموسمية بشحها الشديد نظرا لقلة الأمطار ولقصر مدتها والتراجع المتزايد للمساحات الجغرافية التي تغطيها تلك الأمطار-إن وجدت.

وتُظهر الدراسات أن تدفق نهر السنغال قد انخفض إلى النصف تقريبًا خلال 63 عامًا منذ منتصف القرن الماضي إلى بداية العقد الثاني من القرن الحالي، أي: من 1200 متر مكعب / ثانية في عام 1950 إلى ما يزيد قليلاً عن 600 متر مكعب / ثانية في عام 2013. ومن المتوقع أن تستمر وتيرة تدفقه في الانخفاض بسبب موجات الجفاف المتكررة وتحت ضغط النمو الديمغرافي القوي للدول التي يمر عبرها النهر. مما يثير تساؤلات خطيرة حول مستقبل نهر السنغال في العقود الستة أو العشرة القادمة!

أما حول طبقات المياه الجوفية، فإن التوجه العام هو تطوير استغلال المياه الجوفية المحصورة: بحيرة إديني ، بحيرة بنشاب ، بحيرة بولنوار... إلخ. ومن المعروف أن هذه البحيرات لا تتجدد، لذا يجب أن يتم استغلالها وتسييرها بأكبر قدر ممكن من العقلانية والترشيد. وينبغي النظر في حلول بديلة لها على الأمد المتوسط والبعيد وفقا لخصائص كل بحيرة.

تحلية مياه البحر مصدر لا ينضب...

 تشكل تحلية مياه البحر حلا مستداما ومصدرا لا ينضب من حيث الموارد المائية، على الرغم من أن هذا الحل ظل يتطلب إلى أمد غير بعيد موارد مالية وتقنية معتبرة نسبيًا. إلا أن التقنية أصبحت اليوم في متناول جميع الدول، و"نظيفة" من الناحية الطاقوية، حيث تستخدم الطاقة الشمسية على نطاق واسع. ويتعين على موريتانيا أن تستثمر فيها عبر تخصيص جزء هام من الدخل المنتظر من مشروع استغلال الغاز الطبيعي لهذا الغرض، على سبيل المثال. ونُذكِّر بأنه سبق لبلدنا أن أجرى بعض التجارب في هذا المجال. فقد تم إنشاء معمل ومخبر لتحلية مياه البحر في نواكشوط في أوائل السبعينيات من القرن الماضي. غير أن التجربة لم توت أكلها نظرا لكون التقنيات المستخدمة لم تكن متطورة آنذاك بما فيه الكفاية وكذلك الموارد المالية والبشرية. أما اليوم فإن تكنولوجيا وأنظمة تحلية مياه البحر قد تحسنت كثيرا لدرجة أن استخدامها أصبح مثمرا تماما ومتاحا للجميع. فنادرة هي الدول الساحلية التي لا تستفيد منها، بما فيها جارتنا في الجنوب.

 فمنذ أسبوع فقط، دشن الرئيس السنغالي العمل في بناء محطة لتحلية مياه البحر لتزويد داكار. وتبلغ طاقتها المنتظرة 100 ألف متر مكعب / يوم، ستضمن تزويد أكثر من مليون مواطن بالماء الشروب. وسيكلف المشروع 210 مليون يورو، بتمويل من دولة السنغال بفضل قرض من اليابان. ويقل هذا المبلغ بنسبة 42% عن كلفة مشروع الطريق السريع بين نواكشوط وبوتلميت التي تقدر، كما أسلفنا، ب 379 مليون دولار. بمعنى أنه لو حوَّلنا تمويل هذا الطريق إلى تحلية مياه البحر، فسوف نوفر الماء الشروب لأكثر من مليون وسبع مئة ألف نسمة، أي تغطية استهلاك سكان نواكشوط قاطبة، ويبقى فائض كبير من الماء يمكن ضخه إلى جهات أخرى.

ولا نعني هنا بأنه من اللازم العدول عن بناء الطريق السريع لصالح تحلية مياه البحر، ولكننا فقط آثرنا لفت الانتباه إلى هذا النوع من الورشات بوصفه أساسيا في بلد صحراوي مثل موريتانيا يقع رفع تحدي مصادر المياه على رأس أولوياته. ومن المفضل طبعا تصميم وتنفيذ جميع المشاريع، المائية والطرقية، دون اهمال أي من المجالين وفق ما تسمح به المصادر والمقدرات. أما في حالة لزوم الخيار بين هذا أو ذاك، فعناصر القرار واضحة، لا جدال فيها: الماء مصدر الحياة الأول. وقد لا تكون المسالة مطروحة على الدولة ولا على العاملين في القطاع، لكنها كثيرا ما تلازمني شخصيا بوصفي شديد الشعور بالظمإ، مولعا برؤية الماء. 

البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)

 

 

تصنيف: 

دخول المستخدم