لا تتوانى السيدة ينصرها في تأدية مهمتها إلا نادرا، حينما تختطف شاشة التلفزة نظراتها؛ وفي تلك اللحظات، فهي لا تشعر حقيقة أن مسار انتباهها تحول إلى وجهة أخرى دون أن تعلم: لعبة السِّيگْ وجوُّها لا يتركان عادة مجالا لمشهد آخر في نفسها.
غير أن الصور الواردة في تلك الليلة، من مسافة تزيد على 6000 كم، كانت أشد وأخطر وقعًا على العالم من ألَّا تنال قسطا كبيرا من اهتمامها؛ خلافا لزميلاتها وشريكاتها في اللعب، اللائي لم يكن يضاهي حماسهن واندفاعهن في المنافسة سوى ضجيج الأدعية والأدعية المضادة، وكذلك صرخات الفرح والصرخات المضادة خوفا من الهزيمة، الصادرة عن الفريقين.
جاء دور ليلي، فرمت أعواد " السِّيگْ " الخشبية الثمانية، الملونة والمزخرفة على طول جانبها المُحدَّب: جاءت أربعة منها "بيضاْء"، أي سقطت على بطونها المستوية وأربعا على ظهورها المحدَّبة. فبدا الفرح سريعا بين فريق ليلي، عكسا للفريق الخصم. وما إن أعادت العملية، حتى تكررت النتيجة مع كل رمية، إلى أن حققت سبع أو ثمان "رباعيات".
وفي كل مرة تنفجر وتتعالى أصوات الفرح والزغاريد بين صديقاتها، بينما تظهر في المقابل علامات الحسرة وصرخاتها على افواه وأوجه عناصر الفريق الخصم. وكانت فاتو، من بين هؤلاء، وهي تدعو ربها، مكررة بصوت عال:
"انْدگدگ صبعي أنْدورْ احمار، اندگدگ صبعي أندور احمار..."
عسى رميات منافستها تبطل، عندما يأتي "الحمار" المتمثل في أن تكون نتيجة الرمية المواتية عودين "ابيضين" وستا على بطونها.
فترد عليها رجاء، من الفريق الآخر:
"لَبْكَمْ، َ لَبْكَمْ... يا امرابطي ( احمد بـ...) لَبْكَمْ ، لَبْكَمْ..."
لم يتحقق دعاء أي منهما: فلا رباعيات ليلي بطلت، ولا البكم أصاب فاتو.
لكن، لما بدأت ينصرها تنفذ مهمتها بوصفها "مَشَّايَتْ" الفريق الذي حقق الرباعيات المتتاليات، تبين أنها لا تقف بدقة على حقيقة النتيجة. فنشب نقاش حاد داخل فريقها. قالت لها رجاء، ساخرة من اهتماماتها وثقافتها الجيوسياسية العميقة:
" إفرْشينَ امعاك انتِيَ والتلفزة... مَگراك أُمَغْلَ اعليك اخبار آمريك واخبار الخارج".
ثم حاولت أن تقوم هي بالمهمة بدلا من ينصرها. غير أن زميلاتها رفضن لسبب بسيط: "التمشية"- تحريك العيدان، أو البعرات، على "لَبْرَ"- يشكل مناورة تتطلب حسا تكتيكيا لا يستهان به، ينصرها هي أفضل من يتوفر لديها من بين الفريق. قبلت رجاء على مضض، بعد أن حذرت صديقتها من جديد، قائلة:
"ينصرها، يجب عليك أن تبقي معنا وألا يشرد ذهنك عن هذه الربوة الترابية المستطيلة والصغيرة التي نسمي "لَبْرَ" وما وضعنا عليها من عيدان أو بعرات في خطين متوازين كل واحد منهما في الجانب السفلي من "لَبْرَ" المقابل للآخر. وحسب نتائج رميات " السِّيگْ "، عليك أن تحركي الأعواد من الأسفل إلى الأعلى، ومن اليمين إلى اليسار، وعلى طول ظهر "لَبْرَ"، باتجاه الخط المنافس حتى نمحق "بعراته" ونحقق النصر."
استجابت ينصرها دون تردد، رغم أنها لم تفهم ما الداعي للشروح الوافية التي قدمت لها زميلتها حول اللعبة. إلا أنها ما كانت لتدرك حقيقة خطيرة تنتابها من حين لآخر في ذلك الوقت: بالها بقي، دون أن تشعر، منشطرا بين ما يدور في حي امباركة واعمارة، وبين واشنطون. تركيزها على لعبة السِّيگْ سيتضرر كثيرا مما تنقله القنوات التلفزيونية دون انقطاع حول الزوبعة التي اثارها أنصار دونالد ترومب لما اقتحموا الكابتول واحتلوا الكونغرس في تلك الليلة.
البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)
تصنيف: