إن النفاق، الذي هو ظاهرة سيئة و آفة مدمرة، يرتدي كل الأثواب الاجتماعية و الدينية و السياسية. فقد يكون حالة فردية لا تضر أكثر من صاحبها، و قد تكون جماعية تحدث الشروخ و تعطل مسار الحياة المستقيمة الطبيعية. و لكن أخطر أنواع النفاق و أشدها فتكا فهو ذاك المتأتي من صلب النظام المجتمعي القبلي و الشرائحي و الطبقي ويتصف بشدته بالحالة الوبائية التي تنخر جسم المجتمع، تهز أركان البلد وتدمر الأمة. والمنافق الفرد هو تلك "النقيصة" التي تقوم بالوشاية بين أفراد الأسرة الإيجابية و أكثرهم جدارة فيخلخل بنيتها و يفقدها التوازن والتماسك. وأما الجماعة المنافقة فتستهدف قادة المجتمع وأركان هيبة البلد، فتوقد نار الأحقاد و الغل و الحسد بينهم وتشعل الفتن اللفظية القميئة و توغر الصدور وتحرض بالمكر و الكذب وتزييف الحقائق الأطراف على بعضها حتى تحدث الشروخ وتعطل السعي الإيجابي المشترك فتقسم إلى شيع تتهافت على السلطة للسيطرة مما يجعل أحد الأسباب إلى تحقيق ذلك الإمساك بمقدرات البلد وتسخيرها، فيعم الفساد وتتدهور الأوضاع ويسقط البلد في شراك التخلف والاقسامان. و عند هذا الحد تكون الأمة قد سقطت بكاملها في مسار النفاق ليقبل ضعفاؤها الخنوع والاستكانة والظلم من فرط نفاق حب البقاء، ويبطش الأقوياء من فرط النفاق للقادة الدين يقاسمونهم الحكم ومقدرات البلد ودوس شرف الأمة و الاستهتار بمنعة البلد المعنوية.
حبطت نخب لا تضطلع بأدوارها
حبطت وكان لزاما محاكمتها في محاكم الضمير بتهمة التخلي عن المسؤولية وهدر حقوق الوطن وأهله:
• نخب فكرية لا تؤلف ولا تحاضر بصوت جهوري حول أزمة التفكير المستفحلة قبل الفكر مادة ووقودا،
• و جامعية و أكاديمية لا تبحث بجد و عمق وتجرد و شغف علمي وفضول معرفي في كل جوانب النقص التي تحاصر الإنسان والبلد،
• و سياسية لا يناضل قادتها والمنخرطون فيها بتجرد و على نفس الخط من أجل وطن يؤمنون جميعهم بضرورة قيامه على أسس الديمقراطية بعيدا عن الانتماءات الضيقة كالقبلية و المناطقية المقيدتان، و الإيديولوجية الدوغماتية التي تجعل على الأعين ستارا و القلوب أقفالا فلا تنفح إلا على المنخرطين فيها و تلعن من سواهم،
• و نخب المال و الاقتصاد و التخطيط التي لا هم لها إلا الاقتطاع من المال العام بكل السبل الملتوية و من خيرات البلد بكل إقدام على خيانة الحاضر و تقويض المستقبل
و إن كل المؤشرات و الدلائل لتوحي مجتمعة بغياب جميع هذه النخب في البلد الذي يكثر فيه الإدعاء بالتميز و العبقرية و النبوغ، و يغلب على الإخوة في العروبة تصديقه في ذلك الوجه بما استطاع بعض المتميزين من أهله أن يمرروه في المنفى الفكري عن أرض الجدب و أن يسوقوه بقدراتهم الذاتية هناك.. هؤلاء الإخوة يصاب أغلبهم بـ"رهاب التباين" حين يزور البلد.
و مهما يكن فرفوف المكتبات خالية من المؤلفات المفيدة و المراكز البحثية لا تضطلع، من أعذار"مادية" و "ذهنية" و ضعف "مستهدف" و غياب راع و مشجع، بأدوارها و قد وهبت نفسها لذلك فقيدها و كان لزاما أن يحاسبها وجوب الالتزام، و الجدر الفكري يضرب أخماسا بأعشار فلا يرى إلا كل مراوغ همه ما يكسبه بالتحايل السياسي و التعيين النفعي و التزلف السياسي تحت يافطة القبيلة والعشيرة و الشريحة. فهل من حق هذا الوطن أن يعتب على مثل هذه النخب؟
لن يرحم التاريخ المتعثرين
أمام التاريخ لا يجدي الدفاع بواهي المبررات و رجعي الامتداح عن الذين أخلوا برسالتهم الفكرية أو الثقافية أو الحقوقية أو السياسية أو الإنسانية. فكل نفس بما كسبت رهينة و المثقف النزهيه لا تستهويه الأهواء و لا يعرف التملق إلى عقله و فعله طريقا. و أما من تستهويه الأهواء فينصاع لها طائعا فقد جنى على نفسه و انتقص من شأنه و خدش مكانته في العقول و على صفحات التاريخ الغراء، و لا راد لقضاء الله العادل فيه.. و في موريتانيا التي تفتقر نخبها إلى الحصانة من طفيليات و شوائب التملق و الخنوع للقوة بسادية دفينة، لم تمر فترة إلا و جبت ما قبلها، فلا تترك أثرا لسمو فكري أو أثر ثقافي أو فتح علمي أو تحول ميداني.. و ما المعيش من التردي و التيه و المسخ إلا استمرارا في ذات نهج التقوقع في قوالب الماضي الادعائي المشوب بالنرجسية و الأسطورية و الركون إلى القوة بخنوع التنازلٍ.
حصار الفقر و بطر الغنى
تتسع باضطراد الهوة بين الطغمة الغنية من المفسدين القبليين و أترابهم من المتملقين و رجال الإهمال، و بين الغالبية من المواطنين المغلوبين على أمرهم و المحاصرين داخل أسوار من الفقر موصدة أبوابها من قبل الإدارة التي ينخرها فاسد التسيير في كل أطوارها بفعل سوء إرادة الممسكين بها من ذات القبليين الذين قذفت بهم إليها التحالفات السيباتية و السياسوية المستحكمة بقبضة من حديد حتى أصبح كل قطاع يتسمى بإحداها و لا يلفت، على شدة شذوذه، النظر أو يسترعي الانتباه أو يسوجب الاستغراب و الشجب. و ليست المشاريع الكبرى و المؤسسات العمومية بأقل في ذلك أو هي حتى في مرمى الفقهاء لتصحيح أو سياسيين لتغيير... ذلك بأن أغلبهم من أغنياء تجارة الصمت.
عندما يخرج الإعلام هزيلا
و اتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود من فجر إعلام سياسي خائر، منحاز بشكل مفضوح لم يترك لاستقلاليته و مصداقيته لدى المتلقين أي حيز للتأويل. و فيما كان في الجانب المتعلق بالتغطية اليومية للأحداث، و متابعة و تقصي نسق مفاصل الحراك العام، أبعد ما يكون عن الموضوعية و الترفع عن الأخبار الكاذبة و المغرضة و التحريضية و الممجدة و الناقدة بحدة، فإنه كان في الجانب التحليلي أكثر ملكية من الملك حيث تجاوز الفاعلين في الأحزاب و المترشحين على اللوائح في مسألة التنميق في الخطاب و الجرأة على تزييف الخقائق و ادعاء الامساك بكل الحلول، فكان جامع الحطب، حماله و من لا يكف عن إشعاله ثم ذر رماده في العيون. و قد استوى في الأمر، المخيب كل الآمال في ميلاد سلطة رابعة، المناصر لأحزاب الأغلبية و على رأسها الحزب الحاكم و المناصر الؤيد لأحزاب المعارضة المشاركة في الانتخابات. و بهذا يكون الإعلام، الذي خرج هزيلا من امتحان فرض سلطة الوجود، قد كرس مرة أخرى تأخر البلد عن ركب الأمم و أبان عن أنياب رجعيته و ظلاميته و بعره عن الحرفية و الموضوعية و كل سبل الوطنية.
خور الثقافة
في الوقت الذي تأخذ فيه السياسة زخما غير معهود، و تهافت تهافت غير مسبوق، و اندفاع الجميع المحموم بلا شروط أو قيود أو خطاب أو برنامح إلى الترشح، يشكل الجدب الفكري و القحط الثقافي الديكور الغالب من الخواء و علامات التراجع و النكوص و السقوط إلى حضيض الرداءة و التحلل؛ عموم ديكور يتراءى واضحا للقلة من الغيورين على البلد و للمراقبين من المهتمين بحراكه الثقافي، المحبطين بعدما كانوا يحملون عنه صورة ناصعة تحت عناوين براقة وأسماء لامعة. كما يتزامن الوقت السياسي المطلق العنان في البلر مع انخراط الأمم من حوله في تنظيم المهرجانات الاقليمية و الدولية و التظاهرات الفكرية العالية و جلب الاستثمارات في شتى مناحي النشاط البشري الثقافي و الفني و الابداعي و الصناعي و التنموي بشكل عام.
الولي سيدي هيبه
تصنيف: