تقوم فكرة المأمورية عامة ومأمورية الرئيس والسلطان خاصة في القانون الوضعي علي مرجعية فلسفية وهي كون الوظائف العامة أمر مشاع لا ينبغي أن يتم احتكاره من طرف جماعة أو أشخاص معينين ولذلك وجب أن تضع القوانين أو الدساتير لكل وظيفة فترة زمنية معينة تتيح التناوب عليها لأكبر قدر ممكن من الأشخاص شغل هذه الوظيفة .
ذلك لأن تلك المدة التي منحت لهم قد مكنتهم من الاستفادة من مزايا تلك الوظيفة مما يحتم عليهم الاكتفاء بذلك وإعطاء فرصة للآخرين من أجل أن يستفيدوا هم أيضا من مزايا الوظيفة .
ينبغي الإقرار أن هذه الفلسفة تمتلك قدرا من المصداقية ذلك لأنه إذا كان القصد من الوظيفة هو المزايا والعطايا المادية التي تجلبها فلا شك أنه من العدل أن يتم تعميم تلك العطايا على اكبر قدر ممكن من الناس ..
غير أن هذه الفلسفة على وجاهتها لا تنسجم بالكلية مع فلسفة التشريع الإسلامي ، مع الإقرار بالتوافق التام بين المرجعيتين علي نشدان العدل والتكافؤ بين الناس .
و يعود مهاد الخلاف إلي المنظور النفعي للوظيفة الذي علي أساسه بنت القوانين الوضعية نظريتها ، فهو لا يتوافق بالكلية مع المنظور الإسلامي للوظيفة ؟
ذلك لأن الوظيفة العامة في المنظور الاسلامي أمانة وتكليف بل ترتفع في بعض سياقاتها لتصل إلي مرتبة العطاء الإلهي قال تعالي : (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) .
وقال تعالي :(يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
ولأنها عطاء الهي و أمانة فلا ينعزل عن توليتها إلا بموجب يخل بماهية الأمانة .
قال الماوردي في الأحكام السلطانية :( وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة فقد أدي حق الله فيما لهم عليه ووجب عليهم حقان الطاعة والنصرة ما لم يتغير حاله .
والذي يتغير به حاله فيخرج عن الإمامة شيئان :
- أحدهما جرح في عدالته
- والثاني نقص في بدنه
ولأنها عطاء إلهي ينبغي للحاكم كما قال
أن يواصل حمد الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَيجْعَل من مجازاة نعْمَة الله عَلَيْهِ الْعدْل فِيمَا ولاه وَالْإِحْسَان إِلَى من استرعاه والسهر لنومهم والتعب لحراستهم وَأَن لَا يظنّ أَن غَرَض الْوَالِي تَحْصِيل الرَّاحَة والدعة بل هُوَ أَحَق النَّاس بالتعب وأولاهم بِالنّصب .
ومن أهم وظائفه تولية الأمناء والكفاءات ومتابعة موظفيه ونشر العدل والمساواة بين رعيته . قال أبو القاسم المغربي :
ويستدل على حزم الْملك بحسن سياسة الرّعية وَجمع كلمتهم على طَاعَته للتباين الْمَوْجُود فِي أهوائهم وَإِن الشدَّة والعنف لَا تصلحهم واللين والمساهلة لَا تجوز فِي معاملتهم فَمنهمْ من تفسده الْكَرَامَة وَمِنْهُم من تفسده الإهانة.
قال في درر السلوك في سياسة الملوك)وليعلم أَن لكل طبقَة من الْحَاشِيَة والأعوان آفَة مفْسدَة وبلية قادحة يقف عَلَيْهَا عِنْد سبرهم واختبارهم وَيظْهر مَا استكن مِنْهَا بالبحث عَن أَحْوَالهم .
وَقد قيل آفَة الْمُلُوك سوء السِّيرَة وَآفَة الوزراء خبث السريرة وَآفَة الْجند مُخَالفَة القادة وَآفَة الرّعية مُفَارقَة الطَّاعَة وَآفَة الزعماء ضعف السياسة وَآفَة الْعلمَاء حب الرياسة وَآفَة الْقُضَاة شدَّة الطمع وَآفَة الْعُدُول قلَّة الْوَرع وَآفَة الْملك تضَاد الحماة وَآفَة الْعدْل ميل الْوُلَاة وَآفَة الجريء إِضَاعَة الْعَزْم وَآفَة الْقوي استضعاف الْخصم وَآفَة الْمجد عوائق الْقَضَاء وَآفَة الْمُشَاورَة انْتِقَاض الآراء وَآفَة الْمُنعم قبح الْمَنّ وَآفَة المذنب سوء الظَّن .
ثم إن الصلاحية للخلافة قد تعدد في شخص أو أشخاص فإذا وقع النزاع بينهما قال أبو يعلي الفراء : فإن كان أحدهما أعلم والآخر أشجع نظرت، فَإِنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى فَضْلِ الشَّجَاعَةِ أَدْعَى لِانْتِشَارِ الثُّغُورِ وَظُهُورِ الْبُغَاةِ كَانَ الْأَشْجَعُ أَحَقَّ، وإن كانت الحاجة إلى فضل العلم لِسُكُونِ الدَّهْمَاءِ وَظُهُورِ أَهْلِ الْبِدَعِ كَانَ الْأَعْلَمُ أَحَقَّ..اه
وقد عدد الماوردي أهم المهام التي من أجلها تنعقد الولاية اختيارا أو اضطرارا وهي :
- حفظ منصب الإمامة
- - ظهور الطاعة للدين
- - اجتماع الكلمة
- - نفاذ أحكام القضاء
- - استيفاء الأموال الشرعية
- استيفاء الحدود الشرعية
- التزام السلطان بالدين وأوامره
ينبغي الإقرار هنا ، انه ليس هناك ما يمنع القول نظريا بتحديد المأمورية إذا كانت تلك هي مصلحة الأمة لكن سؤالا يطرح في هذا السياق فهل يجوز شرعا عزل الإمام العدل إذا انتهت مأموريته ؟
إذا تم التوافق في البدء علي مقصد الشارع من الخلافة فلا شك أن القول سيكون بمنع عزل العدل لأن قصد الشارع في الأصل هو ذاك وما دام القصد حاصلا فلا عبرة بالزمن ..
يطرح كذلك القول بالمأمورية إشكالا آخر وهو كيف يكون الموقف إذا خرج الحاكم عن الملة وأعلن كفره نعوذ بالله وهو في بحبوحة مدة المأمورية ؟
والذي عليه المدار والفتيا أنه ينعزل بمجرد خروجه عن الملة ولو كان ذلك أول يوم من أيام مأموريته ؟
الدكتور الشيخ ولد الزين ولد الإمام / محام ، عضو المجلس الإسلامي الأعلي
انواكشوط 1 يونيو 2016
تصنيف: