لا يولي حمَّه عادة اهتماما كبيرا لما يحققه أو يجنيه.. ولا لما يخسره. غير أنه لا يقبل أن يُسرق أو يُغتصب بسهولة ما كسبه حتى وإن كان لاماديا ومتواضعا.. خاصة حينما يكون هو من صنع مادة تراثه، كاملة، بوسائله الفكرية.. دون غيرها.. بلا عون خارجي أيا كان نوعه.
ولم يكن يوما يتوقع أن ثمرة خياله على بساطتها ستتعرض لقرصنة.. بطلها صديقه وقريبه سالم.
خلال سفره الأخير إلى منطقة بيريگني صحبة رفيقيه ولد سيدي احمد- تغمده الله برحمته الواسعة، وعبد الله- أطال الله في عمره، فوجئ حمَّه... لكن دهشته لم تكن عظيمة، ولم تطل إلا قليلا، بعد أن قصَّت عليه ابنة عمه خديجة الحكاية التالية، نقلا عن صديقه المذكور آنفا.. قائلة:
- "ذات مرة حدثنا سالم- أنا وجلساء آخرين؛ فقال:
"كنا شبانا ثلاثة أصدقاء: أنا وحمَّه وسيدي. وقد تعودنا على أن نتجول ونمرح على شواطئ نواكشوط أو على المشارف الشرقية للمدينة. في ذلك النهار، الوقت كان في آخر الظهيرة من يوم الأحد.. والجو معتدلا : لا حرارة شديدة تضايقنا.. ولا بردا ولا رياحا يعكران من صفونا أو يعيقان نزهتنا.
جلسنا خارج المدينة نتبادل أطراف الحديث على قمة ربوة رملية صغيرة تقع مائتي متر أو أكثر شمال الطريق المؤدية إلى بوتلميت، في منطقة نظيفة، خالية آنذاك من التلوث ومن ضجيج السكان والبنيان، خلافا لما هي عليه اليوم منذ أن أصبحت جزءا كبيرا ومعمورا من مدينة نواكشوط يعرف باسم "مقاطعة توجنين الإدارية".
وفي ذلك المكان والجو المريحين، وبعد فترة قصيرة، اقترح علينا سيدي أن نجريَ مباريات في لعبة "ظامه"، ملاحظا بصورة عابرة أنه "من غير الوارد تشبيهها أو تسميتها بلعبة الداما العالمية"، على حد قوله؛ وطلب بأن يكون ضمن المتنافسيْن الأوليْن. في حين رد عليه حمَّه باقتراح مغاير : أن نتسابق في العدْو، وأن يكون ميدان السباق أعلى الكثبان الرملية المجاورة ارتفاعا، مبينا أنه ينبغي أن نتسلقه وننزل منه بسرعة مرتين متتاليتين ذهابا وإيابا. أما أنا، فإنني تبنَّيت الرأيين معا؛ وقبل رفيقاي برأيي بعدما وَفَّقتُ بينهما، عندما أضفتُ أنه ينبغي أن نبدأ بالعدْو.. وأن الفائزيْن الأوليْن في السباق لهما البدء في لعب "ظامه" على أن يحل الثالث مكان المهزوم.. وكنت من بين العداءين الأوليْن.
ثم وزعنا المهام بيننا، حسب ما تقتضيه متطلبات المباريات الثانية. تكلف سيدي ب"خط ظامه"- أي: رسم مربع كبير نسبيا على التراب. طول ضلعه 50 إلى 40 سم يتوزعه أربعون خطا مستقيما تتقاطع في 81 نقطة. منها خمسة خطوط أفقية وخمسة عمودية و 14 خطا مائلا إضافة إلى 10 خطوط وهمية: أفقية وعمودية ؛ وأُسندت مهمة جمع العيدان الأربعين إلى حمَّه ؛ بينما تحملت أنا بتوفير ما يقابلها من بعر الإبل أو ما يقوم مقامه، مثل المحار..
ولحسن الحظ، عثرت بسرعة لم أكن أتوقعها فعلا على عشرة أبعار على بعد بضع أمتار من موقعنا. مما دفعني إلى التخلي عن المحار. وخلال بحثي عن الثلاثين بعرة الباقية، صرت أوسع من دائرة البحث تدريجيا حتى أدى بي المطاف إلى الابتعاد عن قومي وإلى الوقوف على عدد كبير من الأنابيب ذات أقطار كبيرة تتسع لاحتضان رجل جالس؛ قد وضعها الصينيون في صف طويل، واحدا تلو الآخر، في انتظار تركيبها بعضها مع بعضٍ وربْطها بالشبكة التي تمد العاصمة بالماء انطلاقا من بحيرة إدينيالجوفية الواقعة على مسافة 50 كم تقريبا شرق نواكشوط.
وقد لفت انتباهي وجود أبعار جديدة العهد: لم تجف بعدُ.. وهي متناثرة في مدخل أحد الأنابيب. فأخذتها. غير أنني لاحظت أن بداخل الأنبوب أكثر مما في فتحته. فمددت يدي حتى ابعد ما يمكن.. وجمعت بعضها، مستغربا كيف وصل براز الإبل إلى هذا المستوى من العمق داخل الأنبوب. دفع بي الفضول إلى إدخال رأسي في الأسطوانة المفتوحة الطرفين وانبطحت.
ثم تحركت متقدما ببطء: تارة أحبو على ركبتيَ ويديَ.. وتارة أمشي على بطني منكبا على وجهي، دون أن أدري لماذا أكلف نفسي هذا الجهد المرهِق، ولا إلى أين أسير بالضبط. في حين تولدت لدي شكوك متزايدة تحولت يقينا بأن النفق يطول.. ويطول.. وكأنه مصر على قهر إرادتي ودحر عزمي. وكان ينتابني شعور بالتذبذب: هل اخنع لمقاومته واستسلم لتمدده وأعود إلى قومي جاعلا حدا نهائيا للمغامرة؟ أم على العكس: ينبغي أن أواصل زحفي على ركبتي وبطني حتى أرى نهاية النفق؟
ولم أفتأ أتساءل وأفكر في الموضوع حتى تناهت إلى مسامعي أصوات استغربتها عند أول وهلة، قبل أن أتبين بعد وقت قصير أنها ليست مألوفة شيئا ما لدي، فحسب، بل إنها تحرك وتنعش أشواقي وحنيني إلى مجتمع البدو الرحل الذين ترعرعت وتربيت بينهم. إذ تأكدتُ تدريجيا من طبيعة الصوت- أو على الأصح الصوتين- ونوعهما: حنين حوار ورزيم ناقة- اعتقد أنها أمه.
وكانت قوة الإشارات الصوتية المتبادلة بين الدابتين تتضح شيئا فشيئا بقدرما ازحف أو أحبو قُدما إلى الأمام داخل الأنبوب حتي تيقنت من كوني على مسافة قريبة من أم أليفة حنون تداعب صغيرها المدلل. وتوقفت قليلا لما انتابني شعور قوي عندما تذكرت كم أنا مدين لنوق مثلها.. وكم أنا مشتاق لحد السقم. ثم استأنفت زحفي البطيء داخل الأنبوب نحو الجهة التي ينبعث منها الصوت: أبحث عن أم لم أعرفها... وعن حب يرافقني ويلهمني دائما؛ وأنا اركض خلفه باستمرار وهو يبتعد.. يبتعد.. يبتعد... وقلبي به لصيق... "
قاطع حمَّه ابنة عمه، جاعلا حدا نهائيا لكلامها ومؤكدا في نفس الوقت ومصححا على طريقته المهذبة – أو على الأصح المرتبكة والحازمة في آن واحد-ما نقلته له عن صديقه وقريبه، قائلا:
-"أنا، سوف أحكي عليك بقية القصة، يا خديجة. ولكن أود أن أأكد قبل ذلك، أن سالم راوية ممتاز؛ وجدير حقا بتبني وسرد ما أقصه عليه، حتى وإن غير اسم احد إبطال القصة.
وطالما أن مُبلِّغ قولي يوصله على العموم بالصورة التي سمعت من فمكِ، فالتشبث بالملكية الفكرية والمطالبة باحترامها مهما كلف الثمن... أمور لا تليق بنوعي من أبناء البدو العاملين بما يجري به العرف في أوساط عريضة من نخبنا المتعلمة والسياسية التي تخيم عقلية "السيبة" الفكرية والنزعة القبلية على تعاملها مع القضايا كلها: ثقافية كانت أم من سجل آخر.
فرغم ما لهذا النوع من التعامل المريب، مع إبداعي أو تأليفي، من إجحاف بي وبمرتكبه أيضا، فلا أرى في هذه الحالة بالذات من سبيل غير الرضوخ للوضع والتسليم به، علما أن سالم تربطني وإياه أواصر قربي متينة. وكما تعلمين، فويل لمن أثار فضيحة داخل عشيرته أو سار في اتجاه معاكس لما تريده وترضاه القبيلة!"
قاطعته خديجة بدورها:
"- لم يفاجئني كثيرا ما قلته عن سالم رغم أنني لا افهم شيئا في مسألة الملكية الفكرية التي أثرت. ما يهمني أن تحكي علي بقية رحلتك داخل الأنبوب ابتداء من حيث قاطعتني."
لم يرد حمَّه عليها بل بقي صامتا.. مترددا.. وذهنه شاردا تتقاذفه أمواج الحيرة...
البخاري محمد مؤمل ( اليعقوبي)
تصنيف: