الأستاذ أحمد محمود ولد أحمدو الملقب جمال؛ إطار مالي بالشهادة والتكوين ودبلوماسي بالممارسة ومثقف مرهف بالفطرة، ابن مدينة أطار العتيقة، عاشق الكتب والمقتنيات الثقافية ذات الرمزية والدلالة التاريخية؛ إطار وطني، خدم الدولة من مواقع مختلفة، بدأها محرر إدارة مترجما في الإدارة الإقليمية، وبعد أن أكمل دراسته وتكوينه في المدرسة الوطنية للإدارة وتخرج مفتشا ماليا متخصصا في الضرائب، عُين أول ممثل لإدارة وعقارات وأملاك الدولة في نواذيبو، وبعد ذلك تنقل بين سفارات موريتانيا في أبرز عواصم العالم محاسبا، وكثيرا ما كان لمعارفه المتعددة وثقافته الواسعة، يختاره السفراء الذين عمل معهم، مستشارا ثقافيا وقائما بالأعمال نيابة عنهم، ثم ختم مشواره الوظيفي مديرا إداريا وماليا بوزارة النقل.
يقيم الأستاذ جمال اليوم في نواكشوط مخصصا الحيز الأكبر من وقته لمكتبته، وهناك زارته صحيفة «الشعب» واطلعت على مساره الحافل في جمع مكوناتها خلال مختلف مراحل حياته، وما قام به عمل دؤوب جعلها تصبح متحفا في جلباب مكتبة.
عمل تراكمي كبير
أفرد الأستاذ جمال لمكتبته جناحا مستقلا من منزله في الحي الجامعي بمقاطعة تفرغ زينه، وتضم في رفوفها جل ما كتب عن البلد وعموم حيزه الصحراوي الساحلي، خلال مختلف الحقب التاريخية، فضلا عن الكثير من الصور النادرة والتحف والمقتنيات ذات الصلة بثقافة وتاريخ البلد، ويؤكد الأستاذ جمال أن مكتبته نتاج جهد تراكمي بدأه مبكرا؛ فقد كان منذ أيام الطفولة الأولى مَيَّالًا إلى الاحتفاظ بكتبه والمجلات والوثائق والجرائد والمنشورات التي تقع في يده، وحتى الأغراض الأخرى والألعاب والقطع المكونة للأشياء التي يقتنيها أو يجدها، وكان يتخذ لكل ذلك من بطون الصناديق في بيت العائلة مكانا للإقامة، بعيدا عن عبث الصغار وفضول الكبار، مضيفا، أن تعلقه بتلك الأشياء ازداد بعد أن كبر، وقد أتاح له دخوله المبكر للوظيفة العمومية الحصول على معارف ومناهج مكنته من حفظ ثروته الثقافية تلك بطرق جيدة، كما أن إقامته خارج البلد متنقلا بين سفارات موريتانيا في أهم عواصم العالم، أكثر من عقد ونصف، مكنته من رصد واقتناء معظم ما كتب عن البلد قديما وحديثا، وكل ما له علاقة به من صور ومنحوتات ومخططات وطوابع بريدية، أو له علاقة بجواره الجغرافي الصحراوي الساحلي، ورَفَدَ مكتبته الأثيرة لديه بكل ذلك على مراحل.
وبعد أن ضاقت الصناديق بحمل مكتبته نقلها إلى بيت مستقل من منزل العائلة، لتواصل فيه نموها المطَّرد، وبعد رحيل الوالدين رحمهما الله، يقول الأستاذ جمال: واستقراري الكامل في نواكشوط نقلت المكتبة إلى الجناح المخصص لها في المنزل وهي اليوم مكان قهوتي وشايي وحيث يحلو لي اللقاء بأصدقائي.
مكتبة الأستاذ جمال التي يطلق عليها: «ذاكرة موريتانيا والصحراء» يؤكد أنها انفتحت منذ البداية على كل ما له علاقة بهذا البلد ثقافة وتاريخا، بغض النظر عن مضمونه وجهته ولونه السياسي والاجتماعي والفكري.
بين الرفوف
أول ما يلفت انتباه المُرسِلِ ناظريه في زوايا مكتبة الأستاذ جمال، هو الركن المخصص للمخطوطات العتيقة، ومعظم تلك المخطوطات عبارة عن كتب دينية توارثتها العائلة ذات الإشعاع المعرفي؛ التدريسي والتأليفي المشهود في هذه الديار، وفي طليعتها نسخة من القرآن الكريم بخط أحمد محمود ولد عبد الله ولد أحمدو ولد محمد سالم (دفين اكليميم) وهو جد الأستاذ جمال، كما يضم الركن بعضا من أمهات الكتب الفقهية المعتمدة في البلاد، فضلا عن بعض عقود بيع وشراء الأرض والدور والدواب وحظائر النخل.
ومن أركان المكتبة المميزة: الركن الخاص بالتقارير والمراسلات والدراسات التي أعدت عن موريتانيا في الفترة الاستعمارية وما بعدها؛ في هذا الركن تجد أبرز ما كتبه الإداريون والضباط الفرنسيون وقبلهم المستكشفون عن هذه البلاد، مقسما حسب المناطق والجهات وأحيانا حسب القبائل والأعراق؛ يقول الأستاذ جمال: إنه جمع شتات تلك المجلدات الضخمة التي تنام في ذلك الركن من مكتبته وفي صفحاتها ينام جزء حيوي من تاريخ وطننا، من مصادر مختلفة، منها: أرشيف المركز الأساسي للدراسات الإفريقية، بالإضافة إلى ما يتوفر لدى إدارة الوثائق الوطنية، ويؤكد الأستاذ جمال أنه وخلال رحلته البحثية المستمرة عن كل ما له علاقة بثقافة وتاريخ هذا البلد ومحيطه، لم يسمع عن أي كتاب أو وثيقة أوجريدة أومجلة أورسم أوصورة لها علاقة به إلا وبحث عنه وسعى في الحصول عليه شراءً أوهبة أوتصويرا.
و الزائر لهذا الركن الصامت الناطق سيندهش من حجم ما كتب عن البلد في تلك الحقبة، وسيجد نفسه في معمعان تقارير الإداريين والضباط الفرنسيين وملاحظاتهم، وتصورات واستشرافات المستكشفين الأوائل لهذا الحيز، ومعلومات وتوصيات التقارير الكولونيالية والاستخباراتية.
و مع التوغل أكثر بين رفوف مكتبة الأستاذ جمال ستطالعك أركان أخرى منها: ركن رحلات الحج وهو ركن يضم أبرز ما كتب حول تلك الرحلة المقدسة التي ألهمت عديد العلماء والفقهاء والكتاب من المسلمين وغيرهم على مر التاريخ.
وغير بعيد من الركن السابق، يطالعك ركن يضم أبرز الكتب التي كتبت محليا عن تاريخ البلد وثقافته، و تتصدر هذا الركن موسوعة العلامة المؤرخ المختار ولد حامدن الكبرى عن تاريخ هذه الربوع، وفيه تقريبا كل ما سطر الباحثون والكتاب الوطنيون عن تاريخ هذه البلاد بمفهومها الواسع.
وفي زاوية أخرى من المكتبة تجد ركنا خاصا بالتاريخ الإداري الوطني تتصدره كل أعداد الجريدة الرسمية، ويحتوي على كل ما له علاقة بالإدارة مما أَنجزت أو أُنجز عنها، وفيه سجلات لمحاضر اجتماعات مجلس الوزراء في العقدين الأولين من تاريخ الدولة الوطنية موقعة من طرف الرئيس الراحل المختار ولد داداه.
وغير بعيد من جناح الإدارة، تجد ركنا آخر يضم كل ما كتب حول الدبلوماسية الوطنية وما له علاقة بها، وإلى جواره حصيلة ما كتبه الوزراء والإداريون والموظفون الوطنيون من كتب ومذكرات عن تجاربهم الوظيفية في الإدارة الموريتانية، و أول من كتب في هذا المنحى وزير الدفاع السابق المرحوم محمد ولد الشيخ ولد أحمد محمود (حامد الموريتاني)، قبل أن ينضم إليه رؤساء سابقون و وزراء سابقون وموظفون سامون ورجال أعمال وكتاب وصحفيون.
وفي ركن آخر، تقرأ ما كتب عن القبائل في هذا الحيز من مصنفات و ما تعلق بها من وثائق، وبإزاء ذلك الركن جناح يتضمن مرافعة موريتانيا أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي التي قدمها الدبلوماسي والمؤرخ الراحل محمد ولد مولود ولد داداه.
وفي ركن آخر تطالع بعضا من تاريخ أبرز الحركات السياسية والفكرية في البلد، حتى النشريات السرية مثل الكثير من أعداد صحيفة «صيحة المظلوم» التي كان الكادحون ينشرونها سرا، ومن مقتنيات المكتبة النادرة: ملحق بعدد من هذه الصحيفة نشر فيه ديوان «سطور حمراء» الذي طبع مؤخرا، وقد اعتمد المشرفون على طباعته نسخة المكتبة فهي الوحيدة الموجودة منه.
وبمحاذاة ذلك الركن تطالع حصيلة ما كتبت بعض الحركات السياسية الوطنية أو كُتب حولها.
وفي زاوية أخرى تجد حصيلة لما ترجم له وزير النفط السعودي السابق أحمد زكي يماني من مخطوطات إسلامية تتصدرها مجلدات عن المخطوطات في مدننا التاريخية (شنقيط و ودان وتيشيت و ولاته) بالإضافة إلى تيمبكتو ومدينه باي انياس، ثم حصيلة للمؤلفات والإصدارات المتعلقة بمدينة ولاته التاريخية.
وفي زاوية أخرى من المكتبة نجد جناحا مرتبطا بالرؤساء السابقين لموريتانيا وما كتبوا أو كتب عنهم، و تتصدره مذكرات الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله، وما كتب عنه وعن حزب الشعب، ثم ما كتب عن الرؤساء الذين حكموا من بعده.
وغير بعيد من هذا الجناح الرئاسي جناح للجرائد الوطنية يضم أوائل الجرائد الوطنية وبعضا من جرائد بعض الدول المجاورة التي كانت تهتم في فترة ما بالأحداث الوطنية بما فيها الأحداث المحلية، والخاصة جدا كمناسبات الزواج والمواليد، وتتصدر أعداد جريدة «الشعب» هذا الجناح، بالإضافة إلى بعض ما كتب حول الصحافة والإعلام مثل أطروحة الراحل حبيب الله ولد عبدو رحمه الله.
وفي جناح آخر تجد الكتب والإصدارات التي اهتمت ببعض المناطق الوطنية لما لها من ميزة جغرافية أو تاريخية أو مجتمعية، مثل منطقة حوض آركين، وكذلك الكتب الجميلة التي تحتوي على الكثير من الصور مثل كتب مدن الملح، وكذلك الرحلات التي كتبها الغربيون.
و غير بعيد من ذلك الركن تجد الكتب والتحقيقات والمجلات التي تهتم بالإخوة الطوارق مجتمعا وثقافة وتاريخا.
وفي زاوية بقلب المكتبة – المتحف توجد وحدة معلوماتية تضم في ذاكرتها كتبا إلكترونية، ويؤكد الأستاذ جمال أن اقتناء مكتبة إلكترونية من ضمن اهتمامات المكتبة.
ليست بالكتب وحدها تتميز مكتبة جمال
الزائر لمكتبة الأستاذ جمال، سيشده حجم القطع الفنية والمجسمات الدالة، وتُحَفُ الصناعة التقليدية الوطنية، التي تتناثر على امتداد عرض وطول المكتبة، في تناغم مع الكتب والجرائد والرسائل والوثائق، كما تتزين المكتبة بكم كبير من الصور الفوتوغرافيه لشخصيات وطنية ودولية وعائلية، وفي زاوية من المكتبة هناك معرض للكثير من العملات؛ أوراقا وقطعا نقدية، وإلى جانبه معرض مماثل للطوابع البريدية الوطنية وبعض الطوابع البريدية العالمية، ومعروف ما تمثله الطوابع البريدية من رمزية ثقافية وقيمة تاريخية، بالإضافة إلى بعض الآلات الراقنة التي كانت تستخدم هنا في السبعينات والثمانينات من القرن الميلادي الماضي، وإلى جوار إحدى أقدم الماكينات الراقنة ثُبتت صورة صفحة من كتاب الكاتب اللبناني يوسف مُقْلِد عن موريتانيا فيها تعليق لطيف على صورة للكاتبة على الآلة الراقنة المرحومة: أم المؤمنين بنت الودَّاد.
ومما يلفت انتباه الزائر للمكتبة: الكثير من اللوحات المعدنية التي تحمل أسماء بعض من الشوارع في نواكشوط القديم (لكصر والعاصمة) ومعظم هذه الشوارع لم يعد اليوم موجودا؛ فإما أنه تمت إعادة تسميته، أو تم طمس كل ما يوحي باسمه، ومن ذلك: شوارع: «الإمام ناصر الدين» و «الشيخ ماء العينين» و «الشيخ محمد المامي» و «الأمير سيدي أحمد ولد أحمد عيده» و «لمرابط محمذن فال ولد متالي» و «بكاري ما غا»، وغيرهم كثير، وهذه اللوحات المعدنية هي كل ما بقي من هذه الشوارع، وقد بذل الأستاذ جمال جهدا كبيرا في جمع هذه اللوحات التي تختفي باختفاء الدور التي كانت معلقة عليها، وقد أنقذ بعضا من هذه اللوحات بعد أن أصبحت قاب قوسين أو أدنى من نار اللحام الْحَمِئِةِ.
ويتحدث الأستاذ جمال بحسرة عن فوضى تسمية الشوارع وإعادة تسميتها في نواكشوط، مبينا أن الشوارع تراث مدني وطني ويرتبط بالكثير من الأحداث في ذاكرة أهل المدينة، ويضيف أن المدينة تتوسع في كل الاتجاهات وبالإمكان أن نسمي الشوارع الجديدة على من نريده، دون أن نلجأ إلى طمس أسماء شوارع خالدة في الذاكرة الجمعية لأهل نواكشوط، مشددا على ضرورة معالجة هذه الوضعية، والاستعانة في سبيل ذلك بالمؤرخين ومن لهم دراية بالمدينة تاريخيا وثقافيا واجتماعيا.
في الختام
تمثل مكتبة الأستاذ جمال أو متحفه التاريخي، خلاصة جهد بحثي كبير استنزف الكثير من المال والوقت، واستخدمت في سبيله الكثير من الخبرات والمعارف والعلاقات؛ فجاء في النهاية صرحا ثقافيا وتاريخيا يأوي الباحثون والطلاب والمهتمون إليه، فيجدون فيه ضالتهم المنشودة، ويحافظ على ذاكرة وطنية تحيى بحياة تلك الكتب والإصدارات والقطع وتموت بموتها، لقد كان الأستاذ جمال بمسعاه وجهده هذا خلفا لسلف اشترى أحد أعيانه ديوان المتنبي بناقة كوماء مكتنزة لحما وشحما، وسافر أحد رجالته من مصاب نهر صنهاجة إلى الساقية الحمراء؛ بحثا عن نسخة من كتاب تعذر عليه الحصول عليه في موطنه.
تصنيف: