تابعت هذا المساء تسجيلين لبرنامجين تلفزيونيين : الأول على قناة "المرابطون" وكان ضيفه السيتناتور محمد ولد غده.. والثاني مع الإعلامي سيدأحمد ولد التباخ على "قناة الساحل". تناول الرجلان في حديثيهما موضوع التسريبات المتعلقة بولد غده التي تطغي الآن على الساحة الإعلامية وتسمم كثيرا المشهد السياسي الوطني.. واتفقا على إدانة هذه التسريبات كمبدإ عام رغم اختلافهما حول مضامينها التي تعرضا لها من زوايا متباينة تماما.
وكنت أتابع الملف بشيء من الاهتمام منذ أيام لدرجة أني أبديت رأيي حول جانب تلك التسريبات المتعلق بالتمويل السري للنشاطات السياسية مبينا أن هذا النوع من الممارسات غير مقبول. ثم تساءلت بعد ذلك عن اشكالية انتهاك مبدإ سرية الاقتراع خلال تصويت الشيوخ على التعديلات الدستورية. وترسخت هذه القناعة والشكوك مرة أخرى لدي هذا المساء ملاحظا أن المتدخلين لم يتحدثا عن هذين الجانبين إلا قليلا. لكنني لن أعود إليهما من جديد. فاهتمامي انصب على التأمل فيما اتفق عليه الخصمان لأثير تساؤلات يظهر من ورائها تباين في الرأي بيني وبينهما:
هل هذه التسريبات المشار إليها سابقا مدانة حتما، وإلا فأين موقع الخلل الأخلاقي في الموضوع؟
السؤال يتضمن جانبين : أحدهما يتعلق بالطرق المستخدمة، والثاني بمضمون المعلومات المسربة.
حول الشق الأول، يؤكد ولد غده بأن النظام هو من يقف وراء التسريبات ويتهمه بالتصنت على هاتفه. إن كان هذا الخبر صحيحا فإن العملية مدانة كما قال المعني؛ علما أن التصنت في هذه الحالة ممنوع قانونيا، حيث لا يجوز فعله إلا بقرار قضائي.
وإن حصلت الدولة بطرق شرعية - كالتنصت أوغيره- على معلومات عن طريق أجهزتها الاستخباراتية، فلا ينبغي لها تسريبها إلا إذا استدعت الضرورة الأمنية ذلك. ولا نرى أن هذا الشرط الأمني يتوفر هو الآخر بالضرورة في المعلومات التي تم تسريبها. غير أنه لحد الآن ليس لدينا مؤشر موثوق يدل على أن السلطات العمومية هي من يقف حقا وراء عملية التجسس الألكتروني وعملية التسريب المنبثقة عنها.
أما أن تكون جهات أخرى غير حكومية قد ىحصلت على معلومات سرية تتعلق بالشأن العام، وهذا يدخلنا في الشق الثاني من السؤال- فلا شيء يمنعها إطلاقا من نشرها اللهم إن كانت المعلومات مصانة قانونيا. وهذا الشرط يتوفر تماما في أقوال ولد غده التي تم تسريبها : إنها معلومات صحفية بالمعنى الكامل للعبارة ولا شيء يمنع نشرها. فخلافا لما يدعيه هو وبعض حلفائه السياسيين مثل جميل منصور وغيره، فإن التسجيلات التي تم تسريبها لحد الآن لا تتعلق بقضايا خصوصية. بل على العكس فهي كلها تتناول الأوضاع السياسية في البلد، وخاصة عملية تصويت مجلس الشيوخ الماضية على مشروع التعديلات الدستورية.. وفي نفس السياق فإنها تتناول كذلك العلاقات بين الرافضين للتعديلات الدستورية وأساليب ووسائل التعامل بينهم وتسيير هذا الملف من طرف زعاماتهم التي يبدو أن ولد غده كان فاعلا رئيسيا فيها، وكذلك دور ولد غده في هذا الصدد كوسيط بين المعارضة الرافضة ورجل الأعمال القاطن في الخارج والمعارض محمد ولد بوعماتو المتهم من طرف النظام وانصاره على ضوء ما كشفته هذه التسريبات بأنه الممول الرئيسي لتذمر الشيوخ الرافضين للتعديلات الدستورية.
ونلاحظ أن السيناتور ولد غده نفسه قدم تسريبات هذا المساء قائلا أنه يفعل ذلك استباقا لتسريبات مقبلة تتعلق به يتهم النظام بالإقدام عليها مستقبلا. وذكر في هذا الصدد أسماء اشخاص قال أنه اغتابهم وطلب منهم المعذرة ، هم : جميل ولد منصور، موسى فال، سيناتور اكجوجت، محمد سيد احمد ولد محمد الامين. وبرر اغتيابه لهم معتبرا أنه يحق له قول ما قاله عنهم، لأنه حينها كان وحيدا في بيته وبمفرده. مما يطرح تساؤلات مثل : في حديثه المسجل عن هؤلاء، هل كان السيناتور يتحدث لنفسه - أي وحده كما قال- أم أنه كان يرسل رسالة إلى طرف آخر، حيث سيسمع ذلك الطرف الآخر اغتيابه للقوم الذين ذكرهم؟ وهل وجود المرء على انفراد تام يجيز له اغتياب أو شتم الآخرين؟
وبعد هذه الملاحظة العابرة، نذَكِّر في الختام بأنه لولا التسريبات التي تظهر يوميا في الدول الديمقراطية والمتحضرة، لما حصلت الصحافة في تلك البلدان على قوتها وهبتها التين جعلتا منها سلطة رابعة تباهي السلط الدستورية الثلاث المعروفة : السلطة القضائية – السلطة التنفيدية – السلطة التشريعية. لذلك اعتقد أنه لا ينبغي التسرع في الحكم على البعد الأخلاقي لعملييات التسريب في بلادنا. فهي مبررة أو غير مبررة حسب المعلومات السرية التي تكشفها: إن كانت هذه المعلومات تتعلق بالشأن العام، ولا تضر بأمن البلد، فلا مانع من نشرها، بل إن التسريب مرغوب فيه في هذه الحالة. وهذا ما ينطبق حسب رأينا على تسجيلات السيناتور محمد ولد غده وما تثيره من جدل في مجال الأخلاق السياسية رغم أن السؤال يبقى مطروحا حول الشكوك المثارة حول الطريقة التي تم بواسطتها الحصول على المعلومات المسربة. وعلى خلاف هذا النوع من التسريبات المبررة تماما، فينبغي الكف عن نشر ما يعني الحياة الخصوصية ـ كالحياة والقضايا الأسرية والأمور الشخصية مثلا . وقد لاحظنا مع الأسف عدم تقيد بعض وسائلنا الإعلامية وبعض الصحافة الدولية بهذا الجانب ظنا منها أن انتهاك ما يتعلق بالحياة الخصوصية للمسؤولين السياسيين مباح. وهذا خطأ فادح.
البخاري محمد مؤمل
تصنيف: