ضيف وقضية (9)
لحسن: هل كنتم من ممثلي الحركة الوطنية الديمقراطية؟
ذ. إشدو: لا، كنت مطاردا في تلك المرحلة؛ منذ سجنت سنة 1973. في بداية هذه المرحلة – كما قلت لكم- صدر قرار بفتح المنافي بعد صدور العملة وغير ذلك من الإصلاحات التي رفضناها وتصدينا لها.. صدر قرار بنفي خمسة من قادة الحركة: المصطفى ولد اعبيد الرحمن، محمد المصطفى ولد بدر الدين، لادجي اتراوري، دافا بكاري، وأنا. المصطفى ولد اعبيد الرحمن إلى لعيون، محمد المصطفى ولد بدر الدين إلى كيفه فيما أظن، لادجي اتراوري إلى ولاته، دافا بكاري لا أذكر إلى أين، وأنا إلى بير أم اگرين، لكني لم أوجد وكنت هنا بالعاصمة، بينما وجد الباقون فتم نفيهم.
حدث هذا في صدر عام 1973 وفي أثناء العام نفسه قبض علي فالتحقت بمعسكر أقيم للمعتقلين، وممن كان به أحمد ولد خباه رحمه الله، واعلي ولد ببوط أطال الله بقاءه، ومحمد فاضل ولد الداه.. والكثير من قادة الحركة آن ذاك، وجرى البحث عن آخرين كانوا طلابا فلم يعثر عليهم؛ منهم الطالب محمد ولد لمرابط، ويحي ولد الحسن، والإمام شريف.. بينما كانت جماعة أخرى مجندة قد اعتقلت بالفعل، من بينها يعقوب جالو وكن انجور.
لحسن: مجندة ضد الحركة كمخبرين؟
ذ. إشدو: لا، لا، جندوا في الجيش إجباريا. منهم مجموعة طلاب الجزائر كيعقوب جلو وإسلمو ولد باباه، وأظن أن منهم محمد السالك ولد هيين، وكان من طلاب بلادنا المبتعثين إلى الاتحاد السوفييتي. وأتمنى أن تتاح فرصة أخرى للكتابة عن هذا فتذكر الأسماء كلها دون هضم أحد.
جيء بي إلى هذا المعتقل إذن، فأمضيت به ليالي ثم هربت منه.
لحسن: كيف استطعت ذلك؟
ذ. إشدو: انتبهت إلى أن به حماما مسقوفا بكريتين، وكان لنا حارسان، أحدهما متشدد معنا والآخر بالعكس، فانتظرت فترة الحارس المتشدد ودخلت الحمام أوان صلاة المغرب، وعلقت ثوبي عليه وتركت الماء يجري وكشفت السقف المذكور ووثبت خارجا واتجهت جريا إلى مركز للحركة تحت الأرض هناك (كل هذا في لكصر) فأمضيت به يومين أو ثلاثة بينما كان البحث يجري حثيثا عني، وبعد أيام اتجهت إلى القوارب على ظهور الإبل.
لحسن: هل كان هذا السفر بترتيب الحركة أم بوسائل خاصة؟
ذ. إشدو: بترتيب الحركة طبعا، فالملجأ لها ومكثت فيه بإشرافها، ونظمت الرحلة واستقبلتني في القوارب، وبعد ذلك بأيام عبرت إلى السنغال وانضممت إلى الجماعة التي تصدر "صيحة المظلوم" فكنت من ضمن هيئة تحريرها هناك. وقد سألني السيد وزير الدولة للسيادة الداخلية بعد ذلك: يا أخي أين كنت؟! لقد تعبنا في البحث عنك! قلت له: كنت في علم الله! وتعجبت من طرحه علي هذا السؤال.
المهم أن فتح المنافي تزامن مع فتح السجون والمطاردات.
لحسن: ذكرتم أن التعذيب كان يجري في السجون..
ذ. إشدو: كان يجري فيها التعذيب الوحشي بجميع أشكاله وألوانه.
لحسن: هل نلتم منه نصيبا؟
ذ. إشدو: نلت منه نصيبا غير كبير لأني لم أنتظره، لكن زملائي عانوه. وفي الليلة التي قررت فيها الذهاب كنت أستمع إلى زملاء لي يعذبون بشكل بشع، فأثر في ذلك بشدة، وأنا نفسي أصابني قسط منه على يد مفوضي شرطة ينتميان إلى المذرذره بالخصوص! رحم الله من مضى منهما وأطال بقاء الحي، ولا اشعر نحوه بسوء فأنا وإياه صديقان، وأشهدكم على عفوي عنهما.
في تلك الفترة كان لدينا شعار نردده، وهو صمودي لكنه يخالف الواقع: "تسقط الفاشية" الفاشية نظام آخر! هؤلاء لم يكونوا فاشيين وإنما كانوا وطنيين بعضهم وسطي والبعض يميني، يختلفون معنا في الرأي والفكر والاهتمامات، ويتصارعون معنا مستخدمين جهاز الدولة، وإذا تكاتفنا وإياهم فبالكاد يمكن أن ننجز جميعا شيئا؛ وهذا ما فهمناه لاحقا فصححنا خطأنا.
لحسن: هل ترون ذلك خطأ استراتيجيا لكم؟
ذ. إشدو: ما قمنا به بعد مراجعة الاتفاقيات مع فرنسا وإنشاء العملة، من عدم جعل هذه العوامل في الاعتبار، والتصعيد ضد النظام إلى حد إعلان الكفاح المسلح من طرف من لا قدرة لهم عليه ضد نظام حقق للتو إنجازات وطنية إلى انتهاج تكتيك الوحدة الوطنية، كان كله خطأ تماما حسب ما قررناه وحسب ما أعتقده، ومن اتبع خطواتنا فيه لن يحصد إلا الشوك.
مهرجان الشباب
في أغسطس 1974 قبل النظام ضمنا – دون إعلان ذلك صريحا- أن يعقد معنا مهرجانا سمي مهرجان الشباب وحضرته كل نواحي موريتانيا وشارك فيه أعضاء الحكومة، كما شارك فيه الموجودون من قادتنا، ومن عاد من المنفى منا أو أفرج عنه بسبب انتهاء محكوميته، فشرحنا سياستنا وشرح النظام سياسته ونوقشت فيه مطالبنا ومطالبهم، ومما طرحنا فيه ضرورة التأميم وضرورة باقي الإجراءات الخمسة. وفي 28 نوفمبر التالي (1974) صدر قرار تأميم "ميفرما" وكان يوما عظيما مشهودا في حياة موريتانيا وفي حياتنا. لقد كان ميلادا جديد للدولة الموريتانية، فقبله لم يكن للاستقلال معنى. وبعد ذلك صدر العفو العام، ثم أعيد المفصولون إلى وظائفهم، وبعد ذلك تم تأميم البنك الدولي لغرب إفريقيا (biao) وشركة النحاس (صوميما) ثم صدور الميثاق الوطني، واندماج الكادحين في حزب الشعب، واعتبار الأخير تحالفا بين تيارات مختلفة معروفة لا حزبا سياسيا تقليديا.
من بين ما ينص عليه الميثاق الوطني محاربة استغلال الإنسان للإنسان؛ وكانت نسبة كبيرة من بقايا العبودية ما تزال موجودة آن ذاك. وكانت محاربة العبودية أساسية في برنامجنا:
آن گدك ** وانت گدي
ماني عبدك ** مانك عبدي
نار الثوره ** لاهي تگدي
.. إلخ.
شهادة تاريخية
لحسن: ذكرتم في الحلقة الماضية شهادة للتاريخ كان لها أثر كبير، تتعلق بالعبودية حين قلتم إن البيضان تحديدا كانوا يعترضون طريق القوافل التي تتاجر بالعبيد، وإن لهم تاريخا طويلا في محاربة العبودية
ذ. إشدو: هذا لا يحتاج شهادة لشهرته التاريخية. أنا إنما ذكرت نَصَّيْ شامبونو وهو نخاس فرنسي يتاجر بالرقيق في القرن السابع عشر للميلاد، وذكرت كتاب بوبكّر باري (مملكة والو) وهو أستاذ تاريخ من مالي يُدَرِّس في جامعة بالسنغال. في القرن السابع عشر لم يكن ضد تجارة الرقيق من سكان الكرة الأرضية إلا البيضان، وخصوصا حركة الإمام ناصر الدين، وهذا معروف.
ثانيا حركة محاربة الرق عند نشوء الدولة الموريتانية وبدايات وجود الوعي تزعمها البيضان. فأول قصيدة في محاربة الرق للشاعر الكبير والمناضل محمد الحنشي ولد محمد صالح.
لحسن: وهل تحفظون نصها؟
ذ. إشدو: أجل.. أحفظه..
أين مني آذانكم والعقول؟ ** آدمي تعبيده معقول؟
هذا مطلعها. وبعد حوالي عشر سنوات (1970) قصيدة "ملك الإنسان للإنسان" التي أنشأتها أنا:
أي شيء يثير للنكران ** مثل ملك الإنسان للإنسان؟
كائنان تكونا في تساو ** ثم جاءا إلى الوجود سيان
خاليان من كل ميز وعيب ** عاريان صنوان محتاجان
كيف تعطي الحياة ملكا وجاها ** لفلان.. وذلة لفلان؟
هذا شاهد تاريخي. ومن زايد علينا في شأن العبودية فقد حاربناها بجد حين كانت موجودة، وحاربها أسلافنا. أحمد بابه التينبكتي الماسني الحاجي ألف "معراج الصعود في حكم مجلوب السود" وكان معاصرا للإمام ناصر الدين. ناصر الدين تصدى للاسترقاق بسيفه ودعوته، وأحمد بابه بقلمه. وبعد ذلك كان أبناء البيوت الكبيرة من البيضان هم من وقف في وجه الرق، قبل انتشار الوعي بشأنه، والتحق بهم الكثير من الشباب الذين تعود أصولهم إلى العبيد، ومن شباب الحراطين، وهم موجودون، ونحن نفخر بهم، ولا تمكن المزايدة علينا في هذا الشأن إلا من مكابر أو دجال.
تصنيف: