العمل بقوة على كسب الرأي العام يبدو أحد المحاور الرئيسية التي يتنافس حولها المحامون الذين وكلهم طرفا النزاع في الملف المنبثق عن تقرير لجنة التحقيق البرلمانية؛ وهذا شيء طبيعي: كسب الرهانات الإعلامية أصبح اليوم من أهم ما تقاس به موازين القوى والمؤثرات الناجعة لدى المتصارعين أياًّ كان نوع ساحات المعركة، بما فيها المجال القضائي.
البداية الرسمية كانت من طرف محامي ولد عبد العزيز...
فريق محامي الرئيس السابق، السيد محمد ولد عبد العزيز، هو من بدأ رسميا المعركة الإعلامية. ويعود سبقه لسبب بسيط: هو أول فريق تشكل.. كما كان له حافز قوي تمثل في اعتقال موكله بشكل فاجأه وفاجأ كثيرا من الناس.
ثم رد عليه هذا الزوال محامو الدولة فور تشكيل فريقهم. ويبدو أن نشاطهم الإعلامي أقوى صدى من خصومهم. ومن أسباب ذلك كمهم الهائل مقارنة بالآخرين: 60 محاميا ضد بضعة أفراد. وكذلك التدوينات والكتابات السابقة الكثيرة التي نشرها بعض الناشطين من بينهم-مثل الأستاذ لو گورمو- قبل تشكيل الفريق، كما نشرها على نطاق واسع محامون آخرون لا ينتمون بالضرورة للفريق من ابرزهم : ذ. محمد ولد امين وذ. سيد محمد ولد محم.
قضايا تعني شيراك وساركوزي لا مثيل لها في الملفات المطروحة على القضاء الموريتاني...
وقد استدل ذ. ولد محم على امكانية مقاضاة الرئيس الموريتاني السابق في القضايا الواردة في تقرير اللجنة البرلمانية بالمتابعة القضائية لرئيسين فرنسيين سابقين: جاك شيراك ونيكولاس ساركوزي. إلا أن القضية التي اتُّهم فيها شيراك كانت تتعلق بدفعه رواتب مقابل "وظائف وهمية" (emplois fictifs) خلال تسييره لبلدية باريس لما كان عمدة للعاصمة الفرنسية قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية.. ولا علاقة إطلاقا لها بعمله خلال مزاولته وظائفه الرئاسية. صحيح أنه توبع فيها بعد مغادرته الكرسي الرئاسي قبل أن يؤدي مرضه إلى توقيف الإجراءات القضائية ضده، لما تبيَّن أن مؤهلاته الذهنية والفكرية أصيبت بعجز طارئ لم يعد يسمح بمقاضاته.
أما فيما يعني ساركوزي، فالمرجعية الدستورية تختلف عن عهد سابقه، لأن عبارة " الخيانة العظمى" حذِفت من الدستور الفرنسي في عهد شيراك- منذ عام 2007 - لتحل محلها صيغة جديدة أكثر شمولية فيما يعني تحديد مسؤولية رئيس الجمهورية، وهي: "إخلاله بواجباته بصورة تتعارض بشكل واضح مع ممارسة مأموريته"[i].
وتم العمل بهذا المفهوم الجديد في إحدى القضيتين التين تابع القضاء فيهما ساركوزي، وهي: "استغلال النفوذ والرشوة" في ملف اتُّهِم بأنه حاول فيه التأثير على عمل القضاء عبر محاولاته الحصول على تسجيلات هاتفية تم تحقيقها عام 2014 في إطار متابعة يتعرض لها آنذاك أحد معاونيه مقابل امتيازات اتهم ساركوزي بعرضها على قاضي التحقيق. أما القضية الثانية، فهو متابع فيها ليس بوصفه رئيسا للجمهورية. لأنها تتعلق بتمويل حملته الرئاسية الأولى، أي: قبل أن يصبح رئيسا. وتشير المعلومات المتوفرة حول الموضوع إلى أن المرحوم معمر القذافي ساعده فيها بمبالغ مالية معتبرة. ويفيد بعض المحللين والمصادر، إلى أن هذا العطاء الليبي السخي ربما كان من الدوافع الرئيسية لقتل الزعيم الليبي: يقال إن ساركوزي ضالع بشدة في عملية اغتياله من اجل إخفاء ذلك الملف.
لكي نبتعد نهائيا عن "حوار الصم"... ونستفيد من خبرات الرؤساء السابقين...
خلال مؤتمرهم الصحفي الذي نظموه قبل ساعات من الآن، ركز محامو الدولة هجومهم على سكوت ولد عبد العزيز وامتناعه عن الرد على أسئلة الشرطة، معتبرين أن ذلك قد لا "ينم عن براءة" المعني حسب قولهم؛ كما هاجموا أحد محاميه الفرنسيين، حيث اتهموه بعدم احترام القضاء الموريتاني خلال أولى خرجاته الإعلامية.
وفي الجانب الآخر، يرى محامو الرئيس السابق أن استدعاء موكلهم من طرف الشرطة والزج باسمه من طرف النيابة في تهم "الفساد" يشكل خرقا صارخا للنص الصريح للدستور الموريتاني الذي يعطيه حصانة كاملة ومطلقة بالنسبة لهذا النوع من التهم والمواضيع، حسب قراءتهم للمادة 93 من الدستور التي تقول:
"لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولا عن افعاله أثناء ممارسته سلطاته إلا في حالة الخيانة العظمى.
(...) وتحاكمه في هذه الحالة محكمة العدل السامية"[ii].
بينما عمل الفريق الآخر بتأويل وبراهين قانونية ودستورية مغايرة تقول بإمكانية متابعة رئيس الجمهورية قضائيا من طرف المحاكم العادية في المسائل المتعلقة بالتسيير. وكان الأستاذ لو گورمو من الأوائل القائلين بهذه الحجة، إن لم يكن هو أولهم على الاطلاق. وبذل جهدا كبيرا في بثها وتبريرها من منظور الفقه الدستوري.
وحسب ما يُستشف من الجدل الدستوري بين الطرفين حول معنى وتطبيقات "الخيانة العظمى"، والمسؤولية الجزائية لرئيس الجمهورية، فيبدو أننا أمام "حوار صم"، بدلا من نقاش مثمر. لذلك نرى أنه من المفيد القيام في موريتانيا بتعديل دستوري على غرار ما جرى في فرنسا التي نستمد قانونا القاعدي من دستورها. وذلك بصورة تسمح بتغيير المادة 93 من دستور البلاد، بطريقة مثلَى تضمن سير المؤسسات الدستورية وتكاملها كما ينبغي.
كما يجدر التنبيه من جهة أخرى إلى فائدة النصوص والنظم المعمول بها، المتعلقة بضمان واستمرارية مصادر مالية محترمة لصالح الرؤساء السابقين. وينبغي أن يجري تفكير في تعزيزها على صعيد آخر بهياكل وأدوات مؤسساتية تسمح في المقابل بالاستفادة من تجاربهم وخبراتهم. ولنا أسوة حسنة في النظام الفرنسي، حيث يعتبر الرؤساء السابقون في فرنسا أعضاء استحقاقيين في المجلس الدستوري.
الحقيقة، والحقيقة القضائية وحدها...
من الواضح في الوضع الراهن، أن الصراع سيكون محتدما بين طرفي النزاع الحالي، ليس فقط حول التحقيق مع من وردت أسماؤهم في تقرير لجنة التحقيق البرلمانية أو مقاضاتهم، فحسب، بل فمن الوارد أيضا أن تطال اللائحة والجدل أسماء كثيرة وقضايا معقدة أخرى. ومن المستبعد أن ينجو الملف من تشوهات تشوبه. من تجلياتها التنافس القوي، الإعلامي والسياسي، الذي يراد من ورائه استمالة الرأي العام، ومن ثَم، الضغط والتأثير على القضاء وكسر أو اضعاف إرادة الخصم؛ هذا فضلا عن الدوافع والمناورات السياسية التي تشكل هي الأخرى عناصر تشويش لا تقل خطورة. ولا شك أن أكبر متضررَيْن من عوامل الضغط والدعاية هذه، هما: استقلالية القضاء وقرينة البراءة.
ومن الصعب ألا يكون لهذه المناورات الاعلامية والسياسية أثر على الصراع، علما أن الكثير من العاملين في المجال-محامين وغيرهم-لهم توجهات سياسية، معادية أو داعمة لهذا الطرف أو ذاك.
ولكن، فإن كانت هذه المخاوف والتحفظات ورادة جدا فيما يعني "تسييس" الملف، فلا ضير أيضا ولا داعي للقلق إن توافقت القناعات والمصالح السياسية مع سلامة المعطيات القانونية المعمول بها ومع سلامة الضمير المهني للأخصائيين المكلفين بتطبيقها.
ومهما كانت التجاذبات ومساراتها، فلنا أمل عظيم بأن تفوز الحقيقة... والحقيقة القضائية وحدها. وليس ذلك على الله بعسير.
البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)
[i] « manquement à ses devoirs manifestement incompatible avec l'exercice de son mandat », art. 68, Constitution française.
[ii] سبق لكاتب هذه الحروف أن استشهد مبكرا بهذه المادة بوصفه مهتما بالمسائل الاستراتيجية والأمنية في البلد والمنطقة، رغم عدم تخصصه في القانون الدستوري، معتمدا فقط على المعنى الظاهر للنص الحرفي. كان ذلك في شهر دجنبر الماضي، خلال نقاش تلفزيوني على قناة "افرانس 24" الناطقة بالعربية.
تصنيف: