مسألة إسلامية الدولة (...) مفهوم من المفهومات التي نشأت ونبتت في القرن العشرين، ولكنها غامضة وملتبسة، فمفهوم إسلامية الدولة مفهوم واسع ومشكك، على اعتبار المعنى الذي تكون به الدولة إسلامية؟. علما أن الإسلام أو الإيمان هو صفة للأفراد والأشخاص المكلفين لأنه العقيدة والعمل. فما معنى أن يوصف به الشخص الاعتباري؟ هل يكفي لتكون إسلامية أن تكون غالبية السكان من المسلمين؟ وهل يستبطن هذا المفهوم مسألة الدار المعروفة المتعلقة بدار الكفر ودار الإسلام؟، وهل يتعلق الأمر بالنظم والقوانين؟، لعل ذلك هو المفهوم السائد.
لا يمكن أن نعتبر إسلامية الدولة تعني عدم وجود المخالفة، لأن الإسلام بالنسبة للفرد يتحقق بالشهادة كما يقول القاضي عياض وغيره، فلا يسقط إلا بمتحقق، وهذا الذي تدل عليه الأحاديث، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم ، الذي له ذمة الله وذمة رسوله ، فلا تخفروا الله في ذمته)([3]).
الإشكال الآن في مفهوم "الإسلامية" و"اللاإسلامية"، والذي أصبح مرتبطا في أذهان الكثيرين بأنه تابع للقانون، أو لبعض القوانين، وليس تابعا للسكان ولا الحكام، هذا المفهوم يحتاج إلى إعادة صياغة على ضوء حقيقة ما هو الإسلام؟. وما معنى أن توصف به دولة أو دار أو منطقة، فالدار اختلف فيها العلماء بين من أحال إلى أحكام الكفر والإسلام، ومن أحال إلى الأمن والخوف كالحنفية ومنهم الكاساني. وعند الشافعية كالماوردي والنووي وجود بيت يمارس شعائره في بلد يصيرها دار إسلام، كما يجيز الماوردي أن يكون في الحكومة وزير غير مسلم وهو ما يعرف ب"وزير التنفيذ"، فهو من الرعايا غير المسلمين الذين يسمون "أهل الذمة" الذين حققنا مفهوم مواطنتهم في مؤتمر "إعلان مراكش" للأقليات الدينية في العالم الإسلامي([4])، بناء على صحيفة المدينة المنورة التي كانت تمنح حق المواطنة للمسلم وغير المسلم بناء على عقد اجتماعي فيه الحقوق والواجبات متبادلة، وقد أبرزنا في هذا المؤتمر أن الإسلام يحتوي على أكثر من نظام، وأن نظام المواطنة المتساوية هو أحد هذه الأنظمة. -دون أن يكون ذلك معارضا لنظام الجزية ونظام الموادعة في سياقه الزماني والمكاني. وسنخصص لإعلان مراكش جلسة خاصة ضمن جلسات هذا الملتقى
وإذا فرضنا أن الدساتير والقوانين تثبت صفة الدول، فما هو المقدار الذي يجب أنْ تشتمل عليه الوثيقة لتكون الدولة إسلامية؟.
في عهد النبي عليه السلام كان هناك اندماجٌ كاملٌ بين الدين والدولة، بمعنى أنَّ نظامَ الدولة يَعتمِدُ على النصوص الدينية، وتمارسه سلطةٌ وحي معصومةٌ ممثلة في النبي عليه الصلاة والسلام.
لكن بعد العصر النبوي، انتقلت السلطة إلى الخلفاء الراشدين الذين كانوا من العلماء فمارسوا السلطة بدون أن يدعى لهم العصمة ، ولم يحكموا باسم الإله ولا نيابة عنه،ولكنهم سعوا ليكونوا أقرب ما يمكن لروح التعليمات الإلهية، لتنفصل بعد ذلك العلاقة بين الأمير والفقيه، لكن هذا الأخير لم يغب عن الدولة وأجهزتها لما باشر القضاء والفتوى. وفي العصر الحديث بقي التشريعُ في العديد من البلاد الإسلامية مستمداً من روح الشريعة ونصوصها، مع اختلاف مرجعيات ومشارب من يمارسون السلطةَ.
ونحن هنا نرى أن كل الدول المسلمة والتي أغلب سكانها مسلمون، هي دول مسلمة أو إسلامية، ولسنا في مقام تبرير مخالفة القوانين للشرع، ولسنا في وارد الحكم عليها، لأن الأمر يتعلق بشروط تنزيل النصوص والأسباب والموانع، وتلك أمور تخرج عن نطاق البحث لأنها تتعلق بقضية الإمكان والمكان والإنسان. وسواء في ذلك إن كانت نصت على ذلك في دساتيرها أم لم تنص، لكن لم تنص على العكس، وإذا كان الحكم ممكنا على قانون ما بالمواءمة أو المخالفة للشرع، فإن حكم المتعاطي مع هذا القانون يفتقر إلى منظومة أخرى تنتظم توفُّر الشروط وانتفاء الموانع وقيام الأسباب والعلاقة بين الرخص والعزائم التي تندرج تحت خطاب الوضع.
والأصل أن الشهادة كافية لتحقق الإسلام بالنسبة للمكلف، ويبقى بعد ذلك ما يتعلق بدائرة العمل لخصوصيتها عن دائرة الاعتقاد، وقد روى الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ جَابِرًا سَأَلَهُ رَجُلٌ: ” هَلْ كُنْتُمْ تَدْعُونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مُشْرِكًا؟ قَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ!، فَفَزِعَ لِذَلِكَ. قَالَ: هَلْ كُنْتُمْ تَدْعُونَ أَحَدًا مِنْكُمْ كَافِرًا؟ قَالَ: لَا “([5]).
إن الخروج من الإسلام يتعلق بكل فرد، وليس حكما ينسحب على الناس دون تحققه في الأفراد، وتحققه في الأفراد مرتبط بالقاعدة المعروفة إنكار المعلوم من الدين بالضرورة. يقول الحافظ أبو عمر ابن عبد البر: ” أجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمد ذلك عالما به، رويت في ذلك آثار شديدة عن السلف، وقال الله عز وجل: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون(، نزلت في أهل الكتاب قال حذيفة وابن عباس: وهي عامة فينا. قالوا: ليس بكفر ينقل عن الملة إذا فعل ذلك رجل من أهل هذه الأمة حتى يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، روي هذا المعنى عن جماعة من العلماء بتأويل القرآن منهم ابن عباس وطاوس وعطاء. وقال الله عز وجل: )وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا( والقاسط الظالم الجائر”([6]).
-----------------------------------------------------------------------
[3] – رواه البخاري
[4] – نظمه منتدى تعزيز السلم بشراكة مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية في 25-27 يناير 20166 بمدينة مراكش.
[5] – رواه أبو يعلى في مسنده عن جابر بن عبد الله بإسناد رجاله رجال الصحيح.، والطبري.
[6] – التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، 5/74-75.
( ⃰ ) المرجع : عبد الله بن بيه. " الكلمة التأطيرية للملتقى الثالث لمنتدى تعزيز السلم ـ “الدولة الوطنية في المجتمعات المسلمة”
تصنيف: