الصناعة التقليدية الموريتانية : تناقضات واقتراحات/ بقلم : حماده ولد اصوينع

تثمينا لتوجيهات فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني واهتمامه بهذا القطاع , أقدم هذا المقال على شكل عرض في ندوة حول الصناعة التقليدية الموريتانية التي نظمتها وزارة الثقافة والصناعة التقليدية والعلاقات مع البرلمان.

المحتوى:

  • تاريخ الهوية والصناعة التقليدية
  • عوامل تدهور الصناعة التقليدية
  • الديالكتيك الهيجلي وتناقض المجتمع
  • إشادات وابداعات في الصناعة التقليدية
  • اقتراحات عملية

 

تاريخ الهوية والصناعة التقليدية

اعتبر المفكرون وعلماء الاقتصاد من أمثال انجلز أن التاريخ الإنساني تاريخ أدواتي. فقد ابتكر الإنسان الأدوات في العصر الحجري وظل يطورها وحتى عصرنا الراهن. فكان لكل حضارة ما يميزها من الصناعات والحرف التي تدل على عبقريتها الفذة والخلاقة ، وسلامة ذائقتها الفنية ، وحتى قدرتها على السيطرة على محيطها.

 و تقاس ثقافة كل مجتمع و حضارته بمدي تحكمها في الطبيعة و تسخيرها لصالح نفسه. ولقد أمنت الصناعات التقليدية الحرفية، ردحا من الزمن ، للموريتاني كل الحاجات الضرورية للتأقلم مع البيئة رغم قساوتها  وذلك قبل مجيء المستعمر ، و حتى أثناء وجوده. ، فلم نكن نحتاج إلى أن نستورد من المستعمر حاجاتنا الضرورية ، لأن الصانع التقليدي يستطيع بكل مهارة و إتقان أن يوفر مستلزمات المنازل و حاجات الأسر و يغنيهم عن المستورَد من المستعمر. فهو في خدمة كفاح سلمي ضد بضائع المستعمر على الطريقة الهندية في عهد غاندي.

عوامل تدهور الصناعة التقليدية

و لحقب طويلة من الزمان، اشتهر الموريتانيون وصناعاتهم الحرفية التقليدية المختلفة الأشكال و الأنواع. لكن هذه الصناعات بدأت تعاني مؤخرا من إهمال غير مسبوق ، حتى بات الكثير منها مهددا بالانقراض ، إذ يستحيل أن تتكيف كما يقول أصحاب نظرية التطور ، لأن العوامل الجديدة التي أصبحت تحيط بها قاسية. و نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

  • عامل اجتماعي : وهو الموقف السلبي من الصناعة التقليدية، الذي يتداوله السذج من العامة.
  • و عامل نفسي : نفور الشباب عن الحرف و الأعمال اليدوية .
  • و عامل اقتصادي: ويتمثل في ضعف المردودية فيما يتعلق بعائدات الصناعة التقليدية.
  • و عامل تجاري: و هو تدفق المنتجات الصناعية الحديثة ، على السوق الوطنية و خصوصا المنتجات الصينية الرخيصة ، و التي تنتجها الشركات الصينية للتجار انطلاقا من نماذج تقليدية
  • وعامل سياسي: و يتمثل في عدم توفر الإرادة السياسية لحماية المنتوج التقليدي ، والتعريف به، وعدم تشجيع القطاع عموما ، و دعم القائمين عليه.

 

إن هذه الأمور المختلفة التي جئنا على ذكرها ، تتطلب وعيا وحزما و عناية اكثر من طرف الدولة ، ليتبوأ هذا القطاع الحيوي، الذي لا يوجد في محيطنا الإقليمي ما هو أبدع منه ، مكانته في الداخل و الخارج .

الديالكتيك الهيجلي وتناقض المجتمع

و بما أن " لكل فعل ردة فعل "حسب تعبير الفيزيائيين" فلا شك وأن المستعمِر بدوره قد غالى في إهانة الصناع التقليديين و إذلالهم ، ودحض منتجاتهم و إشعارهم بالدونية سعيا منه إلى ترويج للبضائع التي جاء يبحث لها عن الأسواق ، و إضعافا للمقاومة. مما ساهم في تكريس نظرة تمييزية غريبة على ثقافتنا الإسلامية ، و سوء فهم في اللاوعي الجمعي للموريتانيين تجلى في عدم تثمين قيمة الصناعات التقليدية ، وبناء صورة نمطية جد سلبية ، لها و للحرفيين ، الذين استطاعوا بذكائهم الفائق، إنشاء أشكال و بناء تصاميم لكل ما يحتاج إليه المجتمع من المستلزمات المنزلية، من الأواني والملابس والسجاد والحصير والاغطية و آليات ركوب الخيل والجمال. وقد حققت هذه الوسائل للمجتمع، الإكتفاء الذاتي ، وعكست الوجه المشرق لحضارته.

وفي ضوء الديالكتيك الهيجلي تتجلى نظرة المجتمع الموريتاني للحرف والأنشطة التقليدية في صورة اطروحتين متعارضتين و متقابلتين تُقابل و تُضاد إحداهما قوامها الأَحكام المسبقة التي لا تستند على دليل أو برهان و التي تهدر قيمة العمل اليدوي و تحط من شأنه، والأخرى تقدره و ترفعه.

لقد تجاوزت الإنسانية اليوم ذلك الموقف السلبي من الحرف و الصناعات الذي بلورته عقلية الإغريق والرومان، في العهد الكلاسيكي القديم ، وذلك حينما أدركت قيمة العمل بشقيه التقليدي و الصناعي.

 

أشادت وابداعات

وقد برز بعض الصناع التقليديون بمهارة فائقة وذوق رفيع إذ ابدعت منهم أسر في صناعة المدافع واصلاحها مثل أسرة اهل سيدي سيْقَ في لعصابة واسرة أهل اعبيدي  في ادرار والتي صممت راحلة لعبيْدية المشهورة وأسرة أهل الهادي في الحوض الغربي في صناعة الآبار والتي لقبت ب "اهل الهادي الما" .. "وجعلنا من الماء كل شيء حي" (الآية) -- لا تزال الأسرة تمارس هذه المهنة. وفي إمارة لبراكنه كان هناك تجمع "لمكلْبه" والذي كان تحت حماية الأمير لجودة ما كانوا يصممون من الاسلحة و الادوات الاخرى.

إن الصناعات التقليدية الموريتانية تغطي مجالات بالغة التنوع والاتساع: من الغزل والنسيج و تصنيع الملابس والسجاد والحصير والفخار، وكذلك الأعمال اليدوية ، لإنشاء المساكن وإقامة السدود وحفر الآبار و صناعة الأسلحة و صيانتها.

وبالنسبة للجمل والذي يعود وجوده إلى دخول القبائل الصنهاجية إلى الصحراء الموريتانية فقد ابتدعوا له تقنية لركوبه وطوروها. فقد عرف الصنهاجيين الأعمال ذات الصلة بالموضوع كالعدانة والدباغة والاعمال الاخري في مدنهم التي أسسوها كما عرف الأقدمون من سكان بلاد شعب البافور صناعة الجلود والأخشاب والمعادن  بل إن المصادر التاريخية تفيد ان العديد من الفنون كفن صهر الحديد قادمة فعلا من مملكة كوش.

فقد درس بعض المؤرخين الحرف في بلاد الملثمين واعجبوا بها كالبكري و الليون الافريقي والسيدة "اودت دى بيكاردو" الذين اشادوا بازدهار مدننا القديمة كقولاتن "ولاتة" واوداغوست في مجال الصناعات الحرفية. فكانت هذه المدن بمثابة عواصم اقتصادية. وعلى مستوى عمران البلد تكون جودة الصانع حسب ابن خلدون الذي يقول "ان رسوخ الصنائع في الامصار انما هو برسوخ الحضارة وطول أمدها".

 

اقتراحات عملية

يعتبرُ الخبراء في ميدان علم الاجتماع  و الاقتصاد أن الثقافة بما فيها الصناعة التقليدية رافدا أساسيا من روافد الاقتصاد والتطور. وعليه فإني أقترح مايلي:

اولا : إدماج الصناعة التقليدية في إنتاج حاجيات ومستلزمات كل من وزارة التعليم والتنمية الريفية والدفاع الوطني من الصناعات الخفيفة.

ثانيا : إنشاء وحدات صناعية صغيرة ومتوسطة تعتمد في هويتها وتصميمها على الصناعة التقليدية الموريتانية لكي تكون بداية لنهضة صناعية محلية على نمط ما حصل في أوروبا حيث تحولت الصناعة التقليدية من تعاونيات إلى صناعة مانيفاكتوزا.

ثالثا : تدريس الصناعة التقليدية كمادة تربوية وتاريخية في البرامج الابتدائية والاعدادية. بالإضافة إلى تنظيم زيارات مدرسية لورشات الصناع التقليديين. مما سيوفر فرصا لإزالة العقد وتنمية الاعتزاز بشرفية العمل ولكي يتماشى البرنامج  التربوي مع حاجيات المجتمع والواقع.

رابعا : إشراك الإعلام والبرامج الفولكلورية الموسيقية للقيام بدورها لتقبل المجتمع لهذه المهنة  وفهم مدى أهميتها للهوية وامتصاص البطالة وتقديمها على أنها مهنة غير فئوية تمارس من الجميع من أجل تطور المجتمع.

حماده ولد اصوينع

 

 

 

تصنيف: 

دخول المستخدم