إن ل "الأساطير" مكانة خاصة في ثقافات المجتمعات البشرية و لها طرق وأساليب في تكوينها تستغرق زمنا طيلا عبر القرون والأجيال كي تأخذ أبعادها داخل المجتمع. لكننا ـ ويا للغرابة ـ عشنا في اليوم 22-12-2015 (وفي ساعات معدودة)بروز أسطورة اسمها أحمدو ولد عبد العزيز. ففي اليوم 21 دسمبر 2015 كانت أكثرية الموريتانيين يجهلون وجود هذه الشخصية أصلا.وفي المساء (أو في اليوم الموالي ) كانوا يبكونها كلهم تقريبا. وبعد ذلك بيومين فقط كان أحمدو قد أصبح أيقونة وطنية من نوع جديد على هذا البلد.أيقونة ليستبدينية ولا بسياسية ولا بمادية (ربما لأنهذه الأيقونة بطبيعتها وخصائصها النادرة تستجيب بشكل غير واع لرغبة عارمة وتملأ فراغا كبيرا خصوصا لدى الشباب وبعض المواطنين الذين مازالوا على طبعهم الصحيح وفطرتهم السليمة ، في مجتمع قد استفحل فيه الفساد في مختلف المجالات ، بدءا بالأخلاق.).
ومما يزيد من "تعقيد المعادلة"المعقدة أصلا - في زمن لا يحرك المرء فيه ساكنا إلا بهدف مصلحة ما في مساندة الحكم القائم أو معارضته –هو أن بروز هذه الأسطورة لم يكن بسبب أي دعاية لتلميع صورة المرحوم أحمدو وأن ما حباه الله به وقذفه في قلوب الموريتانيينمن حبه والإعجاب بسيرته كان مثل الطبيعة والفطرة التي فطر الله الناس عليهاوالتي قسمها بالتساوي بين بني البشر (أغلبية ومعارضة أغنياء وفقراء ...).
إننا هنا أمام ظاهرة خارقة لا يحدث مثلها كل يوم وتستحق منا التوقف والتأمل والدرس والبحث لكي نفهم ـ.أو نحاول أن نفهم ـ الأسباب والعوامل التي أدت إلى ظهورها بهذا الشكل النادر في هذا الوقت الخاص, ولكي نتصور الآثار والنتائج المحتملة لحدوثها وخصوصا في هذا الوقت الذي ارتأت فيه الحكومة رأيا صائبا تمثل في وضع برنامج هام هو "البرنامج الوطني لإحياء التراث القيمي" ،ونحن هنا أمام شخصية شاء الله لها أن ترتحل بعد أن جسدت في حياتها القصيرة وسلوكها العديد من قيمنا الفاضلة .
وفي انتظار نتائج ذلك البحث الجاد الذي تستحقه هذه الظاهرة الغريبة، أود أن أعطي هنا بعض الملاحظات السريعة والأفكار البسيطة وهي ملاحظات و أفكار استقيتها من المعلومات والملاحظات والشهادات الأولية المتعلقة بالفقيد أحمدو.وهي كلها ترسم لهذه الشخصية خطوطا جميلة تبرز ما بها من صفاء ونقاء وكرم وتقى ومن بعد عن عالم السياسة والمال والمؤامرات والدسائس... ومع ذلك كان أحمدو يقدم علي أنه "نجل صاحب المقام العالي".والأغرب في الأمر أن تعريفه هذا بنسبته للسلطة والسلطان والذي كان من الوارد في الحالات العادية أن لا يلمع صورته، جاءت النتائج خلاف المتوقع ، بدل أن تتأثر صورته سلبا بجوار ذلك الوسط الذي هو بطبيعته موضوع للنقاش والخلاف والأخذ والرد والذي هو وسط السياسة والحكم
وكذلك خرجت صورة الأب من هذه المحنة المأساوية أحسن.وقد ساهم في ذلك بدون شك سلوك الأب من طرفه، فقد ظل الرئيس عزيزطول أيام التعزية الأربعة يتبع سلوكا وصفه الجميع بأنه "مثالي" : فيه وقار في هيأته واقتصاد ورزانة في كلامه وإرادة واضحة في الحفاظ علي تسيير الدولة بعيدا عن تقلبات حياة رئيسها الشخصية إلي حد أنه رفض أن يعلق اجتماعا كان يرأسه حينما تلقي نبا وفاة أبنه رحمة الله عليه
ومن حقنا اليوم أن نطرح السؤال: من هو أحمدو ولد عبد العزيز؟ ذلك المجهول الذي أصبح من الآن فصاعدا جزئا من حياتنا الوطنية.وانطلاقا من شهادات فردية لبعض أصحابه وأترابه وخصوصا من بعض زملاء الدراسة القدماء في موريتانيا وفي الخارج تكونت بالتراكم وبسرعة فائقة شخصية تتسم بدرجة كبيرة من التواضع ودماثة الأخلاق والكرم وخدمة المسلمين وهي بعض الصفات التي كانت حاضرة في جميع الشهادات والآراء والمواقف والأحكام التي قيلت بشأنه : "فإذا لم تكن تعرفه فلا يمكن أن تتصور أنه نجل صاحب المقام العالي. فهو لم يكن أبدا يشير إلي تلك المسألة لا في كلامه ولا في سلوكه بل كان سلوكه مناقضا تماما للسلوك المعروف عند أبناء "البطارين", كان كريما دون تبجح, كان بطبيعته ............ دون أن يعتزل الناس وهمومهم وكان قبل كل شيء خدوما لا يشغله شاغل عن ذوي الحاجات. كان دائما جاهزا حيث يجب أن يكون لتقديم العون كان يعين ويغيث وينقذ دون ضجيج ودون جلبة. إنك معه ترى طحينا ولا تسمع جعجعة ".تلك كانت واحدة من الشهادات الكثيرة التي سمعتها في أماكن التعزية التي زرتها يومي 23 و24 ديسمبر. وقد تواتر مضمونها في عدد كبير من شهادات أصدقائه وزملائه وأقربائه ممن عرفوه وعاشروه فترة من الزمن. وقد زرت بعض أهم أماكن التعزية :أولا وكما يجب الجد عبد العزيز والذي كان يحمل في كثير من الوقار الألم المضني الذي يمكن أن نتصوره. ثم الخال المحترم الشيخ النعمه ولد ماء العينين ولد أحمد والذي كان يمثل الغائب الكبير الحاج ماء العينين وزوجته الحاجة أم اتبيبيب وكان الشيخ النعمه ذلك الخال الذي لا ينضب حبه لإبن أخته "الطفل العجيب" النابغ والبالغ قبل أوان البلوغ. الطفل العبقري الذي كان نموه واكتماله سريعا وقبل الاوان. أما المحطة الثالثة فكانت عند بيت أحمد ولد سيدي عالي (والد زوجة المرحوم) وهو نجل صديقي محمد ولد سيدي عالي, حيث كان لي الحظ والسرورفي أن ألتقي مريم منت محمد ولد الشيخ ولد أحمد محمود (ابوها هو الآخر كان صديقا كبيرا جدا لي رحمة الله عليه )
علمت في ما بعد ـ وبعد فوات الأوان ـ بوجود أماكن أخري للتعزية عند أصدقاء آخرين : كالسيدة الفاضلة الخالة عيشة منت أحمد وزوجها السيناتور يحي ولد عبد القهار. والواقع أن بيوتا موريتانية كثيرة تحولت بصفة عفوية أمكنة لاستقبال المعزين وللدعاء بالرحمة للفقيد الذي بدأ يعيش ابدا في قلوب ملايين الموريتانيين
شهادات أخري وحكايات ونوادرسيقت في مختلف أماكن التعزية وفي كثير من البيوت الموريتانية صحيحة أو مضخمة أو محسنة ولكنها قي كل الأحوال كانت جميلة وقابلة للتصديق وأسهمت جميعها في رسم الصورة الجميلة وبناء الأسطورة البطولية التي لم يكن من المعقول أن تتشكل وتتجسم بهذا الحجم إلا مع الزمن الطويل مما يعني أننا حقيقة أمام ظاهرة خارقة للعادة
إحدى آخر الشهادات والتي أصفها بأنها سكر فوق عسل والتي إذا صحت ستعطي لهذه الشخصية الفريدة بعدا إضافيا من نوع آخر. وتتعلق المسألة بمؤسسة "ألرحمة".فتمويلها في ما يبدو يتعلق بصداقات من خارج موريتانيا (قد تكون عربية ؟) نسجها أحمدو رحمة الله عليه في الخارج خاصة أثناء دراسته في لندن (والتي عاد منها بغلام رائع أسمه حمزة فيه لذويه خير عزاء).
ويبقي السؤال المحيرهو: لماذا يقوم شاب في مثل سنه فتحت أمامه جميع أبواب الحياة الناعمة بحشر نفسه في عمل صارم يتسم بالجدية والتفاني والتقشف ؟ أعترف بأنني مثل الجميع فوجئت بهذا الاختيار.
بقيت كذلك أجيل التفكير في المسألة إلي أن سمعت أحدا في الحديث إسم جده ماء العينين على لسان احد الحاضرين كان معي. فقلت خفية مرددا صرخة نيوتن في نفسي : "وجدتها!" ,"إنه هو بالتأكيد إنه ماء العينين !" . وهنا اريد أن أسمح لنفسي بوقفة قصيرة مع هذه الشخصية . في الواقع ماء العينين أحد أقدم أصدقائي وربما صديقي الأقدم. كان ذلك في سنوات العقد 1940-1950 (في مدرسة أطار الابتدائية , في اعدادية روصو وبعد ذلك بفترة في جمعية الشباب موريتاني وفي حزب النهضة الذي شارك معي في تأسيسه ...) وليس المقام مقام الحديث عن حياتنا الخاصة بل سأكتفي بذكر بعض المظاهر التي لها علاقة بموضوعنا.لقدربطتنا صداقة قوية وحميمة وكانت تجمعنا وشائج قوية متينة واستطيع أن أقول باختصار شديد إن ماء العينين كان شابا نشأ في طاعة الله. كان له في الواقع همان أساسيان:الصلاة وخدمة الآخر. فمهما كانت مشاغله اليومية(والتي كانمنها ما يتعلق باهتمامات الشباب مثل غيره) لم يكن يستطيع أن يأوي إلي فراشه قبل أن يؤدي جميع فرائضه ويضيف إليها بعض النوافل.
وقد وجدته بعد ذلك في سينلويس ( وكانت يومها عاصمة للمستعمرة موريتانيا) كان موظفا في المالية وكان يقضي جل وقته يتنقل من مصلحة إلي أخري ليؤدي خدمات لموريتانيين أو سنغاليين هم بأمس الحاجة إليها وذلك بشكل مجاني بالطبع. وابتداء من سنة 1960 وفي المغرب أخذ يتابع ويطور موهبتهوميله إلي الخير وفعل الخير وقد استفاد من ظروف خاصة مؤاتية سمحت له أن يقدم خدمات لا تحصي للموريتانيين من المخزن المغربي وقد استطاع بالخصوص أن يساعد في تكوين أجيال من الأطر الموريتانيين. ثموجدته بعد ذلك بعدة عقود في انواكشوط وله اهتماماته الأساسية لم تتغير . لم ينقص الوقت المخصص للصلوات بل علي العكس من ذلك زاد كما لم ينقص الوقت المعد لخدمة الناس....ولم يزل كذلك إلي حد سنتنا هذه2015 سنة العفو والرحمة (ومع الأسف سنة الحزن والصبر).
كانت حياة احمدو ولد عبد العزيز رحمة الله عليه تحمل شهادة لا يستهان بها لأولئك الذين ربوه وكونوه وعلموه ، بدءا بوالديه.وهل يعقلأن ينعدم دور الجدودومستواهم العالي في هذه التربية المثالية؟إنني ما زلت إلى اليوم أحفظ عن ظهر قلب قصائد علمني اياها جدي لأمي عندما كنت لم أتعلم بعد الكتابة ولا القراءة. ذكرت من وما كنت أعرف وليس من الغريب أن تكون هناك تأثيرات مختلفة من غيره من الجدود المحترمين والأقارب والمحيط الأسري الطيب. فلله أولا ولأبويه الكريمين ولجدوده الكرام وله هو نفسه بقدراته الخاصة وأخلاقه السامية كل الفضل في تكوين هذه الشخصية الفريدة . تغمده الله برحمته وإنا لله وإنا إليه راجعون.
كانت تلك مجرد شهادة وليست "دراسة" إنها كلمة حق أريد بها حق.
تصنيف: