كم من مرة دخلت في حوار مع ذاتي حول أكثر من قضية: في أمور الحياة اليومية، في المسائل المهنية، في قضايا أخرى لا يمكنني حصرها ولا حتي تصنيفها ..من أهمها ما يتعلق بهواياتي وميولي الفكرية و الترفيهية .. مثل : بعض أوجه الموروث الثقافي الذي رضعته من ثدي الأوساط التي تربيت فيها، و كذلك من المحيط الذي أعيش فيه.
هكذا كنت أتساءل عن شعرنا العربي و مواءمته للعصر..إذ كثيرا ما وجدت نفسي في حيرة من أمره: شكله “الهندسي” ـ كما صنفته نازك الملائكة منذ عقود عديدة ـ أراه أحيانا مقيدا للشاعر و للقارئ معا، يفرض عليهما إتباع و تقبل قوالب قافية وعروضية قد تمنع و تسجن .. ورغم ذلك يبقي دائما له رنين جميل في أذني، خاصة لما يتغنى به المرء بصوت عال، أو لما ينشده المطربون: إحساسي قوي بموسيقاه الخارجية.
ولدي شعور يشوبه غموض بأن مضامينه هي الأخرى تغيرت وتنوعت لمسايرة التطور.. لكنني بقيت مولعا بأن تصبح مرآة أكثر جرءة في التعبير عن ما يتصدر عصر العولمة: القضايا المجتمعاتية، الأشياء الحميمة، الإحساسات و الخلجات الباطنية التي لا يمكن إبرازها تبعا للأنماط التوافقية في التعبير حيث أن لكل منا قراءته لها. ولا يجوز لشاعر محترم أن يحرمنا من هذه الحرية ـ حرية الشعور بالأشياء التي يريد هو أن يعبر عنها: فهي أحاسيس شخصية تشكل معيار الذوق لديه و أساس التذوق عندنا نحن.
بعبارة أخرى ينبغي لنا أن نلقى في نتاجه ضالتنا التي نبتغي نحن وليس فقط ما يحصر عقل المتلقي و يحجزه في حدود “الرسالة” التي أراد المؤلف “تبليغها” , لأن العالم تجاوز عصر “الشاعر المربي و قدسيته” و”القارئ التلميذ و سذاجته”: فلسفة التلقين و امتلاك “الحقيقة المعيارية” ولى عهدهما.
كان هذا الامتعاض ينتابني كثيرا لما أقرء أو اسمع شعرا. أما الآن فإني أظنني عثرت على ضالتي، أي علي نموذج من القصيدة أو المقطوعة، التي لا تلزم القارئ أن يبتلع الأفكار والمعاني أو القوالب التي أراد له المؤلف أن ينقلها عنه.
العينة التي بين أيدينا لشاعر سماها: ” قصيدة الزمن و الدم”. لكنني أنا لا أقبل بهذا العنوان.. و أقول له: لا ! هي: رحيل.
لماذا الرحيل و إلى أين؟ لست أدري.. ولا الشاعر يعرف، حسب ظني.
لأن بدّي ولد إبنو لا يبدو لي من أولئك الأدباء الذين يرسمون طرقا “معبدة” لأنفسهم أولا، ثم يلزمون الناس بالمشي على خطاهم.. وكأن هؤلاء تائهون .. لا معالم لهم يهتدون بها غير ما ينتجه ذلك الشاعر المغرور بنفسه ويفرض عليهم تلقيه وابتلاعه.
“فمظاهر” النص، هي، و الروابط الميكانيكية لكلماته و لبنيته، تكون في هذه الحالة هي وحدها ما يهم : لا إيحاءات ..لا خيال.. لا معاني ولا صور سوى ما ترمي لنا به قشور الكلمات و تراكمها.
ليس لي بالدكتور بدي ولد ابنو أي سابق معرفة..و رغم ذلك، أجزم بأنه ليس من أنصار “أدلجة” الشعر..بل أظنه أيضا ضد “أدلجة” الفكر.
فكلنا نعرف أن “الأدلجة” أضحت اليوم نوعا من الجمود لا يقبل سواه.. بل يئد كل قول او فعل حاول الخروج عن المألوف و المفاهيم النمطية حتى و إن كانت متآكلة.
و بالعودة في هذا الصدد للنص الذي أتحدث عنه، أأكد أنه لو كان الأمر كذلك، لاستحال علي ـ مثلا ـ أن أتصور هنا احتمال جعل “رحيل” مكان “قصيدة الزمن و الدم”.
لكن هذا تصوري أنا. “فلكم دينكم و لي ديني”، كما للشاعر بدّي ولد إبنو ميزة الإبداع و لي حرية التأويل.
شكرا له على عدم سلبي هذا الحق.. بل إن قصيدته تترك باب التصور مفتوحا على مصراعيه: خيال واسع جدير بالذكر.. أردت أن أنوه به من خلال هذه الكلمة التي ألهمتني قراءتي لنصه: ” قصيدة الزمن و الدم”.. فهي رحيل لا حد له: لا في الزمان، لا في المكان، لا في الأشياء…
فالشاعر ينقلنا معه في سفره الطويل بعيدا.. بعيدا.. بعيدا…
إلى أين؟
لكل واحد منا إجابته.
بيكين، اكتوبر 2014
البخاري محمد مؤمل
تصنيف: