لأهل هذه البلاد كباقي أهل غرب أفريقيا مع أنواع المعادن حكاية مستمرة منذ قديم الزمان. نقبوا عنها واستخرجوها وصهروها وحملوها وباعوها شمالا وجنوبا . ولهم مع الذهب خاصة أخبار تطول فقد اشتهرت بلادهم به ونسجت حول ذهبها من الأساطير والقصص ما يظهر كثرته وتعلق قلوب أهل البلاد وغيرهم بهذا المعدن النفيس. وهم في هذا سواء مع غيرهم فللمعدن الأصفر قبول طالما سلب الألباب ورنة قلما صبر عندها الحليم الأحنفي. وكم من زاهد أرداه وحليم أصباه.
وقد كان الموريتانيون إلى عهد قريب يضربون المثل بذهب غرمان وخنط السنغان فمنه قول الشاعر أحمد ولد دندني الكبير في تهيدينت المبرصه فرس محمد محمود ولد لمحيميد:
راع ذهب اغرمان جاك وخنط اسنغان
راع ركب العربان شفتيه احذاك اقعود
ورغم افتتانهم به أو بسببه فقد كانت قبائل منهم تتشاءم به ولا تشتريه ولا تقبله أو تعطيه في مهور النساء. وقديما قال ابن تنبكتو عبد الرحمن السعدي(توفي 1655) في تاريخ السودان إن أمراء تنبكتو كانوا لا يمسون الذهب بأيديهم مطلقا.
وحفلت المصادر الأوربية والعربية القديمة بذكر الذهب عند ذكرها غرب أفريقيا حتى لا يكادان يفترقان. وتفنن الإخباريون العرب في المبالغة في ما بهذه البلاد المعروفة في كتبهم ببلاد السودان من ذهب يرميه الموج تارة وتنبته الأرض إنباتها
العشب تارة أخرى. فقد تقذفه بلا سبب ظاهر كما قد تنبته بعد كل وسمي فيخرج الناس لجمعه خروجهم لجني الكمأة في بلاد أخرى.
يقول ابن الفقيه الهمداني (توفي نحو 951م).في كتابه البلدان[1]: هذه البلاد حرها شديد جداً. أهلها بالنهار يكونون في السراديب تحت الأرض، والذهب ينبت في رمل هذه البلاد كما ينبت الجزر بأرضنا، وأهلها يخرجون عند بزوغ الشمس ويقطفون الذهب.... ومن سجلماسة إلى هذه البلاد ثلاثة أشهر"[2].
ويقول صاحب الاستبصار في عجائب الامصار(ق12م):" وبين صحراء لمتونة وبلاد السودان، مدينة أودغست. وهي مدينة عظيمة آهلة فيها أمم لا تحصى، ولها بساتين كثيرة ونخل كثير، ..... وهم أرباب نعم جزيلة وأموال جليلة، ولهم أسواق حافلة عامرة الدهر كله، لا يكاد يسمع الإنسان فيها صوت جليسه لكثرة غوغاء الناس. وتجارتهم إنما هي بالتبر وليس، عندهم فضة. وبمدينة أودغست مبان حسنة ومنازل رفيعة وأهلها أخلاط من جميع الأمصار، وقد استوطنوها لكثرة خيرها، ونفاق أسواقها وتجارتها.
وحريم أودغست لا يوجد مثله في بلد، يجلب منها جوار حسان بيض الألوان مائسات القدود، لطاف، ..... واسعات الأكتاف" و " يجلب منها سودانيات طباخات محسنات، ..... يحسن عمل الأطعمة ولا سيما أصناف الحلاوات مثل الجوزينقات واللوزينجات والقاهريات والكنافات والقطائف والمشهوات وأصناف الحلاوات، فلا يوجد أحذق بصنعتها منه" و "منها تجلب الدرق الخصيفة الجياد. ويجلب أيضاً منها العنبر الطيب" .
حتى يقول: ... ويجلب منها الذهب الإبريز الخالص خيوطاً مفتولة. وذهب أودغست أجود ذهب الأرض وأصحه".[3]
وفي نزهة المشتاق للإدريسي (توفي 1164م) ما نصه: " ومدينة تكرور أكبر من مدينة سلي وأكثر تجارة وإليها يسافر أهل المغرب الأقصى بالصوف والنحاس والخرز ويخرجون منها التبر" ويقول متحدثا عن غانه: "وغانة مدينتان على ضفتي البحر الحلو وهي أكبر بلاد السودان قطرا وأكثرها خلقا وأوسعها متجرا وإليها يقصد التجار المياسير من جميع البلاد المحيطة بها ومن سائر بلاد المغرب الأقصى وأهلها مسلمون وملكها في ما يوصف من ذرية صالح بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وهو يخطب لنفسه لكنه تحت طاعة أمير المؤمنين العباسي وله قصر على ضفة النيل قد أوثق بنيانه وأحكم إتقانه وزينت مساكنه بضروب من النقوشات والأدهان وشمسيات الزجاج ....والذي يعلمه أهل المغرب الأقصى علما يقينا لا اختلاف فيه أن له في قصره لبنة من ذهب وزنها ثلاثون رطلا من ذهب تبرة واحدة خلقها الله خلقة تامة من غير أن تسبك من نار ولا تطرق بآلة. وقد نفذ فيها ثقبا وهي مربطة لفرس الملك وهي من الأشياء المغربة التي ليست عند غيره ولا صحت لأحد إلا له وهو يفخر بها على سائر ملوك السودان"
ويتقدم من غانة جنوبا فيقول: "ومن مدينة غانه إلى أول بلاد ونقاره ثمانية أيام. وبلاد ونقارة هذه هي بلاد التبر المشهورة بالطيب والكثرة وهي جزيرة طولها ثلاثمائة ميل وعرضها مائة وخمسون ميلا. والنيل يحيط بها من كل جهة في سائر السنة فإذا كان في شهر أغشت وحمي القيظ وخرج النيل وفاض غطى هذه الجزيرة أو أكثرها وأقام عليها مدته التي من عادته أن يقيم عليها ثم يأخذ في الرجوع فإذا أخذ النيل في الرجوع والجزر رجع كل من في بلاد السودان المنحشرين إلى تلك الجزيرة بحاثا يبحثون طول أيام رجوع النيل فيجد كل إنسان منهم في بحثه هناك ما أعطاه الله سبحانه كثيرا أو قليلا من التبر وما يخيب منهم أحد فإذا عاد النيل إلى حده باع الناس ما حصل بأيديهم من التبر وتاجر بعضهم بعضا واشترى أكثره أهل ورقلان وأهل المغرب الأقصى وأخرجوه إلى دور السكك في بلادهم فيضربونه دنانير ويتصرفون بها في التجارات والبضائع هكذا في كل سنة"[4]
وفي كتاب أبي حامد الغرناطي (ت1088م) تحفة الألباب ونخبة الإعجاب، عند الكلام عن بلاد السودان: "وأقربهم غانة ينبت في رمالهم الذهب التبرُ الغايةُ، وهو كثير عندهم. يحمل التجارُ إليهم (حجارة) الملح على الجمال من الملح المعدنيّ، فيخرجون من بلدة يقال لها سِجلْماسة آخر بلاد المغرب الأعلى، فيمشون في رمال كالبحار، ويكون معهم الأدلاء يهتدون بالنجوم وبالجبال في القفار، ويحملون معهم الزاد لستّة شهور فإذا وصلوا إلى غانة باعوا الملح وزناً بوزن الذهب، وربّما باعوه وزناً بوزنين أو أكثر على قدرة كثرة التجار وقلّتهم".
وكان لرحلة حج سلطان مالي حاجي كانجا مانسا موسى سنة 1324م صدى عظيما كرس هذه الصورة النمطية لما حمله معه من الذهب قراضة وسبائك وما صرف منه وقسم في مصر والحجاز وسائر البلاد التي مر بها. وقد أدت تلك الكمية الهائلة إلى تدهور سعر الذهب أعواما متتالية كما يقول بعض المؤرخين.
وشاع آنذاك في البلاد المصرية وجود نوعين من الذهب في بلاد غرب إفريقيا ذهب ينبت في الصخور وأوراقه تشبه الحشائش أو النجيل وهو أصل التبر وحصاده في الربيع وهو الأجود ونوع آخر يقذفه النهر طول السنة.
وقيل إن الذهب يزرع على شاطيء نهر النيجر ويجنيه الناس وكأنه ثمرة من الثمار. ومن هذا الذهب كانت تصنع أغماد سيوف ترجمانات السلطان، كما صنعت منه عصائب رؤوس النساء"[5]
ويرى ابن خلدون (توفي 1404م) أن الذهب المتداول في المشرق كله من أرض السودان أي غرب إفريقيا بلغتنا اليوم: " فمعدن الذهب الذي نعرفه في هذه الأقطار (المشرقية) إنما هو من بلاد السودان"(المقدمة).
ويقول الحسن الوزان (توفي 1554م) عند حديثه عن تنبكتو: "ويملك الملك خزينة كبيرة من النقود والسبائك الذهبية تزن الواحدة منها ألفا وثلاثمائة رطل" (وصف افريقيا).
وجرد السعديون من المغرب حملات ضاع بعضها في الصحاري في طريقها للاستيلاء على بلاد الذهب في مالي. واستطاعت الأخيرة منها إسقاط دولة السونغاي سنة 1590م جشعا وحبا في الذهب الذي استنزفوا منه ما استطاعوا لسلطانهم فعرف بعد ذلك بالمنصور الذهبي (حكم من 1578-1603).
ولا نعلم مصدرا من المصادر العربية القديمة تكلم عن بلاد صنهاجة ومسوفة وبلاد السودان أي عن الأجزاء المكونة للبلاد الموريتانية اليوم إلا وذكر أنها أرض تجارة وملح وذهب.
وتأثر الأوروبيون في القرون الوسطى بالروايات العربية عن ذهب بلاد السودان وتنبكتو خاصة وتصورها مدينة حيطانها من الذهب ولذا حل بها الفرنسي رينيه كاييه سنة 1818 مستكشفا مستخبرا.
وبالجملة فإن علاقة هذه البلاد بالذهب غير جديدة وهي بلاد معروفة منذ القدم بكثرة الخيرات رغم أنها في أغلبها بلاد صحراوية حارة وما كانت أبدا أرض فقر ولا بلدا منسيا ولا برزخيا. ولا غرو إن أعطتنا من خيرها غيثا بعد غيث وروتنا منه سجلا بعد سجل. وإن عدنا إليها حفرنا فيها عن كنوز لا تحصى من جواهر القيم ومعاني الوحدة ولآليء الفضائل. وهي بلاد خير وأمن وبركة. توتي أكلها كل حين بإذن ربها فتبارك الله أحسن الخالقين.
وهي إن تكاتف بنوها وسعوا في ما ينفعهم وينفعها فلن تبخل عليهم وهادها ولا جبالها ولا نيلها ولا شطآنها بخير عميم ورزق كريم, أما إن هم اتبعوا بنيات الطريق وتلهوا هما ينفعهم ويمكث في الأرض فيخشي أن يصدق عليهم مجازا ما حكاه أبو حامد الغرناطي في باب كلامه عن عجائب بلاد السودان من أن "في السودان أمة لا رؤوس لهم".
المقدم محمد المختار ولد بيه
المصدر : Mokhtar Elmouritany
[1]كتاب البلدان. أبو عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني المعروفُ بابن الفقيه.
[3] الاستبصار في عجائب الأمصار.كاتب مراكشي من القرن السادس الهجري (12م)نشر وتعليق الدكتور سعد زغلول عبد الحميد. طباعة ونشر دار الشؤون الثقافية العامة. آفاق عربية. بغداد. بدون تاريخ نشر.
[4] نزهة المشتاق في اختراق الآفاق. أبو عبد الله محمد الشريف الإدريسي.
[5]عبد الله عبد الرازق إبراهيم: دور تنبكتو الجغرافي والاقتصادي في التجارة الصحراوية. موقع الكتروني: منارات افريقية. http://www.islam4africa.net/ تاريخ الدخول 02 مايو 2016.
تصنيف: