ولد إشدو يغوص في موضوع تغيير العلم والنشيد الوطنيين

 كما هي عادته لا يتوارى الأستاذ ولد إشدو عن القضايا الوطنية الشائكة والجدلية : المرء لا يتردد في الزج بنفسه في القضايا الكبرى المطروحة على البلد حسب ما يمليه عليه ضميره. يوفر قلمه في فك خيوطها.. موظفا سعة اطلاعه وغزارة خبرته ومواهبه كمفكر وكباحث لا حد لفضوله.. شغله الشاغل : اصطياد مكامن المفارقات الفكرية والسياسية والغوص في دقائق الاستدلالات المتعلقة بها.

 وفي هذا السياق كتب الورقة التالية التي ستكون على حلقتين. و يبين في جزئها الأول الذي بين أيدينا أن القول بعدم تغيير العلم والنشيد الوطنيين خرافة لا أساس لها من الصحة.. مستدلا على ذلك بحجج  تاريخية ناصعة تتعلق بفضاءات جغرافية وسياسية متنوعة وبخصائصها وتطوراتها المختلفة : مصر، اليابان، الدول العربية المنبثقة عن "سايكس – بيكو... 

--------------

" العلم والنشيد الوطنيان بين الحقيقة والخيال (ح1/ 2) / بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو

أكاد أجزم بأن الأعلام والأناشيد الوطنية مع رمزيتها وقداستها هي كائنات حية مادية ومعنوية ذات سلطان مطلق بنّاء وهدّام؛ ولها - كغيرها من الكائنات- سير وحكايات تختلف باختلاف محتدها الذي تنتمي إليه، وعلاقة ذلك المحتد بالحضارة البشرية، ومدى الوعي والنهوض فيه، أو الانحطاط والخمول المعششين في ربوعه.

        وبالرغم من انصهار شعبنا في بوتقة مختلف الحضارات البشرية التي عرفتها رقعة الوطن على مدى آلاف السنين، وتأثره بالشعوب والحضارات العربية والإسلامية والإفريقية، وحتى الأوروبية التي ظلت تراودنا  لأزيد من خمسة قرون، فإن التاريخ لم يذكر لنا اقتناء قبيلة أو إمارة أو جهة من جهات الوطن عَلَمًا يميزها عن غيرها إلى عهد الاستقلال. أما الأناشيد فقد كان طبل الإمارة والحلة و"الأشوار" و"اتهيدين" تقوم بدور يكاد يلامس دورها.

        وفي فجر الاستقلال وولادة الدولة الموريتانية اتخذت بلادنا لأول مرة، على غرار دول المعمورة، علما ونشيدا ملآ الفراغ وأديا دورهما على أكمل وجه لمدى 60 سنة، ويجري الآن العمل حثيثا على تعديلهما وهو حق لا ينكره على الشعب وأجياله الجديدة الناهضة الطموحة إلا جاحد أو جامد أو مزايد. 

        وليس بدعا أن تتطور وتتغير أعلام وأناشيد الدول بتغيُّر الحقب والعهود. وتعتبر مصر التي هي أم الدنيا وزعيمة العرب والأفارقة وأول بلد اتخذ علما على وجه الأرض، خير مثل على ذلك؛ فقد غُيّر علمها إحدى عشرة مرة منذ سنة 1805 أي منذ عهد محمد علي باشا الذي اتخذ علما أحمر يتوسطه هلال ونجمة أبيضان. وقد ظل اللون الأحمر والهلال الأبيض - مع تعديل في شكل وعدد النجوم- السمة الغالبة في العلم المصري إلى نهاية عام 1923 حيث ظهر العلم الملكي الأخضر ذو الهلال الأبيض والنجوم الثلاث البيض علما لمملكة مصر الحرة المستقلة، وكان ذلك العلم تعديلا للعلم الذي رفعه الشعب في ثورة 1919 الذي كان أخضر اللون وبه هلال وصليب أبيضان يجسدان شعار تلك الثورة "الدين لله والوطن للجميع". إذ اقتبست الدولة اللون الأخضر والهلال الأبيض من علم الشعب، وأضافت من عندها النجوم الثلاث من أعلام محمد علي وخلفائه. ويرمز اللون الأخضر في العلم إلى خضرة الوادي والدلتا، والهلال إلى الإسلام الذي تدين به أغلبية الشعب، بينما ترمز النجوم إلى انتصارات الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا في إفريقيا وآسيا وأوروبا. وبعد ثورة الضباط الأحرار رُفع علم الثورة ذو الألوان الثلاثة: الأحمر الذي يرمز إلى دماء الشهداء الذين ضحوا من أجل الوطن، والأبيض الذي يرمز إلى طبيعة الشعب المصري الطيب المسالم، والأسود الذي يرمز إلى عهود الاستعمار التي تم التخلص منها، ويتوسطه شعار الجمهورية وهو نسر عريض على صدره درع أخضر ينتصب فيه هلال أبيض وثلاث نجوم بيض. وفي عهد الجمهورية العربية المتحدة تم الاحتفاظ في علم الوحدة بالألوان الثلاثة المذكورة وحلت محل النسر نجمتان خضراوان تمثلان مصر وسوريا. وقد ظل هذا العلم علم جمهورية مصر العربية لأزيد من 20 سنة بعد انفصام الوحدة. ولم يجر تغييره إلا سنة 1984 في عهد الرئيس مبارك، حيث حل النسر بشكله الجديد محل النجمتين واحتفظ بالألوان الثلاثة وما ترمز له.

        هذا عن علم مصر. أما نشيدها الوطني (السلام الوطني) وهو الأول عربيا، وكان وليد التأثر بالعلاقات المصرية الأوروبية، فقد ولد من رحم العدم "سلاما موسيقيا عاريا من الكلمات ألفه موسيقي إيطالي هو جوزيبي فيردي للخديوي إسماعيل ليعزف في حضرة الأجانب سنة 1869 بعيدا عن أي اعتبار للشعب صاحب الوطن" وسرعان ما تلاشى من الذاكرة الجمعية. ثم فوجئ المصريون سنة 1908 أثناء زيارة وفد روماني إلى القاهرة بأن بروتوكول الترحيب بالضيوف يحتوي عزف النشيد الوطني الروماني فبحثوا عن نشيد مصري مواز فلم يجدوا، فتبنوا، بتوجيه من محمد فريد زعيم الحزب الوطني، نشيدا كتبه الشاعر علي الغاياتي ضمن ديوان من الأغاني الوطنية مطلعه

"نحن للمجد نسير ** ولنا الله نصير".

وقد أغضب ذلك الحكومة الموالية للإنجليز فصودر الديوان وسجن السياسي والشاعر.

وصدحت جماهير ثورة 1919 بنشيد عامي كتبه بديع خيري "قومي يا مصر" لكن الحكومة لم تعترف به؛ كما لم تعترف بأي من النشيدين الفائزين في مسابقة نظمها طلعت حرب، ولا بالنشيد الذي تقدم به العقاد. وظلت مصر بلا نشيد حتى مشاركتها في دورة الألعاب الأولمبية في برلين سنة 1936 حيث اضطرت إلى اختيار سلام يعزف عند رفع العلم المصري فوقع اختيارها على نشيد من تأليف محمود الصادق وتلحين عبد الحميد زكي مطلعه:

"بلادي بلادي فداك دمي** وهبت حياتي فدى فاسلمي".

وقد ألغته ثورة 23 يوليو التي تبنت عام 1956 نشيد

"والله زمان يا سلاحي ** اشتقت لك في كفاحي"

كلمات صلاح جاهين. وقد ألغي في عهد الرئيس أنور السادات سنة 1979 بعد السلام مع إسرائيل وتم تبنى السلام الحالي "بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي" كلمات يونس القاضي وألحان سيد درويش. (بعض هذه المعلومات عن مصر من دراسة للأستاذين أحمد جودة في "اليوم السابع" ومحمد كريم في "العربي الجديد").

  ومن النوادر المتعلقة بالأعلام والأناشيد ما يحكى عن أصول أعلام الدول العربية المشرقية المنبثقة عن "سايكس - بيكو"، وعن النشيد الوطني الياباني؛ إذ يروى أن أعلام تلك الدول تم وضعها خلال خمس وعشرين دقيقة، وكان ذلك في غرفةٍ ما بجنوب غرب لندن، وأحد أروقة الخارجية البريطانية، حيث كان السير مارك سايكس يسارع في طباعة رسالةٍ ما في الثاني والعشرين من فبراير عام 1917. وهذه الرسالة موجودة الآن لدى أكثر من جهة؛ في الأرشيف الوطني البريطاني بلندن، ومركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة أوكسفورد.. إلخ.

وكانت هذه الرسالة موجهة إلى المفوض السامي الجديد في مصر، ريجنالدوينغيت، وتقول: "إنني لأرى بشدة أن اللجنة العربية بالقاهرة تحسن صنعا إن صممت واستقرت على علم أو شارةٍ ما يتم رفعها كلما رفعت أعلامنا في المناطق "أ" و "ب". لا ينبغي لهذا العلم أن يكون مطابقا لعلم الشريف؛ بل يجب أن يوحي بفدرالية عربية، ويكون في الوسع تسميته بعلم العرب المتحدين. إن لم يكن من مقترح أفضل فإني أرفق طيه بعض الرسوم، والألوان تمثل الممالك العربية: العباسية بالأسود، الأموية بالأبيض، العلوية بالأخضر، والشريف ومعظم شيوخ جنوب شرق الجزيرة بالأحمر".

وختم رسالته بالعبارة التالية: "لقد اضطرتني الساعة لأتوقف عن الكتابة. أرجو أن تغفر لي هذه الخربشة السريعة. أعتذر بشدة عن الطبيعة العجولة لهذه الرسالة، لكني لم أملك أكثر من 25 دقيقة لإنجازها بما فيها الرسوم".

وكانت رسوم سايكس هي جل الأعلام العربية الحالية.

(المصدر: موقع "صناعة الوعي")

أما النشيد الياباني الذي وضع سنة 1880 فكان أبياتا من قصيدة قيلت قبل ذلك بألف (1000) عام؛ أي سنة 794 ميلادية."

تصنيف: 

دخول المستخدم